الحزام... رواية تختزل الجزيرة العربية

الحزام... رواية تختزل الجزيرة العربية

من المكتبة الأجنبية

تأليف: أحمد أبودهمان

يختزل الكاتب السعودي أحمد أبودهمان في روايته (الحزام) الصادرة باللغة الفرنسية عن دار (غاليمار), عبر سيرته الذاتية التي ينشرها على مدى 140 صفحة, سيرة جماعية, يرتسم الأشخاص خلالها وفيها, كما أشخاص الأساطير الإغريقية بمعنى الرموز التي تعبّر عن الواقع, أو عن المثال الذي يتحرك الواقع من خلاله.

رواية (الحزام) التي شغلت الوسط الأدبيّ الفرنسيّ وأجهزة الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية, تصدر الآن في باريس في طبعة تاسعة. وستصدر - قريباً - باللغة الإنجليزية في نيويورك, لتوزّع وتباع في الولايات المتحدة الأمريكية, وتلامس حساسية أخرى من القرّاء الذين ينتمون إلى الأنجلوفونية, ثم ستصدر باللغتين الهولندية والألمانية, في الوقت الذي تجري فيه محادثات مع دار (غاليمار) والمؤلف لترجمتها إلى الإسبانية, بعد أن صدرت باللغة العربية عن دار الساقي.

وعلى الصعيد السينمائي, انتزعت دار (غاليمار) السباق من الأمريكيين لإنتاجها سينمائياً في فرنسا, وبذلك اكتمل حضور الكاتب السعودي الشاب, في الثقافة الفرنكوفونية المعاصرة, عبر الكلمة والصورة, والذي يعمل في كتابة الجزء الثاني الذي سيصدر عن دار النشر نفسها, من دون أن يكشف عن أحداثه وشخصياته, هذا فضلاً عن أنه أنهى كتابة عشر قصص للأطفال, ستصدر في باريس في نوفمبر عن دار (غاليمار) أيضاً.

يصعب في رواية (الحزام) التفريق بين الخيال والواقع, كما في تغريبة بني هلال وأساطير الإغريق. ففي هذه الرواية يعيد أبو دهمان كتابة قريته, مختصراً الجزيرة العربية بتاريخها وملامحها وتكوّنها الجغرافي.

مجتمع الرواية

من خلال القرية (آل خلف) المختلفة عن أي قرية, يبدو العالم مختلفاً, وناس القرية مختلفين, ومن تكوّن هذا الاختلاف الجغرافي للقرية ووجودها, ولحركة السكان وعلاقاتهم الإنسانية بعضهم ببعض, تتجمّع العناصر الأسطورية التي تحبك الرواية, فناس القرية يتجاوزون الناس المألوفين, إلى عالم العجب والغرابة, حيث تنساب الأحداث أو تشتبك وتنفكّ بشفافية شعرية مطلقة.

بما يشبه البراءة والدهشة يكاشفنا أبو دهمان بقصة قريته وناسها راوياً عبر والدته التي هي إحدى الشخصيات الرئيسية في الرواية, بأن قريـته (آل خلف) ( فريدة في الوجود, مثل الشمس والقمر. وهي أغنية كلماتها فراشات, بل هي أبهى وأجمل ألواناً وأجنحة وطيراناً, ما يجعلها أقرب إلى السماء, لتضيء الأرض).

(كلّنا شعراء) تقول الأم لابنها أحمد أبودهمان (الأم شاعرة - والأشجار, والنبات, والأزهار والصخور, والماء شاعر, وأنت حين تصغي إلى الأشياء تسمعها تغني).

إذن - من والدته وقريته استمد أحمد أبو دهمان شاعريته, وهو يكتب بالفصحى والعاميّة, وربما انحاز أحمد الشاعر في قصائده إلى لهجة قريته ووطنه أكثر من انحيازه إلى الفصحى.

فالشعر والأسطورة مداران في مدارات رواية (الحزام), والشعر هو الذي يجعل كاتباً روائياً شابّاً يلتقط اللحظة الإنسانية, عبر الإشارات والإيماءات, ويحمله على اقتحام أعماقها وسبر مكامنها المخبوءة.

الشعر والغناء - والكاتب أبو دهمان يغني أيضاً, ووالدته لا تكفّ عن تذكيره بأن قريته في تكوّنها الأولي كانت أغنية - هما اللذان يجعلان لغة الرواية مزخرفة بالحلم والجمال والشفافية, فالكاتب يفاجئ اللغة الفرنسية من داخلها, فيضيء ويومض لحظة, ويسرد في لحظات أخرى, من دون أن يفقد في أي لحظة من اللحظات, شكل الإضاءات والومضات الشاعرية.

وكما في (تغريبة بني هلال) - أو كما لدى الروائيين الكبار, وأشير إلى الكاتب الفرنسي سانت إكزبيري صاحب كتاب (الأمير الصغير) الذي تُرجم إلى لغات الأرض المختلفة, بما فيها اللغة العربية, وكازنتزاكي اليوناني صاحب رواية (زوربا) التي تحوّلت إلى فيلم, ولعب فيها إلى جانب ايرين باباس أنطوني كوين دور (زوربا) - كما لدى هذين الكاتبين تتوالد الأحداث من بعضها.

وتتراءى لوحات شعرية ومشاهد إنسانية مدهشة, هكذا أبودهمان في روايته (الحزام) يروي عن نفسه وعن قريته, ويروي من خلال نفسه قريته, عائلته والآخرين وعلاقاتهم بالقرية وجغرافيتها الجبلية ونظرتهم إلى العالم, ولعلّ حزام ابن القرية المتشبث بترابها وناسها, والذي يستعير أبودهمان اسمه عنواناً للرواية. هو الحكاية أو حكايات القرية.

عبق الأصالة

مثل الكاتب الراوي, حاضر في الأحداث, في افتتاح الرواية وفي غلقها, وهو الشخصية المركزية التي يعترف الراوي برؤيته العالم من خلالها, كما من خلال والدته التي تمثل القيم كلّها مجتمعة.

في الفصل الأخير من الرواية يخبرنا الراوي بأن حزام الشخصية المركزية في كتابه, يفاجئه المرض ويحاصره الموت. و (مرض حزام مرض قريته أيضاً) كما يقول حزام للكاتب الراوي. وهو كلام عن نهاية حقبة من التاريخ والجغرافيا, فالتراجيديا تتجسّد في سؤال حزام الكاتب الذي انتهى من روايته التي ستطبع في باريس, عما إذا كان هذا الكاتب الشاب قد باع قريته أيضاً في فرنسا.

وفي جواب الكاتب الذي يردّ على حزام قائلاً: (مَن يبيع روحه?), تتجسّد وتتكامل عناصر التراجيديا, ولو أن الحوار التراجيديّ يقف عند هذه الحدود لهان الأمر, لكنّ حزام يردّ على الكاتب عندما يبلغه الأخير أنه سيصل إلى المستشفى حاملاً معه رواية (الحزام):

- لا تأت. أرسل كتابك. وأنا سأترك لك حزامي وسكيني.

ويرث الكاتب الحزام والسكين اللذين يعلّقهما إلى جانب صورة والده في باريس.

وهكذا تحضر نهاية القرية المأساوية, لدى انتهاء المؤلف من كتابة روايته, فمرض حزام وتوريثه الكاتب الحزام والسكين, هو مرض ماض وتوريث ماض, والموت هنا, فرديّ وجماعي, موت حزام هو موت القرية التي كانت تموت بطيئاً على إيقاع هجرة الممرضات الباكستانيات والمصريات إلى القرية نفسها, وهجرة أطفال القرية إلى المدينة للتعلم, ومن المدينة إلى العالم الذي كان يجسّده حزام في القرية.

وهذه القرية في رواية (الحزام) لا تنهض من موتها, إلا عبر الكلمات والناس والشعر والأحداث, فالكاتب نفسه في الرواية طفل مات, وهو يستعيد ولادته موته بالكلمات, ويستعيد موت قريته بروايتها عبر حزام.

ماذا بقي من القرية? لم يبق غير الرموز: الراوي, حزام, الأم, والقرية النائمة في الذاكرة, والتي عاشت من دون أسرار وحكايات مخبّأة, القرية التي يصعد المطر فيها إلى السماء, على غير الأمطار التي تنزل إلى الأرض في البقاع الأخرى.

متحف متنقل

فتح الكاتب السعودي أحمد أبودهمان, روايته بالتعريف بنفسه, مشيراً إلى تحدّره من القحطانيين, بعد أن يكون قد أخبرنا أنه ابن فلان, من فلان وفلان... إلخ, وصولا إلى قحطان حيث يعتزّ بهذا الانتماء, ومنه إلى آدم أبي البشر, فجذور العائلة تمتد إلى ما قبل التاريخ, وبهذا المعنى, يتحوّل الكاتب إلى متحف تاريخي متنقل, وهذا المتحف التاريخي القادم من الجزيرة العربية, هو الآن في باريس, على مشارف الألف الثالث, يكتب باللغة الفرنسية ويروي... ويرى إلى بلاده وقريته من العاصمة الفرنسية, وباللغة الفرنسية, وهو بهذه الرواية أول كاتب سعودي يقتحم معاقل الفرنكوفونية, ويثبت فيها, مؤلفاً متميزاً, مضيفاً إليها غنيً وافداً من الجزيرة العربية, لم تألفه الفرنسية ولم تعرفه من قبل, وكان قد سبقه إلى اللغة الفرنسية كتّاب لبنانيون ومصريون وجزائريون ومغاربة مثل جورج شحادة, جورج حنين, أندريه شديد, فينوس خوري غاتا, الطاهر بن جلّون, أمين معلوف, محمد أركون وصلاح ستيتيه وآخرين.

فردوس ضائع آخر

بين افتتاح الرواية بالتعريف بالكاتب الراوي بنفسه, وبين غلقها بمرض حزام وموته, تحرّكت الأحداث في القرية التي تقارب الفردوس, ويحاول الكاتب عبر الكتابة, مقتحماً لغة ايلوار وأراغون وفاليري, الاشتراك في إعادة تأسيس العالم, عبر ما يحمله من قيم ومثل وصور جاء بها من الجزيرة العربية, علّه يستعيد فردوسه الضائع - قريته - في باريس المدينة التي تختصر العصر والحداثة بما يعتمل في داخلها, وبما يحدث فيها من تحوّلات علمية وفكرية واجتماعية.

لا يُخفي أبو دهمان سرّاً, وهو ابن قرية من دون أسرار, فهو يقول إنه أعاد كتابة رواية (الحزام) لتصدر باللغة العربية عن دار الساقي, وستكون مختلفة قليلاً عن (الحزام) باللغة الفرنسية, لكون اللغتين مختلفتين, مضيفاً قوله إنه لن يعيد تجربة إعادة الكتابة في المستقبل. فكما أنت لا تضع قدمك في مياه النهر نفسها, لأن مياهاً تتجدد دائماً, كذلك هي الكتابة, فلحظة الكشف الأولى, لا تُستعاد ولا تتكرر, فأسلوب التشكّل في الكتابة باللغة العربية, غير أسلوب التشكّل بالكتابة في الفرنسية.

في أيّ حال يمثّل أحمد أبودهمان الكاتب السعودي الشاب ظاهرة أدبية في فرنسا, وتتجلّى هذه الظاهرة في احتفاء دار (غاليمار) به وبإنتاجه الأدبي, وهو حتى الآن محطّ أنظار النقّاد والقرّاء على اختلاف اتجاهاتهم وانتماءاتهم الاجتماعية والسياسية... والإنسانية.

 

فوزي الشلق

 
 




أحمد أبودهمان





غلاف الكتاب