أثر ألف ليلة وليلة على المسرح العربي رياض عصمت

كانت "ألف ليلة وليلة" دائما منبعا رئيسيا للإلهام، بحيث قاربها عديد من الكتاب العرب البارزين من مختلف الأجيال. وانعكس تأثير الكتاب الأسطوري بوجه خاص على المسرح، منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى الآن.

كان أبوخليل القباني أول مسرحي نعرفه ممن حاولوا الإفادة من ذلك الكنز الحافل بالخيال والفكاهة والجنس والمغامرة والقسوة. ورغم أن الشيخ القباني عمد إلى اختيار حبكاته الدرامية بصورة تراعي المفاهيم الرقابية السائدة، وتتلاءم مع أدواته التقنية المحدودة، إلا أن مجرد استلهامه لحكايات الحب وتصويره شخصيات تاريخية معروفة جلب له نقمة المتطرفين الذين رفعوا العرائض ضده إلى السلطات العثمانية وعجلوا بتهجيره من الشام إلى مصر، حيث كانت سطوة الرقابة أقل، وأفق الإبداع أرحب. وليست لدينا، بالطبع، وثائق مصورة أو مسموعة توضح لنا بدقة طبيعة عروض القباني المسرحية. إن ما لدينا لا يتعدى بعض النصوص ذات السمات الجمالية والدرامية المتشابهة، والتي تحوي قدرا من الألحان والغناء. اتسمت مسرحيات القباني بمعالجات مبسطة لحكايات "ألف ليلة وليلة" دون إضفاء تفسيرات وأبعاد فكرية عليها. لذلك، فإن العنصر الميلودرامي كان أكثر العناصر الفنية هيمنة على تلك النصوص أما لغة القباني فكانت حافلة بالسجع والاستعارات اللفظية والصور البيانية والنزعة البلاغية الإنشائية. ويمكننا القول إن الغنائية هي السائدة في تلك النصوص - ولا نعني بهذا الغناء فحسب، بقدر ما نعني الرومانسية وتصوير الشخصيات بلونين فقط هما الأسود والأبيض. كان القباني مغرما بأداء دور الخليفة هارون الرشيد والشخصيات ذات البعد التراجيدي في ملاهيه المغناة والتزم كمؤلف بالخط الأساسي لكل حكاية عالجها. هناك نموذج مثالي لمسرحيات القباني استلهمه الكاتب المسرحي السوري المعاصر سعد الله ونوس في مسرحية عن حياة رائد المسرح العربي وكفاحه. إنها حكاية الرشيد وجاريته قوت القلوب. تدور القصة حول عجوز شريرة تخدر جارية الخليفة المفضلة وتدفنها في صندوق يلقى به في مغارة نائية. وفي المغارة يعثر شاب على قوت القلوب وينقذها، وما يلبث الاثنان أن يقع كل منهما في غرام الآخر. لكن الشاب لم يكد يعلم بحب خليفته الشديد لقوت القلوب وفجيعته بها، حتى يبادر بإعادتها إليه كما يملي الواجب.

عندما يدرك الخليفة حقيقة حبهما ووفائهما له، يكافئهما بأن يزوج كلا منهما للآخر. ولكن سلسلة من المفارقات تتعاقب، فإذا بالشاب يكتشف لنفسه أصلا نبيلا وثروة، في حين تلفت أنظار الخليفة أخت الشاب نفسه. وهكذا، تسود الخاتمة بهجة وفرح.

يصعب تقويم مسرح الشيخ أبو خليل القباني من خلال مفاهيم أوربية محضة، على الرغم من تأثره وأقرانه بالمسرح الأوربي. إن ميزة القباني، التي يفتقدها الكثير من كتاب ومخرجي المسرح العربي اليوم، هي أنه قدم مسرحا شعبيا، استلهم قصصه من التراث السردي العربي، وبنى تكنيكه على المتن الحكائي الشرقي، فحقق طرازا احتفاليا، له خصوصيته وتفرده وأخلاقياته وجمالياته، وذلك على الرغم من بعض سمات السذاجة التي فيه. ولا أعتقد أن القباني نفسه كان واعيا تمام الوعي لآفاق ما ابتدعه من شكل مسرحي. فتارة، نجده سرديا ملحميا تغريبيا (حسب مفاهيمنا هذه الأيام،) وتارة أخرى، نجده تقليديا في بناء مسرحياته. ولم يكن ثمة ماض مسرحي، ولا تقاليد حضور للمسرح، كي يستند القباني إليهما في عمله. ولم يكن ثمة نقد يمكن له الاستفادة منه لتطوير عمله وتوجيه مسار تجاربه البدائية الموهوبة. بل كانت هناك رقابة قاسية، فضلا عن مشاكل الإنتاج والإدارة والإخراج والتمثيل والعنصر النسائي. وبغض النظر عن الثقافة المسرحية، اتبع القباني نهج المسرحيين العظام (كشكسبير وموليير) في استحداث فن مسرحي من التجربة العملية. وبما أن خبرات القباني لم تكن تتعدى " خيال الظل"، إضافة إلى الغناء والتلحين، فقد أطلق على المسرح اسم " فن الكوميضا". فهل كتب القباني وأخرج في مجال الكوميديا؟ وهل كانت نظرية الأجناس معروفة لديه؟

يصعب كثيرا توصيف مسرحيات القباني وتحديد ما إذا كانت مأساوية أم ملهاوية، أم ربما عبثية. وبنظرة ناقدة سريعة، نلاحظ أن ما قصد به التأثير المحزن في أيام القباني لا يترك سوى تأثير مضحك فينا الآن. فمن حيث الحبكة تبدو لنا نصوص أبو خليل القباني ذات تطور عرضي وسطحي، مثل حكاية خيالية. وتبدو لنا دوافع الشخصيات للفعل ضعيفة، وردود فعلها مفاجئة ومتبدلة، في حين أن حكم المؤلف عليها ثابت ومسبق، لا يترك مجالا لإقناع أو لتصديق. أما نهايات مسرحيات القباني فتحفل بالمصادفات ذات الأثر الفكه على جمهورنا المعاصر، مثل مسرحيات فكتور هوغو الرومانسية. وعلى سبيل المثال، نلاحظ في المسرحية التي عرضناها أن الخليفة لا يتحقق من موت جاريته الحبيبة، بل يأخذ بكلام العجوز الشمطاء، دون أن يسأل أين دفنت؟. بدلا من ذلك، نجده يركع باكيا فوق تابوت فارغ وهو يرثيها في خطاب بليغ. ولا غرابة، فالقباني نفسه كان مغرما بأداء تلك المواقف التراجيدية، تماما كما يزين النجم الكوميدي دوره في أيامنا بالنكات لينال التصفيق. ونمط مسرحيات أبوخليل القباني، بالتالي، نمط يصعب تحديده: فتارة يبدو ميلودراميا، وأخرى ملهاويا، وثالثة غنائيا. ولكن، من الجدير بالذكر أن آراء معادية ومتطرفة في ذلك العصر كانت تعترض على تصوير شخصيات تاريخية رفيعة الشأن - مثل هارون الرشيد - بصورة تحط من شأنها. كما اعترض خصوم القباني على أن الذكور في مسرحه كانوا يؤدون أدوار الإناث، رغم أن اعتراضهم على ظهور الإناث أكبر. واتخذت هذه الأسباب ذريعة لمنع القباني من التمثيل وإغلاق مسرحه، الأمر الذي دفعه إلى الهجرة إلى مصر، حيث هامش الحرية والديمقراطية أرحب.

ألفريد فرج وليال عربية غربية

لعب الكاتب المصري المعاصر ألفريد فرج، بلا ريب، دورا مهما للغاية في تحديث استلهام " ألف ليلة وليلة " مسرحيا. إنه مؤلف واسع الثقافة والاطلاع على المسرح الأوربي. وفي بعض مسرحياته الجادة- مثل "الزير سالم "- إفادات واضحة من سوفوكليس وشكسبير. لكن فرج اختار في اقتباساته عن الأثر العربي القديم نمط الكوميديا، وكان ذلك اختيارا حكيما، بل لا يخلو من الدهاء والخبرة، بحيث فاق أية مقاربات في المرحلة الوسيطة بينه وبين القباني وباقي رواد المسرح العربي.

كتب ألفريد فرج في بداياته مسرحيتين طريفتين أطلق عليهما معا عنوان " حلاق بغداد ". ورغم أن أصل الحكايتين عربي ومستلهم من " ألف ليلة وليلة"، إلا أن تأثير "زواج فيغارو" و "حلاق أشبيلية" فيهما واضح جدا. والواقع أن فرج لا ينكر ذلك، فقد اتجه سعيه منذ البداية إلى محاولة بلورة مصطلحات المسرح الكبرى في قالب ومضمون عربيين. وكانت تلك القاعدة مبشرة بمعمار عظيم، مالبث أن أطل في سنوات لاحقة من خلال "علي جناح التبريزي وتابعه قفة". وفي حين تم إحياء "حلاق بغداد" في الأردن قبل بضع سنوات، تم أخيرا في مصر إحياء " التبريزي وقفة".

تدور المسرحية حول أمير أسطوري حالم يدعى علي جناح، وتابعه الواقعي الفقير قفة. وتتمحور أحداثها حول مغامرة لهما تشبه مغامرات أهل الكدية في المقامات القديمة. مرة أخرى، قد يقول قائل: إن هناك تأثرا بدون كيخوته وسانشو بانزا. ولكن فرج استطاع أن يكسب بناءه المسرحي، على أية حال، بعض الخصوصية العربية دون كثير من التنظير الشائع. وحكاية الأمير العائش في دنيا الأوهام وتابعه الساذج ليست في حقيقة الأمر قصة معينة من "ألف ليلة وليلة"، بل نلحظ أن أجواءها مستوحاة من ذلك الكتاب العريق. ورغم أن المسرحية تنتمي إلى "الكوميديا" نمطا، إلا أنها غنية بالأبعاد الفلسفية والشاعرية. ومن المشاهد التي لا تنسى مشهد دعوة علي جناح المفلس قفة الجائع إلى وليمة وهمية، يتعامل فيها مع أطباق الطعام إيمائيا، ويتلذذ بمذاقها، فيضطر قفة المسكين إلى مجاراته في أكل وشرب الهواء. وما يلبث الحلم بالغنى والمغامرة أن يقود الرجلين إلى رحلة تصل بهما إلى مدينة غريبة نائية. ويخدع على جناح تجار المدينة بوصفه ثريا ينتظر قافلة كبيرة محملة بالبضائع، فيغدقون عليه النعم والعطايا والنفاق، ثم يتشككون فيأسرونه. ولكن ألفريد فرج يختتم عمله الكوميدي الرائع بأن تأتي القافلة، لأن الأحلام تتحق إذا آمن بها الإنسان بقوة، وهكذا ينقذ علي جناح وتابعه من الموت، ويخرج الجمهور من المسرح مفتونا بقدرة الحلم على تحقيق المعجزات.

"علي جناح التبريزي وتابعه قفة" مسرحية مستوحاة من مغامرات أولئك النبلاء المفلسين الذين يزخر بهم الأدب الإسباني والمقامات، وقبلهما "ألف ليلة وليلة". إنهم أبطال يقاتلون الفوارق الاجتماعية ويسخرون من الأثرياء المنافقين والجشعين عن طريق الكدية، ومن مال الموسرين يطعمون المعوزين.

محفوظ عبدالرحمن والكوميديا العربية

أقام الكاتب المسرحي المصري محفوظ عبدالرحمن فترة طويلة في الكويت، وارتبطت إنجازاته التأليفية بإنجازات ألمع مخرجي الكويت: الراحل صقر الرشود الذي قتل في حادث سيارة وهو في ذروة العطاء. واعتمد محفوظ عبدالرحمن على "ألف ليلة وليلة" في استلهام موضوعات مسرحياته الكوميدية الناجحة.

مثل ألفريد فرج، نلاحظ أن المسرحية عند محفوظ عبدالرحمن تعتمد على بناء ثنائي في مرحلتين، بحيث تشكل كل مرحلة وحدة كاملة متكاملة. كما نلاحظ أن بعض الإسراف في التفاصيل، والإسراف في الحوار، يشوبان مسرحياته، ولا نجد في أفعال تلك المسرحيات مبررا، وإنما يبدو أن متعة اللفظة تستهوي عبد الرحمن، فيسعى وراء تحقيق الفكاهة والقفشات. وخير مثال نتوقف عنده بين مسرحياته هو "حفلة على الخازوق".

"حفلة على الخازوق" هي "دقة بدقة" الشكسبيرية وقد عربت، واستبدلت بجديتها تركيبة كوميدية رائعة. بطلة المسرحية امرأة جميلة تسعى لإطلاق سراح. زوجها من السجن عن طريق إغواء أولئك الذين في السلطة، حاملين لواء العدل والفضيلة. ولعل المرأة لاتغويهم بقدر ما تدرك مراميهم الخبيثة، فتنصب لهم فخا مثيرا لتفضحهم أمام عيني السلطان. وتضرب لهم المرأة جميعا نفس الموعد في بيتها، فيأتي كل من رئيس الوزراء، والمحتسب، ومدير الشرطة، وهو يمني النفس بليلة حمراء. لكنها تزج بهم، الواحد تلو الآخر، في خزانة ذات دروج كلما قرع الباب، وتسجن في الدرج الأعلى النجار الذي صنع لها الخزانة. وهكذا، يقلب محفوظ عبد الرحمن التركيب الطبقي فيجعل عاليه سافله، ويصل بالكوميديا العربية إلى ذروة من ذراها عندما يتبادل المسئولون الثلاثة والنجار حوارا فيما بينهم دون أن يعرفوا في البداية بعضهم بعضا، ثم عندما يوشك النجار المحبوس في الأعلى أن يبول. وتأتي المرأة بالسلطان ليرى بأم عينيه كيف يمارس أعوانه عدالتهم في غرف النوم، مانحين صكوك البراءة لسجين كانوا يدعون أنه متآمر على حياة ولاهم السلطان. ويمضي محفوظ عبدالرحمن في نقده السياسي غير المهادن في أنه يجعل معاون كل من رجال العدالة يؤدى من قبل نفس الممثل، وإذا به يظهر في دور معاون السلطان ويده اليمنى.

لا شك أن استلهام محفوظ عبد الرحمن لحبكات "ألف ليلة وليلة" موفق للغاية، بل يمزج الجانب النقدي الاجتماعي بالإسقاط السياسي. وجدير بالذكر أن هذا الكاتب المسرحي العربي ألف للتلفزيون عدة مسلسلات ناجحة، وخصوصا معالجته التقدمية لحياة ومغامرات "عنترة".

تجارب أخرى قديمة وجديدة

ليس أبوخليل القباني، ثم ألفريد فرج ومحفوظ عبد الرحمن أول المقتبسين ل: "ألف ليلة وليلة"، ولا آخرهم. ولكنهم برزوا من خلال تجسد مسرحياتهم على خشبات المسارح، في حين أن عددا من أعمال غيرهم من المؤلفين الأسبقين واللاحقين ظلت حبيسة بين دفات الكتب. فلغير هؤلاء، نجد تجارب وسطى ذات ريادة لتوفيق الحكيم وعلي أحمد باكثير. ولا شك أن الثاني منهما - أي باكثير - قد ظلم وغيب، فمسرحيته "سر شهر زاد" واحدة من أفضل الاقتباسات عن "ألف ليلة وليلة". وهناك، بالمقابل، عدد لا يستهان به من المؤلفين المسرحيين، وأحيانا المخرجين، من كل الأجيال قارب أصل الحكايات العربية وعالجها دراميا. من أولئك المحدثين - رغم أنهم جميعا أضحوا مخضرمين ومشهورين - كل من شوقي عبدالحكيم ويسري الجندي وأبوالعلا السلاموني من مصر، وسعد الله ونوس (مغامرة رأس المملوك جابر)، وممدوح عدوان (حكايا الملوك،) ورياض عصمت (لعبة الحب والثورة،) من سوريا.

ولكن كتابا مسرحيين معينين أوجدوا تنظيرات وتطبيقات عملية ذات طموح يهدف إلى خلق مسرح عربي الشكل أيضا، وليس فقط عربي المضمون غربي البناء. من بين هؤلاء محاولة توفيق الحكيم منذ ياطالع الشجرة" و "مصير صرصار"، ولكنها لم تمس حكايا "ألف ليلة وليلة"، بل اتجهت لموضوعات عبثية معاصرة. ثم هناك يوسف إدريس الذي طلع بأطروحته عن شكل "السامر"، وطبقها في "الفرافير". ولكن خير من تمثل نظرية إدريس في التطبيق العملي ليس هو نفسه، ولكن محمود دياب في مسرحيته الرائعة "ليالي الحصاد". ورغم أن بعض هؤلاء الذين نذكر لم يقاربوا كتاب "ألف ليلة وليلة" كموضوعات، إلا أن استلهامهم الأهم هو لبناء درامي ينتهج نهج سلسلة الحكايا على غراره. ونستطيع أن نضيف إلى هؤلاء بعض كتاب ومخرجي دول شمال إفريقيا العربية، مثل عز الدين المدني والطيب الصديقي، وكذلك أحد أبرز المسرحيين اليوم في منطقة الخليج، وهو عبدالرحمن المناعي. ولكن، دعونا نلق نظرة إجمالية عامة على تأثير "ألف ليلة وليلة" على المسرح العالمي، وبعض العروض الأجنبية التي اقتبست عنها على قدر ما أتيح لنا التعرف إليه. ثم اسمحوا لي بأن أتوقف قليلا عند تجربتي الشخصية كمؤلف مسرحي في معالجة بعض موضوعاتها في مسرحيتين، هما: "السندباد" و"ليالي شهريار"- وهذه الثانية منهما أخرجتها بنفسي عن نسخة النص الأصلي بالإنكليزية خلال تحضيري للماجستير في بريطانيا تحت عنوان "ليال عربية".

إن تأثير "ألف ليلة وليلة" على المؤلف المسرحي العربي هو مثل تأثير هولنشيد وبلوتارك على أعمال شكسبير. وهي أحد أقدم المصادر التراثية، الحافلة بالتنوع والغنى. وقد كانت محط إعجاب كثير من عمالقة الأدب الأوربي، مثل ستاندال وغوته. وفي نظري أنها تتميز عن الملاحم البطولية ( "عنترة" و"الزير سالم")، وعن المقامات، أما الناحية الجمالية البارزة اللافتة للنظر، فهي خاصية البناء الفني لحكايات "ألف ليلة وليلة"، التي يتوالد بعضها من بعض. ولكن مع الأسف، ليس لدينا كاتب في غزارة وعبقرية شكسبير.

لم تستنفد "الليالي العربية" - كما يسمونها في أوربا - إشعاعها، فما زالت تسليات أعياد الميلاد التي يطلقون عليها اسم "البانتومايم الإنكليزي" تستلهم منها المواضيع والشخصيات. ولكن أخيرا فقط ظهرت محاولات مسرحية أكثر جدية في تناول الكتاب، ونذكر منها عروض فرقة "التجربة المشتركة" The Shared Experience ومخرجها مايك ألفريدز. ورغم أنني لم أحظ بفرصة مشاهدة العرضين المختلفين لهذه الفرقة، ولا عرض مسرح "كلويد" للشباب، إلا أن ما قرأته عنها كان يشير إلى محاولتهما ليس كإعداد تأليفي، ولكن كأسلوب تمثيل وإخراج جديدين، يعتمدان على الجماليات التي يخلقها الممثلون بأجسادهم وبالخيال الذي يثيرونه، وسط فضاء مسرحي بسيط للغاية. لذلك، يمكن الاستنتاج تلقائيا أن اختيار فرقة "التجربة المشتركة" للحكايات لم يتم على أساس ملاءمتها للمسرحة، إذ إن هدف الفرقة هو طرق الصعب، أي استعراض المهارات الأدائية وتكنيك رواية القصص، وإثارة خيال المتفرجين. وهكذا، كما يبدو، ما فعلته فرقة الشباب Theatre Clwyd في شمال ويلز. هذه تجارب مشروعة وطليعية، تهدف إلى عدم الاكتفاء بلغة الحوار، بل الاعتماد على لغة التعبير الحركي وإيصال صور جمالية ذات دلالات إلى المتفرجين بأبسط الوسائل. وعادة، يساهم المتفرج ضمنا مع الممثل في إنجاح هذه الصلة الفنية، وذلك عن طريق تشغيل وتوحيد خيال الاثنين. فالممثل قد يصبح شجرة، أو جملا، أو رجلا، أو عملاقا، أو قزما، أو طيرا، أو زهرة. إن فن التمثيل في مثل هذا الطراز من المسرح، يصبح ممتزجا بشدة مع فن الإيماء. وهو شكل مثير جدا، مكن أولئك المسرحيين من مقاربة عمل صعب ومعقد مثل "ألف ليلة وليلة"، له طابع سردي محض، بحيث إن الحكايات يتوالد بعضها من بعض في جمالية خاصة وأخاذة، نادرا ما نراها في الأدب الأوربي، عدا الكلاسيكيات النادرة مثل "دون كيخوته"، و "حكايات كانتربري"، و"الديكاميرون".

البحث عن هوية عربية

شكلة المسرح العربي عبر تاريخه القصير هي الانقطاعات التي تخللت حركة نموه. لم تتصل، إذن، الأساليب والتيارات المختلفة مع بعضها. وعندما تضاف مشكلة اختلاف اللهجات، تزداد القضية تعقيدا. وكما نعلم، فإن هناك عقبات سياسية، واجتماعية، وجمالية، ودينية، أدت بالمسرح العربي إلى أن يولد ويفنى، ثم يولد من جديد، كالعنقاء تبعث من الرماد. مع كل ولادة كانت طموحات المسرح العربي تزداد، وبعض ملامحه تتغير، مكتسبة من الحياة تأثيرا، ومن الثقافة الغربية تأثيرا آخر، ومن أنماط التسلية التجارية السائدة تأثيرا ثالثا. ولكن ليس هناك من رابطة بين وحلقات ومراحل تطور المسرح العربي، كما هو الحال في تاريخ المسرح الأوربي، فعنقاؤنا العربية لا تنمو ولا تكبر.

فع هذا الوضع الراهن كل مجموعة من المؤلفين في اتجاه مغاير، فمنهم من حاول استيعاب التراث واستلهامه، ومنهم من التزم سياسيًا بتطرف، ومنهم من اتبع حداثة الاتجاهات الأجنبية الشائعة في الخارج. ليست هناك غضاضة في كل تلك المحاولات المشروعة، التي تكشف بوضوح علائم الأزمة، وتسعى لبحث عن هوية ثقافية ودرامية. وقد استلهم المسرحي الألماني الشهير برشت ملامح نظريته في "التأثير التغريبي"، واقتباساته من الحكايات الصينية، بينما استلهم أنتونين آرتو "مسرح القسوة" من الرقصات الطقسية لجزيرة بالي الأندونيسية. كلاهما حاول، إذن، إيجاد مخرج من أزمة المسرح الغربي: من الدراما البورجوازية، ومنافسة السينما والتلفزيون. أما المؤلفون العرب فقد سعوا إلى مزيج من الحداثة والأصالة معا. ولكن عديدا من محاولاتهم بدت تقليدا زائفا، رغم صلاحية ومشروعية الهدف الذي دفعهم للمحاولة.

إن إحياء الموضوعات الأدبية التقليدية والتاريخية في المسرح العربي اليوم، له ثلاث فوائد. أولا، هو وسيلة لمقاربة الأشكال الفولكلورية التراثية، وذلك كتطوير الموضوعات المعاصرة في المستقبل. ثانيا، إنه يعطي للمسرح شكلا فنيا، ويحل حلا توفيقيا مشكلة اللهجات عن طريق مشروعية استخدام الفصحى، مطورا استخدام الرمز والمجاز في الفن المسرحي. ثالثا، إفساح المجال عبر الإسقاط لمعالجة المشاكل الاجتماعية والسياسية بروح نقدية واسعة الحدود.

في الوطن العربي عموما، مازالت هناك محرمات، Taboos بعضها ديني، والآخر سياسي، والباقي أخلاقي. وحتى الموضوعات التاريخية المحضة تجد صعوبة رقابية في بعض الأقطار، لأن الإسقاط يبدو فيها واضحا أو مباشرا. ورغم اتساع الساحة أمام المؤلفين المسرحيين العرب للتجريب، إلا أن اهتماماتهم الفكرية وموضوعاتهم المطروقة يمكن تصنيفها بسهولة في بضعة بنود.

رؤية مؤلف عربي

"ألف ليلة وليلة" بالنسبة للأوربي هي دائما اكتشاف. رأى فيها مشاهير كتاب ومخرجي الغرب إما علاقات جنسية جريئة، أو خيالا مثيرا، أو مغامرات مشوقة، أو سحرا أسود. ونادرا جدا ما عولجت قصص "ألف ليلة وليلة" بشكل شمولي، بل كانت في الغالب مصدرا مفضلا للتسلية الخفيفة في نمط "البانتومايم الانجليزي"- الذي أشرنا إليه - وكذلك لأفلام المغامرات الأمريكية، وأحيانا مادة لمخرج جاد غريب الأطوار، مثل بازوليني، الذي رأى فيها بدوره مادة شائعة في أجواء غريبة تعالج بإباحية علاقات جنسية جريئة، فصور فيلمه في اليمن، ورغم شهرته وبراعته، فإن الفيلم لم يحقق كبير نجاح.

بالنسبة لي، كمؤلف عربي، فإن شعوري مختلف: لقد رافقتني "ألف ليلة وليلة" منذ الطفولة في أكثر من طبعة مختلفة، وكانت الطبعة الأصلية غير المهذبة مجال إثارة لي في سني المراهقة بلغتها الفاضحة. إن الكتاب، على أية حال، لم يكن اكتشافا مفاجئا مدهشا. وتقديمه ممسرحا - وهو بهذه الألفة - لابد أن يحيط بكليته. واقتباس كتاب ما للمسرح لا يعني مجرد إعادة صياغة موضوعه بالحوار والمواقف الدرامية، بل يعني ما هو أكثر: هضم الروح الجوهرية للكتاب، وإعادة خلق الإلهام الأصلي في شكل جديد. وكون كتابنا يضم مجموعة كبيرة من الحكايات ليس عذرا، فالمتفرجون لا يأتون إلى المسرح لسماع قراءة مسرحية، بل لمشاهدة عرض مسرحي.

محاولة مسرحة حكايا السندباد، أو بضع حكايات أخرى ترويها شهر زاد للمحافظة على حياتها، يتطلب بحثا دءوبا عن شكل جديد يعبر عن روح الأصل، ويقدم مشروعا لمسرحية عربية البناء، دون أن تتجاهل إنجازات المسرح العالمي الحديث. تلك كانت مهمتي الصعبة.

كان دافعي مختلفا عن دوافع أولئك المسرحيين البريطانيين الجادين، ومناقضا بالطبع للاتجاه التجاري الترفيهي الخالص في "البانتومايم الإنجليزي". لم أنس أبدا دوري كمؤلف مسرحتي عربي، يريد خلق شكل أصيل، وجماليات أصيلة، لتراجيديا وكوميديا عربيتين. و كنت أريد أن أفعل أكثر من مجرد اقتباس موضوع تراثي أو تاريخي عربي ومعالجته بشكل غربي مستورد من التأثيرات المباشرة المتوارثة من أصول المسرح الأوربي. كنت أطمح - ومازلت - إلى أشكال معادلة، ولكنها مستمدة وموحية - عبر لاقة جدلية - من الموضوعات والأجواء العربية.

كانت المحاولة الأولى عبر مسرحيتي "كوميديا السندباد"، التي يتضح من العنوان نمطها العام - رغم أن نهايتها تراجيدية. كان السبب واضحا بالنسبة لي: فمن الصعب للغاية مسرحة الخيال الفانتازي بطريقة جادة ومؤثرة ومقنعة. ولكن الكوميديا الصرفة مشوبة عادة بالسطحية، بينما كانت لبطلي السندباد بعض ملامح البطل التراجيدي المغترب مكانا وروحا، وكان للفعل الرئيسي جدية لا تعرفها الكوميديا، فالسندباد يرتحل متنكرا ليهرب السلاح لثوار بلده كي يتمردوا على طغيان الخليفة. إن الخيال هو مجرد وسيلة مجازية للتعامل مع مشكلات سياسية راهنة دون التعرض للمنع والقمع. ولكن الأمر بالنسبة لي كان يتجاوز ذلك، إذ إنه ينبع من ضرورة فنية جمالية شاعرية وأفضل نمط يلائم المتطلبات النصية هو "الكوميتراجيديا". لماذا كوميتراجيديا وليس تراجيكوميديا؟ ربما لأنني أميل إلى التشاؤم، وأكتب عما أراه من حولي، وليس عن مستقبل موعود. إن المزاج العام لأيامنا العربية هو "الكوميديا السوداء" الحافلة بالعنف، والجنس، وخيبة أمل القيم، وبالاغتراب. و"ألف ليلة وليلة" - سواء عن طريق السندباد، أم شهر زاد وشهريار، أم علي بابا، أم علاء الدين، هي عبارة عن مطية للإفصاح عن حقائق زماننا، التي تبدو لي معبرة عن فلسفة أعم وأشمل تخص عصرنا، بل تمتد إلى الإنسانية جمعاء في كل العصور. الصراع دائما ماثل بين الخير والشر. هناك دائما بطل، هو الضحية والفداء. هناك دائما زلة، ونهاية مأساوية. إن الأمر ليس مجرد رغبة في قرع نواقيس الموت والكآبة، ولكنه تحريض للجمهور - بعد متعة الضحك - كي يفعل شيئا في حياته الواقعية، شيئا من أجل التغيير والمقاومة. صحيح أن المستقبل مجهول، ولكننا يمكن من خلال القتامة التي نجسدها أن نكرس قوانا لهدف جعله أفضل. إن خيبة أمل الإنسان في وجوده يجب ألا تكون عائقا أمام سعيه للأفضل.

عندما بدأت كتابة النسخة الأولى من اقتباسي: "ليال عربية"- أو "ليالي شهريار" - حاولت أن أكون ما استطعت مخلصا للنص الأصلي، معتبرا أن دوري هو دور مخرج أكثر منه دور مؤلف. ولكن عدة صعوبات واجهتني:

1 - ما كان يعتبر مأساويا في "ألف ليلة وليلة" في الماضي، لن يثير اليوم إلا الضحك في الغالب. وهناك فارق كبير، على أية حال، بين أن تروى الحكاية وبين أن تمثل.

2 - هناك موقف عنصري واضح في "ألف ليلة وليلة" من الملونين، إضافة إلى موقف المعاداة من المرأة، والتشكك في وفائها وإخلاصها. كان هذا، بالطبع، إحدى سمات العصر الذكوري والإقطاعي، حيث كان العبيد والجواري ملكية طبيعية للأثرياء والنبلاء.

3 - لغة سير ريتشارد بيرتون الإنجليزية، التي تعود للقرن التاسع عشر، ليست ملائمة تماما لعرض معاصر.

4 - جزء كبير من الكتاب لا يصلح للإعداد المسرحي في حوار ومشاهد، بل إنه أحيانا غير درامي. لم أكن أريد، بالمقابل، أن أقتصر على اتجاه رواية القصص مسرحيا، بل أن أختار أجزاء صالحة للمسرحة تماما من الحكايات أقل شهرة، ولكن ليست أقل إثارة وتشويقا.

عندما سألني صديق ناقد في رسالة من فرنسا: "ماذا تريد أن تقول في نسختك الممسرحة من الليالي العربية؟ "أجبته ببساطة: "لا أدرى." ولكنني، حين فكرت مليا فيما كتبت، وجدت أن الفعل الرئيسي في جمع الحكايا ينبع من "الموت"، كنقيض ل "الحياة"، أو ربما بمعنى أدق "الموت في الحياة"، الذي هو بوصفه الواقعي الأوضح عبارة عن خيبة أمل ناجمة عن اكتشاف أن القيم والآمال والحب والنجاح التي يطمع إليها الإنسان مآلها الإحباط. الشك يطغى على الذهن، ويهيمن العبث، ويبدو العنف الوسيلة الوحيدة للانتقام. ولكن يبقى هناك دائما الطريق الآخر: فالإنسانية موجودة، وقيمها لا تفنى، رغم أن البشر كثيرا ما يخونونها. إن الحب مازال حلما ممكنا لنواجه به فوضى الوجود، خارج وداخل عوالم النفس.