أرقام

 أرقام

(القريـة) الظالمـة

قضت البشرية آلاف السنوات لتحقق قدرا من المساواة بين البشر.. ثار العبيد من أجل حريتهم وثار الفلاحون في أوربا ضد الإقطاع, وحدث الصدام الواسع بين الرجل الأبيض والسكان الأصليين في القارة الأمريكية عندما جاءت الهجرات الأولى.. وانتصرت الشعوب في حروبها ضد الاستعمار الذي جاء ليسود.. وظن الجميع ـ وفي نهاية القرن العشرين ـ أن التمييز قد اختفى, وأن العنصرية باتت ذكرى تاريخية وأنه حان الوقت لخوض معارك جديدة للمساواة بين الرجل والمرأة, وبين المسيحي والمسلم والبوذي, وبين أهل الشمال وأهل الجنوب. إنه عالم من المساواة.

ولكن ها هو قرن جديد يطل علينا والعالم يستعد لمؤتمر دولي تستضيفه جنوب إفريقيا في سبتمبر (2001) ويحمل عنوان (المؤتمر العالمي ضد العنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب).. وها هي أشكال جديدة من اللامساواة تفرض نفسها وتقلب التاريخ من جديد.

أغنى الأغنياء

لم يتحدث الـتاريخ عـن المسـاواة الاقتـصاديـة إلا قليلا, عندما تصورت الماركسية أن (لكل فرد بمقدار ما يحتاج ومن كل فرد بقدر ما يستطيع).. ولكن الـتاريـخ أيضـا لم يشـهد هـذا القـدر الهـائل مـن (اللامساواة) والتي باتت أكثر وضوحا للعيان.

في أبريل من عام (2001) نشرت جريدة بريطانية ذات مصداقية وهي (صنداي تايمز) قصة أغنى الأغنياء في العالم, وكيف تراجع ملك ومالك (المايكروسوفت) بيل جيتس من المركز الأول إلى المركز الثاني في قائمة الأثرياء بعد أن فقد (15) مليار دولار من ثروته في عام واحد.. فباتت مملكته لا تضم أكثر من (54) مليار دولار, وبات مالك (وول مارت), وهي سلسلة المحلات الأمريكية الشهيرة هو أغنى الأغنياء بثروة تقدر بـ (65) مليار دولار!

ولم يكن ذلك غريبا, فقبلها كان تقرير التنمية في العالم الذي يصدره البنك الدولي قد ذكر في طبعة (2000 ـ 2001) أن تركز الثروة في العالم , مع انتشار الفقر في ربوعه قد بلغا أشدهما فباتت شريحة الدول منخفضة الدخل والتي تضم أربعين بالمائة من السكان تقريبا لا تحوز أكثر من (3,4) بالمائة من الناتج القومي للعالم.. بينما تحوز الدول الغنية والتي لا يصل سكانها إلى (15) بالمائة من سكان العالم نحو (79) بالمائة من الناتج القومي العالمي.

إنه البون الشاسع يأتي بعد رحلة طويلة من تنمية التخلف وتنمية التقدم طوال أربعين أو خمسين عاما مضت, وطبقا لتقرير التنمية البشرية الصادر عام (1995) عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة فقد زاد الناتج العالمي سبعة أضعافه في خمسين عاما.. لكن الفقر كان يزداد أيضا, وهو ما أكده تقرير العام التالي حين ذكر أن العالم ينتقل من حالة (اللامساواة) إلى حالة (اللاإنسانية) وأن هناك (358) مليارديرا تساوت ثروتهم مع دخل 45 بالمائة من سكان العالم أي (2,5) مليار إنسان.. وحينذاك انطلق المصطلح الشهير.. مصطلح (النمو الرديء) أي أن الدخل يزيد والنمو يستمر لكن أحوال البشر ـ أو معظمهم ـ تتراجع.

وهكذا استمر التطور سلبيا حتى بات (20%) من سكان العالم ـ وهم سكان الشمال الصناعي ـ يحوزون (86%) من الناتج المحلي الإجمالي طبقا لتقرير التنمية البشرية عام (99).. بينما كانت النسبة (70%) عام 1960.

اللامساواة إذن, وفي ظل تيار العولمة تتكرس وتتسارع وفي اتجاه عكسي لما نتحدث عنه من أن العالم سوف يصبح قرية صغيرة وأن فرص العولمة سوف تأخذ بيد الضعفاء الذين ستفتح أمامهم الأبواب.

حرب الأسواق

والظاهرة كما قلت, ليست جديدة فمع كل مرحلة جديدة تتقدم فيها الصناعة كان البون يتسع مع الدول غير الصناعية والتي ظلت تحافظ على الأشكال القديمة والتقليدية لأنماط الإنتاج.

وبينما كانت الحركات الاستعمارية غزوا للأسواق وامتلاكا لها عن طريق القوة العسكرية, فإن العولمة تأتي في نفس الاتجاه ولكن من خلال قوة الاقتصاد وتدفقات الأموال والسلع وانتشار المعرفة.. أما نقطة البدء فهي تكنولوجيا أكثر تقدما توفر انتاجا أكثر يبحث عن أسواق, ويحطم أمامه الحدود الاقتصادية للدول, بل وبعضا من الحدود السياسية أيضا بعد أن أصبح مفهوم السيادة قابلا للتغيير وبعدأن باتت بعض الشئون المحلية شأنا دوليا يستدعي تدخل الآخرين.

كان الشعار الموضوع هو المساواة بين البشر وهو ما تقول به مواثيق (حقوق الإنسان) وتقضي به (مباديء الديموقراطية) وكانت الحرية الاقتصادية وتحطيم تدخل الدولة هي الأداة المنتقاة لتفاعل صحي في الأسواق يقتسم بين الجميع كعكة الرخاء.

لكن الدعوة, والممارسة التي تهيمن عليها منظمات دولية مختلفة جاءتا بالنقيض, فالديموقراطية في الداخل يقابلها لا ديموقراطية في العلاقات الدولية.. وحقوق الإنسان التي تتخذ ذريعة للعقوبات الدولية يجرى إهدارها عـالميا بتكـريس اللامساواة وتوسيع الهوة بين الشمال والجنوب.. الأكثر ثراء ,والأشد فقرا.

وفي ظل الدعوة للعولمة والحدود المفتوحة بدت العناصر الحاكمة للتغيير في العالم وكأنها تحابي ما يجري من تمييز صارخ وعدم مساواة.

جاءت العولمة لتفتح الحدود أمام الأموال والسلع والخدمات.. ولتغلقها أمام انتقال البشر.

وجاءت حرب المعرفة, والتي باتت هي الأكثر ثمنا من أي سلعة مادية جاءت لتتخذ من الدول المتقدمة موطنا لها, فتركز الثروة صاحبه تركز المعرفة.

وأتت الديمقراطية والدعوة لدور جديد للدولة لتكرس نفوذ الخارج وتضعف نفوذ الداخل وهيمنة السلطة المحلية ولتجعل تيارات الخارج المالية والسلعية والثقافية بلا حاجز وطني.

ثم جاءت حرب الهوية لتجعل الاقتصاد الحر ـ كما قيل ـ هو نهاية التاريخ, ولتجعل الليبرالية من أجل القادرين فقط.. ولتجعل الطريق الثالث الذي دعا له البعض تجميلا على هامش المتن وإن كان يحمل الاعتراف بأن الحرية الاقتصادية المطلقة لا تفيد وأن البعد الاجتماعي أساس لنجاح نموذج العولمة المطلوب.

وهكذا جاءت أدوات التغيير وصناعة المستقبل وكأنها تكرس نموذج التفاوت.. بينما جاءت دعوات البعد الاجتماعي ومحاربة الفقر في سياق الوظيفة الاقتصادية للفقراء كمستهلكين وأيد عاملة, ضمن دون استهلاك وقدرة شرائية تبور سلع الأغنياء وتتكدس مخازنهم وتتعثر آلاتهم المتدفقة.

هكذا كانت الرحلة..

المزيد من الفوارق التي تخلق العنف, وتؤجج الرفض لاتجاه العولمة وما صاحبها من دعوات.. ليس من أبناء الجنوب فقط, ولكن من أبناء الشمال أيضا والذين أحست الفئات الأضعف منهم أن تيار المال الكاسح وغير المسبوق في أحجامه وسرعته وتدويله يقابله تيار آخر في سوق العمل قد ينتهي إلى فقدان فرص التوظف.. وبينما شهدت نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الجديد تظاهرات الاحتجاج في (سياتل ـ واشنطن ـ براغ ـ كيبك) وبينما كان وزراء العولمة يخرجون تحت حراسة مسلحة كلما عقدوا مؤتمراتهم.. بينما حدث ذلك كانت المقاومة تزداد في الجنوب وكانت دول مثل ماليزيا التي عانت من الأزمة تشق عصا الطاعة للشمال وتبذر بذور الكراهية لما يجري, وفي عكس الاتجاه الذي يوده أنصار العالم الجديد.

***

هكذا بدت الصورة في بداية القرن الجديد, وهكذا كان التعبير الصارخ لها: ثلاثة أفراد يملكون أصولا تفوق الناتج القومي لكل الدول الأقل نموا, كما أشار تقرير التنمية البشرية لعام (99).. أما الوجه الآخر فهو العنف وحروب إفريقيا التي كانت الثروة محركا لها.. والمزيد من الفقر هنا وهناك.

و.. تأتي أفكار المقاومة: الجنوب يدخل حرب التكنولوجيا ويمتلك بعضا منها.. والجنوب يقود معركة لتحسين شروط العولمة.

إنها حرب الاستقلال مرة أخرى, ولكن من أجل مساواة أكثر وظلم أقل فلا ذنب لطفل ألقت به الجغرافيا جنوبا.. ولم يدفعه القدر ليكون من رحم امرأة بيضاء تسكن على ضفاف الأطلنطي.

صحيح أننا لا نختار آباءنا.. ولا أرزاقنا, ولنقرأ الأرقام من جديد لنعرف أن القرية الصغيرة باتت قرية ظالمة.

ورقم .. كـلام فـي الهـواء

العرب يتكلمون أكثر. هكذا تثبت الأرقام التي نشرها التقرير الاقتصادي العربي الموحد في نهاية عام (2000), وطبقا لهذه الأرقام فقد حدثت ثورة المحمول على النحو التالي: كان عدد مشتركي الهواتف النقالة (90) ألف مشترك عام 1990, ولكن ـ في نهاية الحقبة ـ وبالتحديد في نهاية (99) بات العدد: (4,2) مليون مشترك وبمتوسط هاتف لكل سبعين مواطنا عربيا.

حاجز الـ (800) ألف مشترك تخطته في ذلك العام بالترتيب ثلاث دول: مصر والسعودية والإمارات.. وغابت عن الشاشة أربع دول هي: سوريا, الصومال, العراق, موريتانيا.

المتوقع, قفزة أخرى تبرزها أرقام (2000), بعد أن سجل عام (99) أن الهواتف النقالة قد تضاعفت تقريبا خلال العام الأخير

 

 

محمود المراغي