جاك إيف كوستو

جاك إيف كوستو

ورحل عاشق الأعماق

كعادتي في الصباح, أصنع قهوتي وأجلس أمام شاشة التلفزيون, وتنقل لي الأقمار الصناعية الأخبار الجديدة, وهي دائما مؤلمة, خاصة مع الطقس الحار, وفي السابع والعشرين من شهر يونية حملت الأخبار نبأ مؤلما لي بشكل خاص هو وفاة رائد الأعماق الفرنسي العالمي (جاك إيف كوستو) عن عمر يناهز 87 عاماً حيث ولد عام 1910.

أحببت الأعماق والعالم التحت مائي من خلال أفلامه وكتبه وبرامجه.

فمنذ سنوات عديدة, عندما كنت هاوياً أبحث عن المعرفة وأحب مشاهدة الأفلام الثقافية والتسجيلية في المحافل المختلفة, شاهدت في صالة (جمعية الفيلم بالقاهرة) الفيلم الذي صنعه كوستو باسم (عالم الصمت) Le Monde du Silence وكان هذا الفيلم سبب انبهاري وحبي المتزايد للعالم الغريب المثير الغامض للأعماق, وبعد تخصصي في التصوير السينمائى التحت مائي وتصوير أكثر من أحد عشر فيلما سينمائىا تحت الماء أهمها (جحيم تحت الماء) 1989, (جزيرة الشيطان) 1990, (الطريق إلى إيلات) 1994 ونشر لي كتاب متخصص في هذا المجال العام الماضي, وجدت أنه من الواجب التعريف بهذا الرائد العظيم, وخاصة أنه حتى الآن لم يترجم له أي كتاب إلى اللغة العربية وقد تجاوزت 35 كتاباً, ولقد أمضى كوستو من عمره خمسين عاماً باحثا عن المعرفة مسجلا مايرى ويكتشف فيما يسمى (عالم الصمت) أي عالم الأعماق.

البحّار

ولد كوستو في مدينة صغيرة تدعى (سان أندريه كيويزا) في أسرة مترابطة وفي ظروف معيشية ميسرة, وبعد إنهاء دراسته الثانوية التحق بالأكاديمية البحرية الفرنسية ليتخرج بتفوق, حيث كان ترتيبه الثاني على الدفعة, ويلتحق ضابطا في السلاح البحري.

وبخروج فرنسا السريع من الحرب العالمية الثانية بعد هزيمتها من دول المحور, قبع الأسطول الفرنسي المتبقي في ميناءى مرسيليا وطولون المطلين على البحر الأبيض المتوسط في الجنوب, والتابعين لحكومة فيشي المهادنة للنازي.

انخرط الضابط الشاب كوستو في ذلك الوقت في حبه للمغامرة والبحث والتطوير التحت مائي حيث بدأ ونجح في تصميم بدلة من المطاط تصلح للغوص, وتمنع البلل وتحافظ للغواص على درجة حرارته (37ْ) الطبيعية تحت الماء, بل إنه صنع وكيف للأرجل زعانف (Fins) يرتديها الغواص فتزيد من سرعته ومرونة حركته مثل الأسماك تماماً. ولكن مشكلة الزمن البسيط والعمق القليل الذي يرتاد به الإنسان الأعماق ظلت معلقة بمثل هذه المعدات, حتى تمكن في عام 1934 مع زميله الضابط المهندس البحري (أميل جاجان) من تطوير أجهزة الغوض الذاتية الحرة (Scuba) والتي يكون بها الغواص حراً تحت الماء ينتقل كما يحلو له, ويتم ذلك عن طريق أسطوانة مملوءة بالهواء الجوي المضغوط تصاحب الغواص تحت الماء وترتبط به كالحبل السري, إذ يخرج من الاسطوانة خرطوم في نهايته قطعة مجهزة لتوضع بالفم يمكن للغواص بواسطتها أن يتنفس كمية الهواء المناسبة له لبقائه حيا تحت الماء, حيث إن حجم رئة الإنسان ينكمش كلما زاد الضغط عليها بعمق (الغوصة), ولذا كان اختراع قطعة الفم التي هي منظم يناسب كمية الهواء المستعمل مع حجم رئة الغواص في العمق المتجدد إنجازاً دعم حرية الغوص.

أحدث هذا الاختراع ثورة في تكنولوجيا الغوص, وبرهن على ذلك كوستو وجاجان عندما قهرا الأعماق حتى بلغا 63 مترا تحت الماء بهذا الجهاز, وإحقاقاً للحق والتاريخ فإن الإرهاصات الأولى لهذا الجهاز المرتبط بالاسطوانة والهواء المضغوط قد اخترعها الضابط الفرنسي كذلك (إيف لي بريير) عام 1933, ولكنها كانت تعطي هواء مستمراً بضغط متساو باستمرار دون اعتبارات للعمق وحجم الرئة, مما يسبب انفجار رئة الإنسان وموته تحت الماء في بعض الظروف.

لم يكن الإنسان قد تمكن بهذه الأجهزة والتجهيزات البسيطة من ارتياد الأعماق حتى 63 مترا, فقد وصل الإنسان إلى أعماق أكبر من ذلك بكثير ولكن ببدلة الغوص التقليدية الثقيلة ذات غطاء الرأس النحاسي الضخم والأحذية المملوءة بأثقال الرصاص والتي تثبت الغواص على القاع بينما يزود بالهواء بمضخات على ظهر زورق فوق سطح الماء تجعل حركته محدودة للغاية وخطرة إذا انقطع خرطوم الهواء المغذي له.

لقد أثبت كوستو أن الإنسان تحت الماء يصير جزءاً من عالم الماء إذا تمكن من التحكم في هواء التنفس, حيث إن جسد الإنسان به 75% ماء فإذن هو وسط مائي يتآلف مع أعماق الماء وضغوطها, وللعلم فإن كل عشرة أمتار عمقا تزيد الضغط الجوي على جسم الإنسان وتجعل الرئة تنكمش بنسبة العمق, ولك أن تستنتج أن الثلاثة وستين مترا التي غاصها كوستو وجاجان جعلت ضغط الماء عليهما يساوي أكثر من سبعة ضغط جوي, بينما نحن نعيش ونتنفس علـى سطح الأرض بضغط جوي واحد.

وفتحت اكتشافات وإضافات كوستو آفاقا واسعة بكل معنى الكلمة لريادة الأعماق بحرية وأمان, وهذا ما جعل رياضة الغوص الآن منتشرة في جميع بقاع العالم, ويرجع الفضل كله لهذا المنظم الصغير الذي يضعه الغواص على فمه.

لم يكتف كوستو بالريادة في الغوص بهذه التجهيزات بل أخذ ينقب عن أسرار وغموض الحياة البحرية للكائنات المائية, وأقام في جزيرة مواجهة لميناء مرسيليا معمل أبحاث تحت مائي سماه (كونشلف) وأخذت أخباره وأبحاثه الجديدة عن غزو الإنسان لأعماق الماء تنشر في جميع الصحف والمجلات المتخصصة ويذيع صيته, إلا أن ما مرت به فرنسا بعدالحرب العالمية الثانية من كساد اقتصادي و إعادة البناء والتعمير الشاقة أثر كثيرا في استمرار كوستو في أبحاثه, حتى قابل في مدينة (كان) الساحلية الملياردير الإنجليزي (نويل جينس) الذي كان معجبا بهذا العالم المكافح, فقام بإهدائه كاسحة ألغام بريطانية خرجت من الحرب, وجهزها له كسفينة أبحاث عائمة باسم (لاكليبسو) وتعهد (نويل) بتبني مشروعات كوستو البحثية التحت مائية مالياً, ومن هنا بدأت رحلة كوستو العظيمة في فتح أسرار الأعماق.

أسرار البحر الأحمر

في عام 1949 اتجه عالم الحيوان النمساوي (هانز هاس) إلى أعماق البحر الأحمر في منطقة قريبة من ميناء بورسودان, ولقد غامر (هاس) بكل ما ادخر من مال في تمويل هذا المشروع البحثي بعد إفلاسه أثناء الحكم النازي للنمسا, ونجح بمعدات قام بتصنيعها في تصوير حوالي 1500 صورة فوتوغرافية (أبيض و أسود) للحياة البكر المتنوعة تحت الماء في البحر الأحمر, وأقام بعد ذلك عدة معارض متنقلة في أوربا لما صور ورأى خاصة الحياة الأسرية لسمكة القرش التي هاجمته في إحدى المرات, وقد جعله نجاح هذه المعارض يعوض خسارته ويفتح معمله مرة أخرى وتستمر أبحاثه.

ويلتقط كوستو الخيط ويبحر بسفينته إلى منطقة في شمال بورسودان في حوالي منتصف عام 1954، ليبقى في المنطقة شهورا ويقيم معملاً بحثياً تحت المياه هناك باسم (كونشلف 2) ويصل إلى اكتشافات ونتائج مذهلة للحياة تحت مياه البحر الأحمر, ويسجل بعدساته أهم فيلم ظهر حتى حينه لعالم الأعماق باسم (عالم الصمت).. الفيلم بهرنا بما يحمل من معلومات ومخلوقات أبدع الله عز وجل في خلقها وألوان يعجز أي فنان عن خلطها, ويكشف أسراراً غامضة تظهر لأول مرة للبشرية, ولن أنسى أبدا تلك اللقطات الساحرة للكائنات المائىة الرخوية التي لاتظهر إلا ليلاً, حيث أطلق على إحداها اسم (الراقصة الإسبانية) فهي ذات لون أحمر قان وأطرافها المتعرجة بيضاء, تتحرك في الماء كالرداء (الجونلة) للراقصة الإسبانية حين تحتدم مع إيقاع الموسيقى الحار وتحرك أطراف ردائها بكل قوة, ومما لا أنسى في ذلك الفيلم ذلك المرجان الهلامي اللاسع والذي تعيش في كنفه في حب وسكون الأسماك المهرجة في تعاون مشترك للحياة, وعشرات المشاهد واللقطات للكائنات الصغيرة والدقيقة والقشريات والمرجانيات والجوفمعويات والصدفيات النادرة والأسماك السابحة. إن الفيلم به لقطات ومعلومات موسوعية كانت فتحا عظيما على العالم التحت مائي, فالبحر الأحمر هو في حقيقته أخدود انكساري بين قارتي آسيا وإفريقيا مليء بمياه بحر الشمال (الأبيض المتوسط) في أزمنة سحيقة, ثم تبخر جزء كبير من مائه بارتداد بحر الشمال إلى حوضه مرة أخرى, ليفتح من جديد على المحيط الهندي ليملأه بمائه وينقل له الحياة البحرية التي ترعرعت ونمت بشكل مذهل في رحاب المناخ القاري الحار لهذا البحر, وعدم تلوثه بمصبات الأنهار ومخلفات المدن والمصانع, كل هذه العوامل مجتمعة جعلت من هذا البحر كما قال كوستو معلنا (إنه أفضل مكان للغوص في العالم), وكان الفضل لهذا الرجل في التعريف بهذه الجنة التحت مائية للعالم, والتي يرتادها الآن الآلاف من محبي رياضة الغوص الآمن كما اخترعه ومهد له جاك إيف كوستو.

حين عرض فيلم (عالم الصمت) في مهرجان كان السينمائي عام 1956 حصل في مسابقة الأفلام التسجيلية على الجائزة الأولى (السعفة الذهبية) وكرمت الأكاديمية الفرنسية للعلوم كوستو بمنحه عضويتها وتحول الفيلم إلى كتاب مصور طبع منه حتى الآن 7 ملايين نسخة.

الماء واليابسة والبشر

استمر كوستو بعد ذلك يجوب البحار ويقوم بالأبحاث ويصنع سلسلة من الأفلام هدفها كشف أسرار البحار وجمال عالمها, ولم يقتصر نشاطه على ذلك فقط بل إن البيئة البحرية بكل جوانبها أصبحت مجالاً لرصده وأبحاثه سواء كان ذلك على الشاطئ أو في الجزر النائية أو حتى حياة الناس الاجتماعية حولها, وعمل كوستو على تأصيل ذلك بشكل مستمر لايعرف الكلل أو الملل وتجول بسفينته في بحار شتى من الشرق إلى الغرب ومن خط الاستواء إلى الأقطاب الباردة, ونشر 35 كتابا مصورا وصنع 80 فيلما سينمائيا ملأت شاشات تلفزيونات العالم, وفي سبيل ذلك طور باستمرار أدوات بحثه وعمله سواء كانت كاميرات للتصوير الثابت الفوتوغرافي أو المتحرك السينمائي, وكذلك الغواصات الصغيرة التي تحمل شخصاً أو شخصين أو الغواصات المصورة التي تجول في أعماق لايستطيع الإنسان المغامر النزول إليها بأدوات الغوص المعتادة حتى المتطـور منها.

وكان لهذا الرائد موقف مشرف ومستمر ضد التفجيرات النووية تحت الماء في المحيط الهادي والتي تقوم بها بلده, وهاجم الرؤساء الفرنسيين من ديجول حتى شيراك لتأييدهم الاستمرار في هذه التجارب التي تدمر الحياة البحرية في مساحات شاسعة في المحيط وظل يطالب ويدافع وينادي باستمرار بصون حق الأجيال القادمة في تسلم كوكبنا نظيفا نقيا بعيدا عن التلوث والدمار البيئي والمحافظة على الكائنات الحية مهما صغر شأنها.

إن ذلك الفرنسي النحيف ذا (الطاقية) الحمراء فوق الرأس دائما, جعل الإنسان في منتصف القرن العشرين يغوص حرا كسمكة في البحار, ويكشف أسرارها بفضل اختراعاته ودأبه المستمر في نشر كتبه وأفلامه, وتتلمذ على يد كوستو مجموعة كبيرة من الباحثين والعلماء وهم يكملون الآن مشواره من بعده, وكان لايبخل عليهم بعلم يعرفه أو خبرة اكتسبها, وحين تقدم به العمر وأصبح الغوص مجهودا كبيرا عليه, كان يشرف بنفسه على أبنائه وتلامذته أثناء غوصهم ونزولهم ورجوعهم من الأعماق, واستعانت به إمارة موناكو في إنشاء متحف بحري يعتبر من أهم متاحف الأحياء المائية في العالم واستمر كوستو مديرا له ومشرفا عليه حتى عام 1988.

وعند زيارتي في شهر أغسطس الماضي للمتحف البحري بباريس, استقبلني في ركن قريب من المدخل, وفي إضاءة خافتة مؤثرة تعبر عن الحزن, نموذج مصغر لسفينة أبحاث كوستو (لاكليبسو) وبجوارها حامل معدني يحمل ملصقاً يكلله شريط أسود وبالملصق صور كوستو وتعليق ذو معنى ومغزى, يلخص أمجاده ويخلد جهده, إذ يقول: انتقل إلى عالم الصمت, عالم جليل أثرى البشرية والأجيال القادمة بمعارف, وعلم, وحب عالم الصمت.

 

سعيد شيمي

 
  




جاك أيف كوستو ... عاشق الأعماق





وانكشفت اسرار الأعماق بريادة الإنسان لها بحرية كبيرة





رخوية الراقصة الأسبانية التي تظهر تحت الماء إلا ليلا





أصبح الغوص الآمن الحر منتشر في العالم حتى للنساء





كاتب المقال مع الكاميرا السينمائية الغاطسة مع مساعده استعدادا لاخذ إحدى اللقطات