جمال العربية

جمال العربية

(الروح القدس)

ملحمة شعرية من طراز فريد يمتزج فيها الصوفي بالقومي

هذا شاعر يتميز بنَفس شعري عارم, ولغة شعرية جميلة النسج والإحكام, وقدرة فذّة على التصوير, تجد مجالها الرحيب في إبداع اللوحة الشعرية العامرة بجدل الفكرة والصورة, وهو ما تكشف عنه تجليّاته في ملحمة (الروح القدس).

تبلغ هذه الملحمة الشعرية, أو القصيدة الطويلة, خمسة آلاف ومائة وخمسين بيتاً, من بحر شعري واحد هو بحر الخفيف وعدد مقطوعاتها ألف وثلاثون مقطوعة, كل مقطوعة من خمسة أبيات, وقسّم الشاعر قصيدته الطويلة إلى ثمانية ألحان, كل لحن له عنوان مستقل.بدأ الشاعر أحمد مخيمر في كتابة ملحمته الشعرية في عام 1950, وواصل الكتابة فيها - بعد مرات عدة من التوقف - حتى منتصف الستينيات. وخلال هذه السنوات, مرّ الشاعر بتغيرات فكرية وفنية عديدة, وشُغل بأعمال شعرية أخرى, وإبداع مسرحيته الشعرية الوحيدة (عفراء), وهو الأمر الذي ينعكس على مقطوعات ملحمته في تغير الأسلوب الشعري, والأفكار التي تنضح بها الأبيات, وجيشان الموسيقى المؤازر لجيشان العواطف المشبوبة في وجدان الشاعر.

وللشاعر أحمد مخيمر (1914-1978) سبعة أعمال شعرية منشورة هي: ظلال القمر, وأنفاس في الظلام, ولزوميات مخيمر, والغابة المنسية, وأسماء الله الحسنى, وأشواق بوذا, والروح القدس. ولم تنشر حتى الآن مسرحيته الشعرية (عفراء) أو ديوانه (صبا نجد). فضلاً عن آثار شعرية وكتابات أدبية أخرى لم يتم جمعها بعد.

ليس من الصعب على قارئ الملحمة أن يدرك العلاقة الوثيقة بينها وبين القضية الفلسطينية التي شغل بها الشاعر - انشغالاً قومياً وفنياً - منذ حدوث النكبة وقيام إسرائيل, وتشرذم الوجود العربي, وامتداد سلسلة الانكسارات المتوالية, تُعمّق شرخاً في الروح, وتجسّد ملامح مأساة دائمة, يحسّ من خلالها الشاعر بالحصار والانسحاق, والرغبة الدائمة في التحرر والانطلاق, واستشراف أفق من الحرية والقوة واليقين.

للملحمة إذن هدف واضح قوي, هو استنهاض العزائم, واستثارة الهمم للنضال من أجل تحرير فلسطين, وتحرير الإرادة العربية والتاريخ العربي. من هنا امتلأت مقاطعها الشعرية بإشارات كثيرة للآباء الأوائل وسجاياهم ومجدهم العظيم:

قسماً بالكتاب, والمجد والتاريخ والذكريات بين ضلوعي
وجدودي وما بنوْه على الوادي وما شيّدوه فوق الربوعِ
وبصوتِ الأذان في المسجد الأقصى وما في رنينه من دموعِ
لأَسيرنّ صائحاً صيْحةَ النصرِ بصوتٍ لعزّتي مسموع
سوف تمضي به الرياح لسارٍ حاملٍ عاره لغير رُجوع

***

ورأوْا في الصباح أرض فلسطين فصاحوا: لبّيْكِ أرض الجدودِ
وأطالوا السجود فوق ثراها لذّةً, بان عُمقها في السّجود
وارتمى يوسف على التُرْبِ في شوقٍ عطوفٍ, وفي حنينٍ ودودِ
قال: حُيّيت لانتصارك جئنا فلتسدْ في الزمان فوق الوجودِ
إنني من شذاك عطّرت روحي فادْنُ بالروح للغد المنشودِ

***

إنني من شذاكَ عطّرت روحي إنني من سناك نوّرتُ قلبي
إنني قارئ عليك سطوراً خالداتٍ قد خطّها مجد شعبي
بدماءٍ كانت فداءً لأهلٍ ودموعٍ, كانت حنيناً لدرْبِ
أحرفٌ من حوافر الخيل, يُغري ما طوتْهُ من المعاني, ويسْبي
وبقايا سيفِ, وأشلاء سرْجِ من قريب مُلْقَى, ورايةُ حرْبٍ

تصوّر الملحمة الشعرية جبريل الأمين (الروح القدس) وهو يصعد إلى الحضرة العليا راجياً من الله سبحانه أن يأذن له بالنزول إلى الأرض, وهو الذي كان ينزل من قبل لتبليغ الرسالات إلى الأنبياء والرسل. لكن نزوله في هذه المرة مقترنٌ بالرغبة في تغيير ما حاق بالإنسان المضطهد فيها من ظلم وعسف ونفي وقتل وتشريد. وسرعان ما ندرك أن هذا الإنسان هو الإنسان العربي الذي تُسلب أرضه وأوطانه وحريّته وإرادته, ويعاني صنوفاً شتى من القهر والهوان. ويبدع الشاعر في تصوير (صوت جبريل) وهو في مناجاته الخاشعة للخالق الأعظم - جلّت قدرته - يعرض رغبته في النزول إلى الأرض من أجل الإنسان, تجسيداً للحقيقة التي يوقن بها المؤمنون, وهي أن الملائكة تحارب في صفوفهم:

يا إلهي, إني أرى الحق أحياناً وأدنو من نوره الفتّان
وأراه في صدْحة الطائر الشادي وفي همسة الغُصون الحواني
في المعاني التي انطوت في خيالٍ والخيال الذي انطوى في معاني
وأراه في كل شيء صغيرٍ أو كبير, يدور في الأكوانِ
فإذا الحقّ يا إلهي أعلى ما رأتْه العيْنانِ في الإنسانِ

مؤكّداً أن الإبداع الإلهي للجمال يتجلّى في الإنسان ذاته, وعلى هذه الأرض ذاتها:

يا إلهي وأنت أبدعْتَ في الأرضِ جمالاً يفوق بِدْعَ الخيال
صُوراً للآباء في حيّز الجسْمِ تبدّت غريبة الأشكالِ
وانطلاق الآزال في عين حسْناءَ طوتْ كلّ فسْحة الآزالِ
قبست روعة الحقيقة منها وتوارت من سرّها في ظلالِ
أجمالٌ بلا حدودٍ, ويُعزى نوره الطلق في حدود المثالِ

ويأذن الله سبحانه لجبريل بالنزول إلى الأرض, والتشكّل في الصورة التي يريدها, فيودّع السماء, وينزل إلى الأرض, ويرى في ظل دوحة عند جدول ماء رجلاً نائماً قد فارقته روحه لتلهو في ظلال الروض أو لتركب ظهر غمامة أو لتجري في النور, فأعجب بها, واقترب منها, وامتزج بها امتزاج حب وحنين:

ورأى الروحُ نائماً من بني الإنسانِ في ظلّ دوْحةٍ عند جدول
ورأى رُوحَهُ على الروض يلهو ورآه في ظلّه يتجوّلْ
وعلى ظهر غيمةٍ كان يمشي وإلى غيمةٍ سواها تحوّل
وإذا الدوح مدّ ظلاً طويلاً فهو منه - إن يركب الريح - أطول
ورآه في حلْبة النور يعدو سابقاً كلّ سابقٍ, فهو أول

***

فأتاه مُحيّيا, وهو يدنو في سرورٍ, مُعانقاً في ابتهاجِ
أصبحا بالحنين والحب روحا واحداً في تآلفٍ, وامتزاج
يشرب العطر من فم الزهرة الوسْنى يعُبّ الصدى من الأمواجِ
يلبس النّغْمة التي نسَجْتها يدُ صبحٍ على الرُّبا وهّاجِ
وتراه العيون مثل سراجٍ في ظلام, أحببْ به من سراجِ

عندئذ, يستيقظ النائم وقد أحسّ - حين استيقظ - بقوة روحية طاغية لم يكن يُحسّ بها من قبل, وأحسّ أنه غريب عن جميع الناس, وتكشّفت لعينيه أسرار الأشياء, ورأى أنه يُطلّ إلى الوجود من علٍ, وأنه امتلأ بالحكمة العليا:

إنني شاعر بأني غريب عن جميع الورى, بروحي وعقلي
وبأني مُلئْتُ بالحكمة العُليا كأنّي من أسطر اللوح أُمْلي
هكذا فجأة تغيّرتُ, حتى لأراني أطيلُ للنفس سُؤْلي
ما أراهُ, شيء جديد, عجيب ما رأى الناس مثْل ذلك قبلي
إنني من علٍ أطلّ, وفوق القمم الشّمِّ رُحْت أنقلُ رجلي

تمتلئ الملحمة بأقباس صوفية نورانية, وإشراقات روحية تتجلى من خلالها شاعرية الشاعر وقدراته الفذّة على تمثل التراث الشعري الصوفي من ناحية, وامتلاك الموقف الذي تعبّر عنه الملحمة, التي استطاع خيال الشاعر المحلّق, وثقافته العرفانية صياغة مقاطعها وألحانها في نسيج من الشعر الرفيع, والفكر المتوهّج, والرؤية النافذة, والإحكام الفني البديع.

تبلغ شاعرية الشاعر أحمد مخيمر ذروتها في تجسيد حال الصفاء والنقاء التي تغمر القلوب, وتنجذب إليها الأرواح, وكأننا في جو أثيري سماوي, عامر بالهدى والإشراق, فيّاض بالنزعة الإنسانية السامية, والألق الروحي المشعّ:

خلجات الأرواحِ ساعةَ تستجلى جمال الحياة في حسناءِ
وترى الغيْبَ في عيونٍ حسانٍ وترى السحر في وجوهٍ وِضاءِ
وتُحسّ الحنين أشبه شيءٍ بالهدوء العميقِ في القمْراءِ
أو كحزن الأصيل أو وهج الأنوار عند الظهيرة الحمراءِ
أو دوي الطبول والهولُ دانٍ أو عويلِ الرياح في الظلماءِ
فحنين يكون عند التنائي وحنين يكون عند اللقاءِ
وحنين يكون في ساعةَ التوديع والركب موغل في الفضاءِ
وحنين إلى حبيب تولّى في يد الموت لم يعدْ للرجاءِ
وحنينِ الصوفيّ يرفعُ عينيْه إلى عالمٍ له في السّماءِ
وحنين لغير شيءٍ تُحسّ الروح فيه برغبة في البكاءِ

***

إنّ قلب الإنسان أعظم شيء يا إلهي خلقْتَهُ في الوجودِ
هو أعلى من الخلود, وإن لم يك في الكون باقياً كالخلودِ
وهو بالرغم من حدود حناياهُ رحيبُ المدى بغير حدودِ
وهو معنيً من السعادة, حتى حين يبدو في العيش غيرَ سعيدِ
وهُوَ النقطة التي تبدأُ الأيّامُ منها, وتنتهي في الوجودِ

***

مثل هذا النَفَس الشعري العارم, والقدرة الشعرية الفذّة, واللغة الموحيةالمُعبّرة, في سلاسة ويُسْر وتدفّق, والإيقاع الموسيقي الجيّاش, يعلو هديره وتهمس أصداؤه, وتتراوح أنغامه وألحانه, يجعل من هذه الملحمة عملاً شعرياً من طراز فريد, فيه من الخيال الشعري انطلاقه وسبحاتهُ, ومن التاريخ حكمته وعبرته, ومن الواقع انعكاس مشاهده ومواقفه ومرائيه, ومن (الدراما) سخونتها وحركتها وجدلية حوارها, ومنطق بنائها المحكم.

وينسكب جمال العربية من خلال بهاء هذا الشعر وجلاله, ناطقاً بعمق نفاذه وتأثيره, وحرارة توهّجه وحفزه للهمم والعزائم, وندائه المقدس للإنسان العربي, وللأمة كلها, بالاحتشاد والعمل من أجل المعركة المقدّسة والمصير الواحد المشترك, مهما تكاثفت الظلمات أو طالت التحدّيات والمواجهات.

 

فـاروق شوشة