إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي

(العاشق)

نظر العصفور إلى الأفق, أجال بصره في الكون, شعر بالتماع الضوء خلال جميع الكائنات, تذكر زهرته في الجبال البعيدة, فغرق في الحنين, إن الرحلة إلى هناك طويلة وشاقة, ثم إن تلك الزهرة وحشية الجمال تستغرب أحيانا تحديقه الطويل فيها, فيغرق في عرق الخجل, وإنها لشديدة الذكاء واليقظة تلك الزهرة الفاتنة. فحتى عندما يتسلل بين وريقات الشجر وأغصانه, ويظل يراقبها من بعيد, فإنها سرعان ما تستشعر وجوده.. فتناديه مستفسرة عن سبب ابتعاده وتسأله عن حاله, فيشعر بضياع الحيلة تجاه عاطفته الفائرة نحوها. يا للارتباك, لا يعرف لماذا وقد رآها مرة في طيرانه الممتد نحو أعالي الجبال. ظل مفتونا بها ومسحورا برائحتها التي يكاد يشمها من هذا البعد. لكنه لا يعرف تماما لماذا ينشد إليها. لقد رأى في طيرانه وتجواله كثيرا من صور الجمال وحضوره الطاغي, فلماذا تحاصره هذه الزهرة بجمالها الأخاذ, وتطفو فوق كل شيء يراه, حتى لكأن صورتها تختلط بصور كل تلك المخلوقات في ذلك المدى الذي يسكنه.

لقد ظل فترة طويلة يفكر في ذلك الافتتان الذي يملك عليه حواسه, ويقبض منه القلب فلا يجد جوابا مقنعا, فإن علله برائحتها الزكية فالوديان في الربيع, وأماسي الصيف تشتعل بروائح لا تحصى ولا تخفى فتنتها. وإن علله بجمالها فالكون يضج بالجمال.

لقد حار كثيرا وفكر في ذات لحظة شجاعة أن يسألها بعد أن أعيته الإجابة, فقرر ذات يوم زيارتها وسؤالها, تعثر في كلماته طويلا, إلى أن امتلك السؤال. قال لها: يا زهرتي العزيزة.. أرجو ألا يزعجك ما أقول.. غير أني متيم بك وعاشق منذ رأيتك في العام الماضي.. ولا أعرف لماذا يضيق الفضاء حينما لا يؤدي إليك. كأنه لا مسارب هناك تأخذني, كأنه لا فضاء هناك يتسع لجناحي.. كأن كل صور الكائنات هي ظل منك.

وأنت يزعجك تحديقي الطويل وتكتشفين سري ووجودي المختبيء بين الأوراق.

فماذا أفعل? أفر منك فأقر إليك, فهل لك رأي في هذا?

تمايلت وتبسمت, ولم تبد دهشة, وغرق الكون في عطرها الذي تسرب جانحا مع الريح, فضج الكون بالغناء.. واتسعت عينا العصفور دهشة. لقد حسب أنه العاشق الوحيد لها, فتملكته الحيرة, لكن الزهرة مالت نحوه بتواضع شديد, وقالت له: أتعرف, لقد سألت الله يوما لماذا خلقني بهذا الجمال, وأقصاني في الجبال البعيدة, وجعل العشاق يهيمون حولي? حقيقة إن ذلك أسعدني في البداية, لكنه أصبح يزعجني بعد ذلك. سألته اجعل الجمال في داخلي, واجعلني زهرة عادية يمر المارق بها فيقف برهة ثم ينساها في خضم ما يرى.. حتى أهنأ بحياتي.

لكنني علمت أنني خلقت بهذا الجمال الظاهر الباطن حتى يهتدي التائه عن جمال نفسه بي, لأنني صورة لكل جمال غاف وقابع في نفوس الأحياء فإذا مروا بي, وانتشوا بالجمال.. ظلوا يطلبون قربي ويحومون حولي في رحلة قد تطول أو تقصر, لكنهم في آخر المطاف سيجدونني في داخلهم.. جمالهم الغافي.. أيقظه جمالي, فيعرف حياته الظاهرة والباطنة. ولدهشة العصفور الذي كان يدور حولها, اكتشف فجأة أن هذه الزهرة المتلألئة ليست إلا حقيقة غافية في أعماقه.. لاحت له بعد طول احتجاب.. فجأة لم يعد الأفق ضيقا وإنما اتسع بذلك الجمال الذي سطع من داخل نفسه.

 

مريم خلفان