البعد المتوسطي في تعزيز حوار الحضارات

البعد المتوسطي في تعزيز حوار الحضارات

في حقبة يكثر فيها الكلام عن صراع الحضارات والأديان والثقافات، من المهم مقاربة الإشكاليات وتقديم المقترحات لكي تصبح العولمة إنسانية وعادلة، ولكي يصبح تنوع الثقافات والأديان وتفاعلها حافزا لبلورة شراكات وتنظيم اختلافات، بدل أن يكون سببا لنزاعات قاتلة تنعكس ويلا على الجميع، على الأقوياء كما على الضعفاء، على الممسكين بزمام ما أمكن من النظام العالمي كما على الطامحين ليجدوا لهم مكانا تحت الشمس.

من نافل القول، أن تطور العالم السياسي تلازم مع الصراعات، ومن الطوباوية تخيل بلورة المدينة الفاضلة الأفلاطونية في عالم اليوم. انطلاقا من ذلك، يعتبر حوض البحر الأبيض المتوسط أنموذجا مصغرا للتفاعلات الكونية ومختبرا للنزاعات والحوارات.

فعبر التاريخ، كان البحر الأبيض المتوسط البحر الأكثر إنسانية وموئل الحضارات والديانات التوحيدية. ولقد كان قبل سقوط الأندلس واكتشاف القارة الأمريكية مركز العالم السياسي والاقتصادي والثقافي. في تاريخ المتوسط الزاخر، تتداخل الحضارات المصرية واليونانية والإسلامية والعربية والمسيحية والإمبراطوريات والأديان.

بالطبع، امتزج الحوار الحضاري بنزاعات حادة من الفتوحات الإسلامية إلى الحملات الصليبية وصولاً للاستعمار ونشأة دولة إسرائيل وبسبب كل هذه المعطيات ساد عدم الاستقرار ولم يعد المتوسط بحيرة سلام. واليوم مع صعود التحديات وموجات التطرف، تعتبر البوتقة المتوسطية خير حاضنة لحوار الحضارات نظراً لتنوعها الثقافي والقومي والديني. على ضفاف المتوسط تلتقي أوربا وآسيا وإفريقيا، وتتلاقى أو تتصارع الديانات الكبرى، ولذا حتى لا يصبح تصادم الحضارات والثقافات قاعدة في نزاعات القرن الحادي والعشرين المعولمة، يلعب التلاقي المتوسطي دورا استباقيا ضد احتدام الصراعات وتكريس القطيعة بين الغرب والشرق. في الماضي القريب، أعتبر الجنرال شارل ديجول الحوار الأوربي العربي حول المتوسط وتبادل القيم هما الكفيلان بمنع انتصار نمط من الحضارة الصناعية اللاإنسانية.

إن الحوار الصادق من دون خلفيات وأفكار مسبقة يسمح باستعادة دور حوض البحر الأبيض المتوسط كرافعة ثقافية للقيم الإنسانية ولحوار منتج ومبدع بين الحضارات والأفكار. في العالم المتوسطي الذي يفتش عن موقعه في عالم الألفية الثالثة وعن توازن جديد بين مكوناته، يمر تفهم الذات عبر تفهم «الآخر» من أجل بلورة شراكة فاعلة بين ضفتي المتوسط. ففي الحوار بين الشرق والغرب، يأتي الحوار المتوسطي في المقدمة ولذلك لم يكن عبثاً أن يختار الرئيس باراك أوباما تركيا ومصر المتوسطيتان كمكانين رمزيين لإصلاح علاقات أمريكا والعالم الإسلامي.

تراوحت صلات أوربا والعالم العربي بين حسن الجوار والخصومة الشديدة، لكنها بقيت من أهم ثوابت التاريخ المتوسطي ولا تزال تؤثر على مجمل مسار العلاقات الدولية.

نظرة تاريخية

منذ قرون يرتبط الواقع التاريخي لتصدع الوحدة المتوسطية وتجاذب الكراهية والتعاون بالحراك الديني والاقتصادي، مثل الفتح العربي والحملات الصليبية. لكن منعطف الانفصال وقع مع اكتشاف أمريكا الذي كرس تفوق أوربا الأطلسية على أوربا المتوسطية. بالنسبة للقارة القديمة، انتقل محور العالم شيئا فشيئا نحو الغرب، وخسر المشرق امتيازه السابق حيث الخيرات والطريق نحو الهند. ومما لا شك فيه أن نزاعات الإمبراطورية العثمانية والتاريخ الاستعماري، ونشأة دولة إسرائيل أسهمت في تفاقم الموقف.

منذ عدة قرون، يرتبط تاريخ العالم العربي بتاريخ الغرب الأوربي. وفي كل بلد عربي نجد لمسة غربية، وسبب ذلك الأثر الثقافي ووزن التاريخ الاستعماري، حيث كان العالم العربي موضوع صراع بين القوى المهيمنة. ومنطق الهيمنة هذا ترك بصماته على صلات أوربا والعرب منذ البداية. ومع أن حملة نابليون في مصر وفلسطين كانت أول تماس بين العرب والحداثة، لكن حينها لم ينظر لفرنسا كنموذج حضاري بل كمركز قوة، وافتتحت الحملة حقبة صدام القوى الأوربية في الشرق المتوسطي، وكانت أول مشروع استعماري أوربي منذ الحملات الصليبية. وهذا الشرخ بين الغرب والشرق تفاقم مع سقوط الإمبراطورية العثمانية، وتقاسم المشرق من خلال اتفاقية سايكس بيكو غداة الحرب العالمية الأولى. ومن غرائب الأمور أن القوميين العرب الذين نهلوا من مبادئ الثورة الفرنسية لمناهضة التتريك فوجئوا بفرنسا الاستعمارية. وهذا الماضي الاستعماري لبعض أوربا مازال ماثلا بشكل أقوى في بلدان المغرب العربي إذ إن نزع الاستعمار الذي عمل له ديجول لم يتبعه نزع الاستعمار من الذهنيات والممارسات، وما الجدل حول تنقية الذاكرة والتوبة بالنسبة للجزائر إلا دليل على هذا التخبط، وكأن ما يصلح لإدانة ما حصل إبان جمهورية فيشي (ممارسات مساعدة النازية والحملات ضد اليهود) لا يسري على حقب أخرى من تاريخ متوعك ومأساوي.

المقاربة الجيوبوليتيكية

بالرغم من أهمية العوامل التاريخية والثقافية والدينية والاقتصادية في الصراعات القائمة في المتوسط وحوله، لا يمكننا اختصارها بصراعات شمال جنوب أو صراعات مسيحية مسلمة أو صراعات متصلة بدولة الاحتلال الاسرائيلي. إنها صراعات أكثر تعقيدا تتدخل فيها القوى العظمى والقوى الإقليمية المجاورة، وهي تتصل بالدين واللغة وعدم التقسيم العادل للثروات. حسب عالم الجغرافيا الفرنسي إيف لاكوست، تعتبر المقاربة الجيوبوليتيكية وليس التاريخية المحض، هي المقاربة الأفضل لفهم موازين القوى وطبيعة الصراعات بين دول ومجموعات على امتداد 12000 كلم. أبعد من الرؤية الثنائية للبحر المتوسط بين الشمال والجنوب، هناك أهمية للتنافس على الأرض والإقليم، إذ إن معظم التوترات الجيوبوليتيكية حول المتوسط تترجم التنافس على الأرض: الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، صراع الصحراء الغربية، وصراع الأتراك والأكراد أو صراعات الإسبان الكاستالانيين والباسك والكاتالان وأيضاً صراعات البلقان.

إن الدراسة الجيو سياسية للبحر الأبيض المتوسط تلزمنا إذن بالأخذ في الحسبان التعدد الكبير في الإرث التاريخي وعلاقات القوة المختلفة منذ النزاعات القديمة إلى الصراع من أجل البترول والطاقة. من الناحية الجيو استراتيجية، يعتبر شريان البحر الأبيض المتوسط حيويا بالنسبة لاستراتيجيات القوى العظمى كممر للطاقة ولموقعه بين أوربا وإفريقيا وآسيا.

زيادة على النظرة إلى الإسلام والصراع العربي الإسرائيلي، شكلت حرب الجزائر علامة فارقة في تركيب النظرات المتبادلة بين الأوربيين والعرب. وغالبا ما نظر الإنسان العربي في جنوب المتوسط إلى أوربا كأداة للقوة والسيطرة، فيما نظر الناس في أوربا للعالم العربي عبر منظار الإرهاب أو البترودولار. ولاحقا ومع تمركز المهاجرين أصبح هناك شرق في الغرب، كما يوجد غرب في الشرق، واختلطت الأمور مع صعود الحركات الراديكالية الاسلامية أو النظرات المعادية للإسلام مما عقد الموقف داخل أوربا وبين الضفتين. لذا تعتبر الشراكة الأوربية المتوسطية أو الاتحاد المتوسطي حاجة سياسية واقتصادية ومشاريع جديرة بالمتابعة شرط أن تتسم بالندية وتحفز الاندماج في الجنوب، وأن لا تكون غطاء لتوسع الأسواق الأوربية.

العامل الثقافي

لا يمكن استبعاد الهوة الثقافية أو العلاقات بين الأديان من أي نظرة شمولية للتطور الاجتماعي والسياسي للعالم المتوسطي. في كتابه «الشرق الخيالي» يقول تييري هانتش إن «الشرق، خاصة الشرق المتوسطي شكل مرآة ومرجعا بالنسبة للضمير الغربي». وهذه المقاربة تنطبق على العالم العربي الذي يتطلع عادة نحو الغرب الأوربي قبل تموضعه.

ومن المعطيات الأخرى مشكلة العرب مع الحداثة وهي ناتجة عن النظرة إليها كتقليد للغرب، وليس نتيجة مسار داخلي ومحلي. وهناك أيضا مسائل الأقليات وأساليب الانفتاح التي ينظر إليها كتهديد لهوية المجتمعات.

بيد أن الإشكالية الكبرى تكمن في التعايش بين الديانات وخصوصا بين المسيحية والإسلام. ومع نمو الإسلام داخل أوربا، لا بد من استحضار نموذج الأندلس وفضله على الحضارة الأوربية التي لها جذورها المتوسطية والتي لولا حركة النقل عبر العرب لما تمكنت من اكتساب مجمل المعارف، وفصل الكنيسة عن الدولة. نعود إلى توينبي الذي حذر من خطر الأصوليات النائمة وشدد على التواصل الحضاري. والمتوسط زاخر بما قدمه للانسانية والآن إذا لم تنقل التكنولوجيا وعناصر التقدم لدوله النامية، فيعد ذلك إخلالا بقواعد حسن السلوك الإنساني وإنتاجا للإحباط وعوامل الصراع.

الخلاصة

في طنجة في اكتوبر 2007 توجه الرئيس نيكولا ساركوزي بهذه العبارات المؤثرة قائلا: «إلى كل المتوسطيين أريد أن أقول إن الوقت قد حان لننتقل من الحوار إلى السياسة، وإن الوقت قد حان لنتجاوز النقاش ونبدأ بالبناء.

هنا سيتحدد الجواب، نفياً أم إيجاباً، عمّا إذا كانت الحضارات والديانات ستتجابه في أقسى الحروب. في المتوسّط سيتقرّر ما إذا كان الشمال والجنوب ستجابهان أم لا. في المتوسّط سيتقرّر ما إذا كان الإرهاب والتطرف والأصولية ستنجح في فرض منطق العنف وعدم التسامح على العالم. هنا، سنربح أو نخسر كلّ شيء.

هنا سيُتّخذ قرار حاسم بالنسبة لمستقبل أوربا ومستقبل إفريقيا».

بالطبع، المهم أن تقترن الأقوال بالأفعال بالنسبة لكل اللاعبين حول المتوسط. فمن دون حوار متكافئ وتقاسم التنمية، ومن دون الاعتراف بالآخر، لن يحصل التقدم المطلوب. إذا اعتبرت أوربا نفسها قلعة محصنة وأن جبل طارق والبحر الابيض المتوسط هما جدار برلين الجديد بوجه طالبي الهجرة، فحينها من سيقتنع في إفريقيا والمشرق بالمشروع المتوسطي?!

إن الفكرة المتوسطية هي قبل كل شيء فكرة إنسانية. إن العدالة والمحبة والتسامح هي القيم المطلوبة لمواجهة التعصب والإقصاء وآلام التاريخ وأوجاع الحاضر.

من الناحية العملية، من دون الاعتراف بالحق الفلسطيني وإقامة الدولة الفلسطينية، لا يمكن إطلاق الاتحاد المتوسطي الذي يمثل جانباً أساسياً من سياسة الاتحاد الأوربي الخارجية إذا أراد أن يكون موجودا كقوة توازن في عالم متعدد الأقطاب.

حول المتوسط سيتقرر حيز كبير من مستقبل اللعبة الدولية ومستقبل التنوع الحضاري والثقافي. ولهذا إذا لم يتم التركيز على البعد المتوسطي في تعزيز حوار الحضارات، ستكون الكلمة لنظرية هينتينجتون حول الصدام الحتمي والمفتوح.

 

 

خطار أبودياب