بدر شاكر السَّيَّاب.. أنشودة المطر الخالدة.. شاعر العدد

بدر شاكر السَّيَّاب.. أنشودة المطر الخالدة.. شاعر العدد

كثيرون من قراء الشعر العربي ومحبيه سيندهشون عندما يعلمون أن بدر شاكر السياب، الذي ملأ حياة القصيدة العربية في سمتها الحر، وشغل مؤيديها ومناهضيها على حد سواء - منذ ما يقرب ستة عقود من الزمن - لم يعش أكثر من 38 عاما فقط.

لكن الجميع يعرف أن أعوام السيَّاب تلك كانت مزدحمة بأحداث شعرية وسياسية وفكرية واجتماعية وإنسانية، من السهل البحث عن أصدائها في مجمل تركته الشعرية، التي توزعت في دواوين كثيرة نُشر أغلبها قبل وفاته، في حين نُشرت البقية منها بعد ذلك ومنها: أزهار ذابلة - أساطـير - حفار القبور - المومس العمياء - الأسلحة والأطفال - أنشودة المطر - المعبد الغريق - منزل الأقنان - أزهار وأساطير - شناشيل ابنة الجلبي - إقبال وشناشيل ابنة الجلبي - قيثارة الريح - أعاصير - الهدايا - البواكير - فجر السلام - وبعض الترجمات الشعرية والكتب النثرية.

وعلى الرغم من أهمية النتاج الشعري الضخم نسبيا الذي تركه السيَّاب وراءه فإن قصيدة أنشودة المطر تظل هي جوهرة التاج السيَّابي، فقد اعتبرت هذه القصيدة تحديدا إيقونة حية للشعر العربي الحديث، وجعلت من شاعرها رمزا لهذا النوع من الشعر، الذي كان جديدا وغريبا إلى حد كبير على الذائقة العربية، ولعله بقي كذلك حتى يومنا هذا.

ولد بدر شاكر بن عبدالجبار بن مرزوق السيَّاب في أواخر العام 1925 في قرية منسية تسمى جيكور تغفو على ضفة نهير منسي هو الآخر ويسمى بويب، لكن القرية والنهير سيصيران - فيما بعد - من أشهر الجغرافيات الشعرية في الشعر العربي الحديث بفضل هيام السيَّاب بهما كوطن أول، فقد خلد الشاعر المزدحم بالمكان ومفرداته طبيعتهما الريفية الساحرة في قصائد كثيرة جعلت من تلك الجغرافيا الغافية في جنوب العراق.. أحد أشهر المعالم العربية في القصيدة الحديثة.

درس السيَّاب مراحل التعليم الأولى في مدارس محافظة البصرة جنوب العراق قبل أن ينتقل إلى بغداد ليتم تعليمه العالي في دار المعلمين، متخصصا في الأدب العربي، لكنه سرعان ما غير تخصصه إلى الأدب الإنجليزي، ومن الأدبين نهل الكثير ووسع قراءاته باللغة الإنجليزية إلى جانب اللغة العربية فاطلع على تجارب شعرية مختلفة راوحت ما بين الجديد والقديم وما بين العربي والغربي، فكان سريع التأثر بما يقرأ، وقد وجد النقاد في دواوينه الأولى الكثير من الأصداء لما كان يقرأه وخصوصا من الشعر الإنجليزي الحديث، وكانت قراءته للأساطير الغربية بمنزلة الكنز الذي وضحت آثاره في معظم ما كتبه من قصائد بعد ذلك.

وفي دار المعلمين التقى السياب بالكثير من الأصدقاء والصديقات ومنهم لميعة عباس عمارة، الشاعرة الجميلة التي ارتبط معها بواحدة من قصصه العاطفية الفاشلة، تلك القصص التي عاشها وأنتج بعض قصيده في خضمها البائس، حيث أورثته بعض أحزانه الكثيرة. كما التقى أثناء دراسته أيضا بآخرين كانوا شهودا على بداياته الرائدة في الشعر العربي الحديث، وشارك بعضهم معه فيما بعد في التأسيس لمرحلة جديدة ومهمة من مراحل القصيدة العربية، ومن أبرز هؤلاء على الإطلاق الشاعرة نازك الملائكة، التي نازعته مجد كتابة القصيدة التفعيلية الأولى في الشعر العربي. فعلى الرغم من بعض التجارب التحديثية التي مرت بها القصيدة العربية منذ مطالع القرن العشرين على يد بعض الشعراء المغمورين إلا أنها ظلت تجارب خجولة، سرعان ما تخلى عنها أصحابها. أما محاولتا السيَّاب والملائكة فقد كانتا محاولتين جادتين، وقد أصر الشاعران عليهما في كل نتاجاتهما اللاحقة. وقد اختلف مؤرخو الأدب حول أسبقية كل منهما للآخر، ففريق من النقاد يرى أن الملائكة سبقت السياب بقصيدتها «الكوليرا»، في حين يرى فريق آخر أن السيَّاب كان هو الأسبق بقصيدته «هل كان حبا»؟

والأرجح أنهما يتشاركان في الأسبقية، فقد كانت تجربتاهما ناتجتين عن مناخ أدبي واحد، ساد في زمن واحد، وقد نشرت القصيدتان في وقت واحد تقريبا إحداهما في مجلة والأخرى في ديوان، فبقي ذلك الفارق الزمني المنطقي بينهما متكئا على سرعة النشر في مجلة مقارنة بسرعته في ديوان. لكننا ينبغي ألا نهمل فريقا ثالثا ينتمي أعضاؤه للفريقين، ويتشاركان الإيمان بأهمية السياب الاستثنائية في حقل الشعر العربي الحديث، مقارنة له بالملائكة، ففي الوقت الذي تراجعت فيه شعرية الملائكة، وربما نكصت نكوصا غير مفهوم خلال سنوات قليلة ،فإن شعرية السياب تألقت تألقا تبدى في عدد كبير من المطولات الشعرية التي لا تقل عن «أنشودة المطر» في القيمة الفنية مثل «المومس العمياء» و«حفار القبور» و«الأسلحة والأطفال» وغيرها.

ولعل في ارتباط بدر شاكر السيَّاب بمجلة شعر التي كانت تصدر في بيروت آنذاك ساهم في ترسيخ ذلك الاسم في ذاكرة الشعر، فقد كان السيَّاب أحد أهم فرسان تلك المجلة التي بدت فريدة من نوعها في مناخ الصحافة الأدبية العربية في ذلك الوقت، وقدمت كوكبة من الأسماء الشعرية العربية المرموقة.

وكان من المرجح تطور شعرية السياب بشكل أكبر لولا الظروف السياسية التي عانى الكثير من تقلباتها، وهو يتقلب بينها منكويا بجمر ذلك التقلب السريع، والظروف المرضية القاسية التي عانى منها خلال السنوات الثلاث الأخيرة من عمره. فقد عانى السيَّاب من مرض غريب ذوّب جسده النحيل شيئا فشيئا حتى صارت عظامه تتكسر ويتساقط فتاتها على فراش المرض لأقل حركة من فرط الهشاشة. وقد سافر لأكثر من بلد عربي وأجنبي في سبيل العلاج، وعانى كثيرا بسبب عدم قدرته على تحمل تكاليف العلاج، قبل أن تتبرع الحكومة الكويتية آنذاك بتكاليف علاجه، فاستقر به مقام المرض على سرير في المستشفى الأميري في الكويت، بين مجموعة من أصدقائه الكويتيين والعرب المقيمين في الكويت. وعندما حانت لحظة النهاية لم يجد صديقه الشاعر الكويتي علي السبتي، خيارا أفضل من حمل الجسد الذي أتعبته الروح المتطلعة كثيرا، لدفنه في وطنه.

كان ذلك في شتاء العام 1964، وكانت السماء لحظتها تودع شاعر أنشودة المطر بالكثير من المطر.. وتنشد على وقع اللحن السيَّابي الخالد : مطر مطر مطر.

 

 

سعدية مفرح

اعلانات