محمود درويش والترجمة.. د. محمد شاهين

محمود درويش والترجمة.. د. محمد شاهين

ترجم شعر محمود درويش إلى لغات عدة. لكن الذي لا نعرفه عن محمود درويش أنه لا يعبأ بنقل شعره إلى أية لغة أجنبية، وأنه زاهد كل الزهد في قضية الترجمة من العربية إلى غيرها من اللغات، أي أنه راض كل الرضا عن محمود درويش الشاعر الذي يكتب بالعربية. بعبارة أخرى نجد محمود درويش متحررا تماماً من عقدة الخواجا، وأستطيع أن أقول إن كل ما ترجم له جاء بطلب من الجهة المترجمة، أي أن مبادرة الترجمة تأتي من الطرف الآخر، وأنا متأكد أنه لم يقدّم عرضاً لأية جهة من شأنها ترجمة شعره.

ما يهمه في الموضوع برمته إذا حصلت الترجمة هو أن تكون دقيقة بقدر الإمكان، ولا يمانع أبداً في قراءة الترجمة قبل أن تصل إلى المرحلة النهائية، بل ويغضب إذا خرجت الترجمة في شكلها النهائي دون أن يكون قد اطلع عليها.

كم كان سروري عندما وافق أن أترجم «كزهر اللوز أو أبعد» بعد أن تقدمت بطلب له بذلك. قرأ الترجمة كلمة كلمة. عقدنا اجتماعات دورية لمناقشة الترجمة. لا يطيل الجدل حول نقطة خلافية، إذ سرعان ما يقول لك بكل أدب وتلقائية: «أنت أدرى». وفي أحيان كثيرة كنت أصر على أن يطول الجدل بدل الاستسلام الذي مبعثه التقدير للغير والثقة بالنفس. أكثر إشكالية في الترجمة برزت في قصيدة «نهار الثلاثاء والجو صاف»، إذ أشكلت عليّ بعض مقاطع القصيدة. ظن أنه كان غامضاً وأنه يمكن تدارك الغموض بإضافة بيت أو أكثر ينير السبيل أمام القارئ. لم أتحمس للفكرة اعتقاداً أن ما أشكل علي يمكن ألا يشكل إشكالاً على غيري من القراء، وتوجهت للشاعر قائلاً إنني لا أمثل تلك الشريحة الواسعة من القرّاء. وبالفعل عرضت القصيدة على عدة قراء، منهم من استطاع بسهولة أن يستشف الخلفية ويقدم قراءة من خلال هذه الخلفية وهي رحيل نزار قباني، وبالمناسبة ذكر لي محمود درويش أنها قصيدته المفضلة في الديوان.

أحضر إلي محمود درويش في يوم من الأيام رسالة وردت إليه من مجلة أدبية ثقافية تصدر في أمريكا وهي Virginia Quarterly Review، تطلب منه مساهمة من شعره يكون ضمن مختارات شعرية فلسطينية تنوي المجلة نشرها. طلب مني محمود درويش أن احتفظ بالرسالة وأرد عليها وأختار ما أريد من «كزهر اللوز أو أبعد». بعثت للمحرر بقصيدة «ضباب كثيف على الجسر» وبعد انتظار ما يقرب من عامين ظهرت القصيدة في المجلة المذكورة، مع مقدمة قصيرة وتعليق من المحرر المسئول عن المختارات في المجلة (وهو محرر من بين محررين غير دائمين، أي أنه ليس المحرر المسئول).

علم محمود درويش وهو في رام الله من أحد الشعراء الفلسطينيين هناك أن القصيدة قد ظهرت، وأخبرني محمود بذلك في آخر لقاء عندما حضر إلى عمان وهو في طريقه إلى مستشفى هيوستن. كانت قد وصلتني نسخة من المجلة قبل ذلك اللقاء بيومين. حمدت الله ألف حمد أن محمود لم ير ذلك العدد من المجلة الذي ظهرت فيه القصيدة، بالرغم من أنه كان مسروراً نوعاً ما بالخبر، وحمدت الله مرة أخرى أن الملف انتهى عند هذا الحد: تسمع بنشر القصيدة خير من أن تقرأ الخبر بتفاصيله. كان الجميع طبعاً يحرص أشد الحرص على ألا يصل محمود أي خبر يزعجه مهما كان بسيطاً. فلديه ما يكفي: فقد انتظر شهورا للحصول على فيزا وهو يرى شبح الموت يقترب منه ساعة بعد ساعة!

مقدمة وجريمة

أثناء الإعداد لنشر القصيدة في المجلة برزت استفسارات عديدة لدى المحرر أبرزها، العنوان، إذ اقترح المحرر أن يكون واضحاً، وقدم اقتراحات منها جسر أريحا، جسر اللنبي، جسر العبور بين الجهات الأربع، إلى آخر ذلك. آثر محمود وكنت أوافقه على ذلك، أن يظل العنوان غامضاً كما هو «ضباب كثيف على الجسر». أما الترجمة فكان محمود مطمئناً إليها لأنه قرأها.

المشكلة في المقدمة التي لم يطلعني عليها المحرر، إنها تشوه القصيدة جملة وتفصيلاً، ولا يكتبها إلا من هو عاجز عن أبسط قراءة للشعر. يتساءل المحرر في خاتمة مقدمته قائلاً: من هي هذه المجندة التي تظهر بطريقة فجائية ومن دون تقديم مفهوم لظهورها وبعد ما ينوف عن اثنتي عشرة صفحة من حوار غير مباشر بين رجلين؟ هذا تساؤل خارج عن سياق القصيدة تماماً. وكأن المحرر قرأ القصيدة من آخرها ليقول لنا إن محمود درويش لا يعرف كيف يربط بين الأشياء، ويتهمه زوراً وبهتاناً بخروجه عن النص الذي أبدعه. والمحرر أيضاً في غُفْل عن خلفية القصيدة التي تشكل فيها صورة المجندة مفصلاً مهماً في القصيدة. وباختصار ضل المحرر السبيل إلى المستوى الفني الرفيع لقصيدة محمود درويش الذي يصل الذروة في هذا التقاطع. وقبل المزيد من التعليق على قراءة المحرر أود أن أقتطف أبيات القصيدة الأخيرة التي أُشكل استيعابها على المحرر لتشهد بنفسها على عدم صحة ما يدعيه:

كنت وحيداً على الجسر، في ذلك
اليوم، بعد اعتكاف المسيح على
جبل في ضواحي أريحا... وقبل القيامة.
أمشي ولا أستطيع الدخول ولا أستطيع
الخروج... أدور كزهرة عبّاد شمس.
وفي الليل يوقظني صوت حارسة الليل
حين تغني لصاحبها:
لا تعدني بشيء
ولا تهدني
وردةً من أريحا!

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو كيف فات على المحرر أن المتكلم هنا هو في واقع الأمر شخص واحد: الشاعر وذاته. مثل: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل...» أو مثل: «دعنا نذهب أنت وأنا» في قصيدة إليوت «أغنية العاشق روفروك» وتعرف هذه التقنية بمسرحة الحدث، أو الخطاب الذي مفاده في النهاية التأسيس لحوار داخلي في القصيدة يرقى على المونولوج التقليدي. ويعترف محمود درويش بقيمة هذه التقنية التي كان من روادها ملارمي وإليوت، والتي تشكل ركناً رئيسياً في شعره، وهي تقنية تحيل إلى الحوار الذي من شأنه أن يثري منظور القصيدة. غير أن ما يثير الدهشة فعلاً هو عدم تعرف المحرر على الموتيف الرئيسي الذي تشكله المجندة الإسرائيلية، والتي ظن المحرر أن محمود درويش أقحمها على القصيدة. والسياق الذي ينبع منه هذا الموتيف معروف لدى الألوف التي تقطع الجسر ذهاباً وإياباً، وهي تجربة فريدة من نوعها في قطع الحدود نجح محمود درويش نجاحاً فريداً في التقاط أبعادها.

تجربة حيّة

بعد حرب يونيو عام 1967، نشأت نقطة حدود على جسر نهر الأردن تسيطر عليها إسرائيل، ولم يتغير الحال بعد اتفاق أوسلو كثيراً، إذ أضيفت نقطة حدود في أريحا لا تنتقص بأي شكل من الأشكال من سيطرة إسرائيل الكاملة تقريباً على الحد الفاصل بين ضفتي النهر. كاتب هذه السطور مر بالتجربة أكثر من مرة آخرها قبل فترة عندما توجهت إلى رام الله على رأس وفد يمثل مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، بصفتي عضوا في مجلس أمناء الجائزة، للمشاركة في نشاطات القدس عاصمة الثقافة العربية. وكان من المفروض أن يلقى الوفد معاملة سهلة بصفته يحمل دعوة رسمية من السلطة، غير أن خللاً فنياً - وما أكثر أنواع الخلل التي يفاجئك بها الطرف الآخر- نشأ أثناء إجراء المعاملات وهو إصرار الجانب الإسرائيلي على ختم جوازات سفر الوفد. وقد كلّفنا رفضنا لذلك انتظار ما يزيد عن أربع ساعات، لحين الحصول على أمر من القيادة الإسرائيلية في بيت إيل بالعبور دون ختم الجوازات. ولم يكن لدي من عزاء أتشبث به للتغلب على الضجر الذي يصاحب الإقامة الجبرية في قاعة الانتظار سوى أبيات محمود درويش: «أمشي ولا أستطيع الدخول ولا أستطيع الخروج.... أدور كزهرة عباد شمس». ولو امتد الانتظار إلى ساعات الليل - ويحصل هذا في بعض الأحيان- لوجدتني أردد بقية الأبيات المذكورة أعلاه كنوع من المواساة.

وفي العودة وجدت نفسي ورفاقي من الوفد نقف في صف طويل، أمام شباك فحص الجوازات التي تقبع خلفه المجندة. عندما طال الانتظار دون عمل أي شيء، تقدمت الصف لأسأل المجندة عن سبب التأخير. أجابت «المشكلة الكمبيوتر» أجبتها المعروف أنكم دولة متقدمة تكنولوجياً، وهل تجهيز كمبيوتر يعمل من دون مشكلة أصعب من تجهيز مفاعل ذري في ديمونة؟ لست أدري إن فهمت ما قلت، ولكن النتيجة واحدة، إذ لا يهمّها ما تسمع من الغير، فهي كبقية المجندات في سن المراهقة اللواتي تختارهن دولة الاحتلال الاسرائيلي للعمل في هذه المهمة، غير معنيات بالاعتراف بوجود الآخر أصلاً. بجانب كلمات محمود درويش المواسية تذكرت كلمات الروائي البريطاني المعروف ي.م.فورستر الذي وصف فئة الشباب التي كانت الإمبراطورية البريطانية توليها عناية خاصة في التربية البدنية فتبني أجسادهم ولا تنمي قلوبهم، نحت فورستر تلك العبارة التي دخلت القاموس وهي They have undeveloped hearts. أي أنهم تربوا على أن تكون قلوبهم جاحدة لا مكان فيها للعواطف.

هل كان بإمكان المحرر أن يتعرف على قيمة المفصل الأخير الجامع لأجزاء القصيدة لو أنه مر فعلاً بتجربة عبور الجسر مثل ما مر بها شخصياً محمود درويش مراراً أثناء تنقله بين رام الله وعمان؟ علمت من المحرر نفسه أنه عبر الجسر ولكن من الجهة التي يعبر منها ذوو الحظ الأوفر من الذين يحملون جوازات سفر أجنبية أو من الذين يحصلون على تأشيرة من السفارة الإسرائيلية. والمحرر فلسطيني الأصل من أب هاجر جده إلى أمريكا قبل عقود يحمل جواز سفر أمريكيا، ولا يعرف العربية. وربما هذا ما جعله مؤهلاً لعقد صفقة المختارات الشعرية مع بعض الشعراء الذين يقيمون في أراضي السلطة.

ولعل المحرر حوّم حول مغزى القصيدة بعد أن استخرج معنى وردة أريحا التي ترد في سِفْر العهد القديم، ومفادها أن تلك الوردة بعد أن عاشت سنوات في الجفاف حظيت في نهاية المطاف بنعمة الماء الذي أعاد الحياة إليها من جديد. لكن هذا التحويم يظل بعيداً عن منظور القصيدة التي يراها محمود درويش من خلال نظرة المجندة التي ترى أن لا سلام ممكنا بين الأنا التي تمثلها المجندة والآخر الذي يتمثل في الفلسطينيين. من هنا يأتي طلبها الصريح من صاحبها الذي ربما يكون مجنداً يعمل في جهة ما في منطقة الجسر، لا تعدني بشيء، ولا تهدني، وردة من أريحا. لا ينبع طلبها هذا من تشاؤم أو من تقييم متشائم للموقف، فصوت محمود درويش غير صوت المجندة. هذا غير وارد. بل إن طلب المجندة هذا يأتي ضمن ثقة بالواقع الذي خلقته إسرائيل على أرض الواقع، والتي تشكل امتداداً للواقع المعيش. عباراتها هذه تعني ضمنياً أن السلام غير وارد وعداً ولا هدية، وأنه ليس شيئاً يوعد به أو هدية تقدم. لا أعرف شاعراً غير محمود درويش لديه القدرة على تكثيف تاريخ الصراع الشرس بين طرفين في كلمات قليلة. ليس السلام أمراً معلقاً إلى الأبد، كما هي الحال عند من ينتصرون إلى ما بعد الحداثة التي لا يؤمن بها شاعرنا. هذا هو صوت محمود الضمني في القصيدة، والذي ضل المحرر السبيل إلى سماعه.

وبعد، فلا يسعنا إلا أن نقدر تحفظ محمود درويش على الترجمة لما فيها من متاهات قد تعصف بالأصل، لكن هذا لا يعني أنه يغض الطرف عن قضية الترجمة والتعليق عليها. سمعته مرة يعبر عن رضاه عن ترجمة إبراهيم مهوي لـ «ذاكرة للنسيان» وعدد من قصائده، وأكثر ما يزعجه أن تظهر ترجمة لأشعاره دون أن تُهيأ له الفرصة لقراءتها كما حصل مع ترجمة «لماذا تركت الحصان وحيداً» وقد قرأها أمامي معبراً عن استيائه للأخطاء التي كان يمكن تلاشيها لو تمت قراءتها في مرحلة سابقة للطباعة النهائية وأكثر الترجمات التي راقت له هي الترجمات إلى الفرنسية والتي جذبت جمهوراً عريضاً أصبح يحرص على سماع أمسياته الشعرية التي يصفها بأنها أنجح الأمسيات. طلب منه مرة أكاديمي عربي في المنفى أن يترجمه. سأله محمود درويش إذا سبق أن ترجم لأحد من قبل. أجاب الأكاديمي بالنفي. نصحه محمود أن يبحث عن شخص آخر يتعلم فيه الترجمة! أكاديمية أخرى مختصة في الترجمة قامت بترجمة «أثر الفراشة». لكن الترجمة لم تعجبه. دار حديث بينهما على الهاتف وكانت تصر على أن ترجمتها فاخرة. طلب منها محمود في النهاية ألا تهاتفه مرة أخرى، بل وأن تمحو رقمه من المكان المسجل فيه! أما الشاعرة البريطانية فقد أدعت على مسمعي أنها هي الوحيدة القادرة على ترجمة محمود درويش، مع أن حضورها لا يتعدى الندوات والمؤتمرات العربية التي تدعى إليها. أخبرها محمود أنه سيقاضيها لو أقدمت على ترجمته.

الشعر عند محمود درويش قضية التزام تسمو على كل مصالِحه. ذكر لي أنه لا يكتب الشعر وعينه على الترجمة (ربما قصد الإشارة إلى ممارسة بعض الخواجاتية) هنا تتجسم أصالة محمود وارتباطه الأزلي بالعربية. أما الترجمة، فهي قضية على المحبين لمحمود درويش والقادرين على الترجمة أن يلتزموا بها، إن كنا نريد المحافظة على المكانة التي يتبوؤها محمود درويش على خارطة العالم الشعرية. علينا أن نحاصر حصاره وأن نردع من يحاول اختزاله.

----------------------------------

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر.
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء... كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر
كأنما تنبض في غوريهما، النّجومْ...
وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء،
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف،
والموت، والميلاد، والظلام، والضياء؛
فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاء
ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء
كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر

بدر شاكر السياب

 

 

محمد شاهين
اعلانات




محمود درويش