الرحيل إلى القاهرة

الرحيل إلى القاهرة

عندما حصلت على الثانوية العامة في سنة 1960، لم أكن ذهبت إلى القاهرة سوى مرة واحدة، في الرحلة العلمية التي كانت تنظمها المدارس الثانوية في ذلك الزمان، كي تتيح للطلاب معرفة أهم عواصم وطنهم القديمة والحديثة، وهو تقليد لم يعد موجودا، خصوصا بعد انتشار الجامعات في المحافظات المصرية، وهو أمرٌ ترتب عليه وجود خريج جامعة، لم ير من وطنه سوى حدود المحافظة التي وُلِدَ وتعلم فيها، وكانت النتيجة أن بعضهم لم ير مسرحاً في حياته، ولم يعرف التنوع الجغرافي والثقافي والبشري لوطنه.

هو أمر يلازم ضيق الأفق، وضآلة الثقافة، والقابلية لتلقي بذور التعصب والتطرف، خصوصا في محافظات الجنوب التي ظلت بعيدة عن الاهتمام الحكومي طويلا. وكان أبناء جيلي أسعد حظا، خصوصا في الوجه البحري، فقد كانت الرحلات العلمية تتجه إلى الجنوب، حيث الأقصر وأسوان، أو إلى الشمال، حيث الإسكندرية. وكم كنت أود أن أذهب إلى السد العالي الذي دفعت رغبة بنائه، في مواجهة رفض البنك الدولي وسلبية الحكومة الأمريكية، عبدالناصر إلى تأميم قناة السويس، ومواجهة العدوان الثلاثي الذي خرجت منه مصر زعيمة للوطن العربي، وعبدالناصر بطلاً قومياً. وكانت الرحلة العلمية لمدرستي إلى القاهرة التي كنت أحلم بالالتحاق بجامعتها، خصوصا القسم الذي ينتمي إليه طه حسين الذي سيطر على مخيلتي وعقلي، منذ أن قرأت له «الأيام» التي دفعتني إلى التهام بقية كتبه المتاحة في مكتبة المدرسة ومكتبة البلدية، قبل أن أحصل على الثانوية العامة. ولحسن الحظ، كان مقررا في رحلتنا إلى القاهرة زيارة حديقة الحيوان القريبة، بل الملاصقة لمباني الجامعة، فتسللت مع بعض الزملاء إلى بوابة جامعة القاهرة التي لاتزال قائمة، وما أن عبرناها حتى وجدت كلية الآداب على يمين الداخل، حيث يقع قسم اللغة العربية في طرف الدور الثاني، مطلا على ساحة جامعة القاهرة الشهيرة.

أمنية مبكرة

وتمنيت ساعتها أن أنجح في الثانوية العامة، و أن أحصل على المجموع الذي يدخلني الكلية وقسم طه حسين الذي يهفو إليه فؤادي. وقررت أن أذاكر المقرر الدراسي المطلوب بما يؤهلني على المجموع اللازم. ولم أكن أذاكر من قبل سوى ما يضمن لي النجاح، فقد كنت مشغولا بقراءة الكتب التي هي خارج المقرر، وأغلبها - فيما عدا كتب طه حسين - كتب أدبية، روايات ودواوين ومسرحيات وبعض الكتب الدينية التي كانت قراءتها أمراً طبيعياً في بلد أكثر ما فيه المساجد، وكان الكبار من أهلنا يزعمون أن مآذن المحلة الكبرى لا تقل، عدداً، عن مآذن القاهرة، ذات الألف مسجد ومئذنة فيما قيل لنا في ذلك الوقت. وهو أمر كان مرتفعا بارتفاع الحس الديني ومظاهره ولوازمه في المدينة التي نشأنا فيها، والتي كانت تحوي - ربما لذلك - مقرا للإخوان المسلمين، ومركزا رياضيا وثقافيا من مراكزهم التي تضم أتباعهم والمتعاطفين معهم والصغار الذين يستميلونهم، ولم أكُن منهم،فقد نفرت من جهامة وجوههم وصرامة طرقهم التي كانت تبدو لي كأنها استعداد لمعركة ضد أعداء لا وجود لهم.

المهم أنني حصلت على الثانوية العامة بمجموع أكثر من ستين في المائة، ولم نكن نعرف في ذلك الوقت المجموع الذي يجاوز الثمانية والتسعين أو التسعة والتسعين، كالانتخابات الساداتية، وقد كان ما حصلت عليه كافيا لتحقيق حلمي القديم. فأخذت بعض النقود من أبي، وذهبت إلى القاهرة، ضيفا على أحد المعارف القدامى لأبي، وقدّمت ورقي في مكتب التنسيق، وكتبت «آداب القاهرة» الرغبة الأولى، وعدت إلى المحلة منتظرا النتيجة، واثقاً منها في الوقت نفسه. ولم يطل انتظاري، فقد جاء خطاب التنسيق بقبولي طالباً بآداب القاهرة، وفي طياته موعد الكشف الطبي بالإدارة الطبية التي كانت تقع بالقرب من ميدان الجيزة. وكان عليّ معاودة السفر إلى القاهرة، والمرور بكشف طبي، كانت نتيجته طيبة. وهكذا أصبحت طالبا رسميا في كلية الآداب بجامعة القاهرة. ولم يبق سوى دفع المصروفات لأن مجموعي لم يكن يصل إلى النسبة التي تمنح المجانية. ولم يكن هذا الأمر يشغلني، خصوصاً بعد أن مررت على الكلية، وسألت عن شروط القبول في قسم اللغة العربية، وفرحت باكتشاف أن مجموع درجاتي في مادة اللغة العربية، يجاوز بكثير الحد المطلوب للالتحاق بالقسم. وعدت إلى المحلة فرحاً باقتراب تحقق حلمي في الدخول إلى قسم طه حسين.

غرفة في القاهرة

ولكن بقدر فرحي الذي أعلنته لأبي وأمي، كان أبي الأكثر إعلانا للفرح، وكان الطابع العملي الغالب على أمي يمنعها من إظهار الفرح الكامل، فقد أدخلتنا في المطالب المالية التي لابد من توفيرها، أولاً بشراء أثاث للغرفة التي سوف أسكنها في القاهرة، وثانياً لتسديد المصروفات الجامعية. وبدأت أحمل الهم، لكنها عندما لاحظت تغير ملامح وجهي أظهرت إشفاقها عليّ، وقالت لي: لا تشغل بالك، ولا تحمل الهم، فسوف أدبّر لك كل شيء بإذن الله.

وسرعان ما عرفت أنها كانت تدخر، دون أن يعلم أبي، ما نحتاج إليه في هذا اليوم، كعادتها في تدبير الأمور، والاستعداد لكل شيء، فقد كانت أمي، رحمها الله، أكثر من عرفت تدبيراً للأمور، واستعدادا لطوارئ المستقبل. وقد رأيت ذلك عندما اصطحبتني معها، في اليوم التالي، وذهبنا إلى محل النمرسي الشهير في المحلة الكبرى، وكان أكبر محلات المحلة في بيع الأثاث والأدوات المنزلية.

واختارت لي أمي سريراً حديدياً يكفي لفرد واحد، ومعه مرتبة، وملاءتي سرير وكيسين للمخدتين اللتين أكملتا حاجيات السرير، وظلت تفتش بين المكاتب على أرخصها وأمتنها على السواء. أخيراً، استقر رأيها على أحد المكاتب التي رأتها صالحة، ومع المكتب كرسي بشَلْتَة (حاشية)، وانتقلت بعد ذلك إلى الأدوات المنزلية، واختارت برادا من الألمنيوم للشاي، أو غلي الماء، وحلة متوسطة الحجم وطاسة مثلها. وقالت لي: ها نحن قد أكملنا أثاث غرفتك، يبقى تدبير المصروفات اللازمة للدراسة. المهم أن تجتهد، وتكون من الناجحين دائما، فرددت عليها في تأثر: بل ومن الأوائل. وهل كان يمكن أن أرد بغير ذلك؟! فهذا أقل شيء أفعله، تقديراً لأسرتي التي تبذل جهدها في سبيل تعليمي.

وكانت المشكلة الثانية: كيف نحصل على غرفة بإيجار معقول بالقرب من الجامعة. ولحسن الحظ، وجدت زميلا لي، قبلته كلية الآداب، في قسم التاريخ، وأعلن عن رغبته في مشاركتي الغرفة، واقتسام إيجارها. وكان علينا، نحن الاثنين، أن نعود إلى القاهرة للبحث عن غرفة، وجدنا غرفة صغيرة على سطح منزل قديم في إحدى حواري قلب الجيزة، بالقرب من كازينو الحمام الذي يلي «كوبري الجيزة» القديم الواصل بينها ومنطقة المنيل. وطلب أبي من جارنا المعلم خليفة، وكان رحمه الله تاجر جملة للخضراوات والفواكه، أن تنقل عربة النقل التي تحمل بضاعته أثاثنا البسيط إلى القاهرة مجاناً. ولم يتردد الرجل فأمر سائقه أن يحمل أثاثنا، أنا وزميلي، بعد أن يفرغ حمولته من أقفاص البلح الأَمْهَات لتوصيل الأثاث إلى القاهرة، وأن يأخذني معه لكي أقوده إلى المنزل الذي استأجرت فيه غرفة من غرف السطح الذي يطل على المنازل المحيطة به في الحارة التي تنتهي عند شارع المحطة الذي يبدأ من محطة الجيزة، وينتهي عند شاطئ النيل، وربما بسبب العجلة، لم يقم السائق بغسل العربة وتنظيفها من بقايا البلح الأمهات التي تساقطت في السيارة، وكانت النتيجة آثار البلح الأمهات التي علقت بالمرتبة والمخدات. ولذلك كان علينا- زميلي وأنا- أن نزيل الآثار ونقسم الأثاث على الغرفة، كل سرير إلى جانب أحد الجدارين في الحجرة المستطيلة نسبيا، وكل مكتب إلى جانب سرير صاحبه. والأدوات المنزلية، ومعها موقد الكيروسين، تحت الأسرّة، يخفيها طرفا ملاءتي السريرين. وقام زميلي بفعل مضحك، وهو أن رسم بقطعة طباشير خطاً يفصل بين القسم الخاص بي في الغرفة والقسم الخاص به. وأخبرني أن على كل منا تنظيف وترتيب الجزء الخاص به. ورأيت في ذلك جموداً وتزمتاً ببداية سيئة، ولم تمض أيام إلا ودب الشقاق بيننا، بسبب هذا التزمت، وانتهى الأمر إلى معركة صبيانية، ترك بعدها الغرفة ليقيم في منزل عم له، يقطن قرب ميدان الدقي، وانقطعت أخباره عني بعد ذلك، ونسيت اسمه بمرور الوقت.

وأصبحت الحجرة ملكاً لي وحدي، صحيح كان عليّ أن أدفع وحدي ثلاثة جنيهات إيجاراً لها، من السبعة جنيهات ونصف الجنيه التي يرسلها أبي كل شهر على مرتين، أول الشهر أربعة جنيهات ونصف، وفي نصف الشهر الجنيهات الثلاثة الباقية. وبدأت حياتي في الجامعة، بعد أن ترك لي أبي عشرة جنيهات لشراء الكتب والمراجع، وسرعان ما بدأت أشعر بالضائقة المالية بعد أن نفد المبلغ الذي تركه لي أبي لشراء الكتب والمراجع و«الشبرقة» فيما قال لي ضاحكا.

في انتظار معجزة

وما إن مضى الشهران الأول والثاني، وأخذنا في الاقتراب من الفصل الثاني حتى بدأت أحمل هم مصروفات الفصل الثاني، وأضرب أخماساً في أسداس عن كيفية تدبيرها، فقد أخذت تجارة أبي في الكساد الذي ظل يتزايد يوما بعد يوم، وظل الهم ينتابني عن كيفية إكمال السنوات الباقية. ولم يكن أمامي سوى إفراغ همي في كتبي حتى أتفوق، وكانت المفاجأة السارة أن عبدالناصر أعلن مجانية التعليم الجامعي، استكمالاً لمجانية التعليم بكل مراحله، وكان ذلك في موازاة قرارات التأميم، وإعلان مرحلة التحول الاشتراكي، وذلك في فترة صعود المدّ القومي.

ولا أزال أذكر أحداث اليوم الأول في حياتي الجامعية، وقد بدأ اليوم برحلة على الأقدام من غرفتي إلى ميدان الجيزة، ومن ميدان الجيزة إلى الجامعة. وظللت أسير على الرصيف الأيسر، ماراً بكلية الزراعة المواجهة لكلية الطب البيطري، على الناحية الأخرى من الشارع، مستظلا بأغصان الأشجار الكبيرة التي تحمي السائرين من الشمس. وكنت طوال الطريق، أتطلع إلى الأشجار وإلى العمارات التي كانت على الرصيف الأيمن، حيث يصب شارع فرعي، يفصل بينها وسور حديقة الحيوان على الجانب الأيمن، ممتداً إلى بداية سور كلية الهندسة.

وكانت عيناي لا تكفان عن التحديق في الطالبات اللائي كن يسرن مثلي في طريق الجامعة، وكنا في الساعة الثامنة والنصف، وقت بداية المحاضرات التي لم تنتظم في اليوم الأول، ربما كي نتعود على الجامعة. وكانت عيناي تتطلعان إلى ذلك العدد الكبير من الطالبات، متعددات الأزياء، لا يرتدين زيا موحدا كطالبات المدارس الثانوية، وكان مرآهن متعة لعين هذا الفتى الذي كنته، والذي لم ير هذا العدد من الطالبات اللائي فتنه جمالُ و(شياكة) وصباحة وجه الكثيرات منهن، وكانت الأعين متوثبة بالحياة والأمل، لا فارق بين الطالبات والطلاب في ذلك.

الخطوة عفية، والتحيات متبادلة بين الطلاب والطالبات بلا حرج أو خجل. وهأنذا أذكر، أثناء كتابة هذه الصورة الفرحة المتطلعة إلى الغد، ولم أجد طالبة واحدة محجبة، ولا طالبا واحدا بلحية، فالبنات جميعا سافرات، كأنهن يستعرضن الأزياء المختلفة، بسيطات، منطلقات، كل واحدة تدخل كليتها، ومضيت سائراً في طريق الجامعة مع البنات والأولاد، الذين أصبحوا زملاء لي، وعقلي يموج بإصراري على التفوق، وخيالي يطير إلى يوم أن يتحقق حلمي، فأصبح مثل طه حسين، أو محمد مندور، أو لويس عوض، أو محمد غنيمي هلال، وغيرهم من الذين كنت أقرأ لهم في مجلة «المجلة»، وفي الملحق الأدبي لجريدة الجمهورية الذي وصل إلى ذروة نجاحه بإشراف لويس عوض عليه.

معطف طه حسين

ولم أكن أعرف، في ذلك الوقت، أن كل الأسماء التي كانت تدور في رأسي خرجت من معطف طه حسين، وأنهم جميعاً، ومعهم سهير القلماوي (التي أنزلتني فيما بعد منزلة الابن) تتلمذوا على طه حسين بشكل مباشر أو غير مباشر مثل لويس عوض وأقرانه من المختصين في الآداب الأجنبية، ومنهم ريمون فرانسيس ومؤنس طه حسين المتخصصان في اللغة الفرنسية.

وكانت أحلامي تترى مع انتظام خطواتي التي تقطع طريق الجامعة. وهو اسم يذكرني، الآن، بمجموعة قصصية بديعة لواحد من أكثر أساتذتي الذين فتنت بهم، وهو شكري عياد. وقد ظل، طوال حياته ممزقا بين الإبداع ونقده، فكتب عدداً من مجموعات القصة القصيرة التي كان يعشق كتابتها، منها مجموعة «طريق الجامعة» إلى جانب سيرة ذاتية، لعل تأثيرها، في وعيي أو لا وعيي، هو الذي دفعني إلى استرجاع هذه الصورة الحميمة من حياتي.

وأخيراً، وصلت إلى الجامعة، وعبرت البوابة إلى الكلية التي حلمت بدخولها، وتوجهت إلى إدارة شئون الطلاب، وكتبت استمارة اختيار قسم اللغة العربية الذي كان موجوداً في الدور الثاني من الكلية، وصعدت السلم من الدور المسروق الذي تحتله شئون الطلبة إلى قسم اللغة العربية، فوجدت جمعاً من الطلاب ينقلون الجدول الدراسي، ونقلت مثلهم الجدول، وعرفت أن خليل يحيى نامي سيقوم بتدريس مادة فقه اللغة، ويوسف خليف نصوص الشعر الجاهلي، وشوقي ضيف المحاضرات العامة عن العصر الجاهلي. وشكري عياد البلاغة، وعلوم القرآن، وكامل جمعة عروض الشعر ودواوينه، وعلي سامي النشار الفلسفة الإسلامية. وقد ذهب هؤلاء الأساتذة جميعا، عليهم رحمة الله. ولم يبق منهم سوى عزت عبدالموجود مَدّ الله في عمره، فقد كان لايزال مُعيداً، ويقوم بتدريس النحو الذي كان اختصاصه، وكان يضيف إليه مادة المكتبة العربية، التي توقف تدريسها، وكانت تتولى تعريفنا بأمهات الكتب في التراث العربي والأدب بمعناه العام الذي يقترن بالأخذ من كل شيء بطرف كما في كتب الموسوعات الأدبية العامة، وأشهرها «عيون الأخبار» لابن قتيبة و«الكامل» للمبرد وغيرهما من الكتب التي لابد أن يعرفها كل دارسي التراث الأدبي.

سنة أولى

ولم يكن هناك شيء من العلوم التي ندرسها في السنة الأولى إلا وأعرف شيئا عنه بدرجات متفاوتة، فيما عدا النحو والصرف وفقه اللغة، فالنحو كنت مهملاً في دراسته، معتمداً على الإنشاء وغيره من مجالات اللغة العربية، أما الصرف فلم أكن أعرف عنه شيئاً. يبقى فقه اللغة الذي كان يدور على المقارنة بين اللغات السامية، ولم يسبق لي أن قرأت أو درست شيئا من هذه اللغات التي تنتسب اللغة العربية إلى دوحتها السامية التي تتميز عن الآرية والحامية، ولم أكن أعرف أين تقع الدوحة الهندوأوربية بعد.

ومرّ الفصل الدراسى بسلام، وانتهينا من امتحان المواد التي درسناها فيه، وخرجنا بإجلال على سامي النشار الذي درّس لنا الفلسفة الإسلامية من منظور مغاير، مؤكدا أصالتها، وأنها ليست تابعة شارحة للفلسفة اليونانية، وأن من يريد أن يدرس الفلسفة الإسلامية في تفردها لابد أن يبدأ بالفقه وأصوله، ومنه إلى علوم الكلام، وقد كان، رحمه الله، متحمسا لما يرى، انفعالياً في نقاشه معنا، عصبياً، لا يكف عن التدخين في المحاضرة وقد أكبرناه عندما أخبرنا أساتذة قسمنا أنه كان صديقا لعبدالناصر وقريباً منه، وقد كان يأتي إلينا، منتدباً، من جامعة الإسكندرية، فقد كان أستاذاً من أساتذة قسم الفلسفة في كلية آدابها. وأما الأستاذ الذي سرعان ما غزا قلوبنا فهو يوسف خليف وكان شاعراً، رحمه الله، يتميز بأسلوب جميل في إلقاء الشعر، أسلوب كان يدفعني إلى حفظ ما كان يلقيه فور إلقائه, وكانت هذه الخاصية إحدى ميزاتي التي هجرتني مع تراكم السنوات واكتظاظ الذاكرة.

صنّاجة الفصاحة

أما صناجة الفصاحة اللغوية، كتابة وإلقاء، على طريقة الأعشى صناجة العرب القدماء، فكان طه حسين الذي لم أسمع إلى اليوم أفصح منه في نطق اللغة العربية، عرفت ذلك من أحاديثه في الإذاعة، ومن كتبه التي كانت تتميز بطلاوة أسلوبها وتفرده. وكم كان إحباطي كبيراً حين عرفت أنه لن يقوم بالتدريس لنا، فمنيت نفسي أن ألقاه يوما.

لكن القاهرة لم تكن جامعة القاهرة فحسب، فقد كانت تقع خارج أسوارها عوالم عجيبة غريبة مغوية لمن كان مثلي قادما من مدينة صغيرة، بالقياس إلى القاهرة التي جذبتني إليها لكي أكتشفها، وأتعرف على عجائبها ومباهجها وشوارعها، الطرز المعمارية لبناياتها، بعض ما حسبته يدخل في دائرة ناطحات السحاب، كالبرج الشهير في المنيل، عمارات إسماعيل باشا، القصور الملكية، الميادين، الحدائق، المتاحف، المسارح، الأوبرا القديمة، دور السينما، سور الأزبكية، حي السيدة زينب، حي الحسين، الأزهر الشريف، فضلا عن التماثيل التي تتوسط الميادين، مجسّدة رموز التاريخ المصري الممتد من العصر الفرعوني إلى العصر الحديث رمسيس الثاني، إبراهيم باشا، مصطفى كامل، طلعت حرب، أحمد ماهر، باختصار كل ما سمعت عنه، ولم أره من قبل.

هنا القاهرة

وكانت البداية من حول جامعة القاهرة التي كانت حديقة الحيوان تقع على جانبها الأيمن وحديقة الأورمان على جانبها الأيسر، وبينهما في مواجهة كوبري الجامعة تمثال نهضة مصر. الذي كان في مواجهة محطة السكك الحديدية، وانتقل منها إلى موقعه الحالي ووضع مكانه تمثال رمسيس الثاني الذي سمي ميدان المحطة باسمه.

وكنت في الأيام التي تقل محاضراتها أبدأ بمعرفة تاريخ الجامعة، ابتداء من اللوحة التي تسجل فضل الأميرة فاطمة إسماعيل في إنشاء الجامعة، وليس انتهاء بالنصب التذكاري الذي أقيم على شكل زهرة لوتس كالمسلة، على قاعدتها أسماء شهداء الجامعة الذين سقطوا قتلى، حين فتح الجند عليهم النار، في زمن إسماعيل صدقي، وفتح كوبري الجيزة القديم كوبري عباس على المتظاهرين الذين كانوا محاصرين بين الرصاص والسقوط من على الكوبري، وتقدم القادة الذين صاروا أبطالا خلّدت الجامعة ذكراهم بالنصب التذكاري الذي أقيم تحية لهم.

ولم يكن يوقفني في الطريق إلى كوبري الجامعة سوى تمثال مختار «نهضة مصر» الذي دفعني إلى ملاحظة قدرته على الجمع بين قيم النحت الفرعوني وتقنيات النحت الأوربي، وقد كان اسم مختار دافعا لي لأشتري من سور الأزبكية كتاب بدر الدين أبو غازي عنه، وكان بدر الدين أبو غازي وصدقي الجباخنجي وغيرهما من نقاد الفنون الذين كانوا يعرضون الإبداعات في مجلة «الهلال» التي أخذت في الحرص على اقتنائها مع رئاسة كامل زهيري لتحريرها وكنت قد حصلت على كتابه «مذاهب غريبة» من على سور الأزبكية، مع أعداد مجلة الهلال التي لم تكن عندي.

وكنت مشّاءً لا يبارى في ذلك الزمن البعيد، ولذلك كنت أترك العنان لقدميّ، أمضي من الجامعة إلى كوبري الجامعة، متأملا تمثال مختار الذي لا يزال يفتنني إلى اليوم، وأنحرف يمينا من كوبري الجامعة لأمضي على كورنيش النيل جنوبا، إلى أن أصل إلى كوبري عباس - الجيزة حاليا - وأعبره إلى حيث أسكن، وفي أحيان أخرى أمرّ أمام كوبري عباس على شاطئ النيل لأصل إلى نهاية جزيرة الروضة، وأشاهد مقياس النيل، ثم أمضي هائما بلا هدف في شوارع جزيرة الروضة التي كانت محاطة بالعمارات والقصور الجميلة، وأمامها أشجار مزهرة بهيجة وسرعان ما عرفت أن شوقي ضيف ودريني خشبة ومحمد مندور خصوصا ومحمد غنيمي هلال كانوا يسكنون الروضة أما وسط البلد، فكانت له جولات خاصة، في أيام الإجازات، حين كنت أركب أتوبيس رقم (8) المتجه إلى ميدان التحرير، وأظل أتجول في الشوارع المحيطة بالميدان، إلى أن أصل إلى الشوارع التي كنت أعرفها بالمكتبات التي تقع فيها، كما كنت أسير من باب اللوق إلى ميدان قصر عابدين، ومنه إلى ميدان الأوبرا القديمة، حين أتامل جمال معمار الأوبرا القديمة التي احترقت في زمن السادات، لكن بعد أن عرفت أنها بنيت بأوامر الخديو إسماعيل باشا لتكون جاهزة لحفلات افتتاح قناة السويس، وقد أنشئت على الطرز الإيطالية، وكلف الخديو إسماعيل الموسيقار الإيطالي فردي بإعداد موسيقى أوبرا عايدة للعرض على خشبة الأوبرا، ولكن فردي تأخر عليه الإلهام، فاضطر الخديو إلى عرض أوبرا أخرى، أظنها ريجيوليتو، أثناء الاحتفالات التي زانتها الإمبراطورة أويني التي وقع الخديو إسماعيل في غرامها، وقام برصف الطرق إلى الهرم، خصيصا لها، وبناء القصر الذي أصبح فندق عمر الخيام ليكون محلا لإقامتها في القاهرة. وقد كنت أشعر وأنا أسير في وسط القاهرة، بأني أسير وسط التاريخ المصري الحديث، فأمر على قصر إسماعيل صديق باشا، عابرا شوارع عدلي يكن باشا، وعبدالخالق ثروت باشا، وصبري أبو علم، ونوبار، وشارع الجمهورية - الذي كان باسم شارع الملكة فريدة - وقس على ذلك شارع الألفي الذي كان يضم داري سينما صيفيتين، لا أنسى أنني شهدت في إحداهما فيلما رائعا عن ألكترا، ابنة أجاممنون وأخت أورست، عن ترايديا سوفوكليس، فأصبحت من يومها حريصا على معرفة التاريخ اليوناني، الأسطوري والواقعي، لحضوره الكثيف في الآداب الأوربية التي تأثرنا بها. وقد حزنت عند هدم هاتين السينماتين في شارع الألفي، خصوصا أنهما كانتا تكملان المثلث الذي يضم سينما صيفية أخرى بالقرب منهما، تطل على شارع إبراهيم باشا الذي أصبح شارع الجمهورية في العصر الناصري، وأصبح اسم السينما (سينما حديقة النصر)، وكان ذلك في تيار جنون العمارة الحديثة الذي أطاح بالسينمات الصيفية وكانت اثنتان منها في شارع المنيل، واثنتان على كورنيش النيل المواجه للمنيل، فضلا عن اثنتين كانت إحداهما تواجه كوبري عباس والأخرى في ميدان الجيزة.

زمن اللهو البريء

وما أكثر ما تركت قدمي تهيمان في شوارع أحياء جاردن سيتي والزمالك، إذا كنت أبحث عن عبق الزمن الملكي، أو أهيم في الشوارع المحيطة بالعتبة والموسكي إلى منطقة الحسين والأزهر والسيدة زينب، إذا كنت أسترجع الأزمنة الإسلامية التي تنتهي بالزمن التركي، وكان التنوع المعماري لمدينة القاهرة في مطلع الستينيات لعيني ذلك الفتى الذي كنته، والذي كان يؤثر السير على ركوب الأتوبيس، توفيرا للقروش القليلة التي يحتفظ بها في جيبه، ولم يعرف ركوب الأتوبيس أو الترامواي أو الترولي باس الذي أقاموه موضع الترام الذي أزالوه من بعض الشوارع، وما أكثر ما ركبت الخط الذي كان يبدأ من العتبة، وينتهي في ميدان الجيزة، وكنت أستمتع بركوبه أكثر من ركوب عربات الترام الصاخبة أو سيارات الأتوبيس المزدحمة. وقد تعلمت من أقراني أبناء المحلة الكبرى الذين سبقوني إلى جامعة القاهرة، أو دخلوها معي لكن في كليات مغايرة أن نقضي أيام العيد في الحدائق التي كانت تزدحم بها القاهرة، ابتداء من حديقة الحيوان، مرورا بحديقة الأورمان، وانتهاء بحديقة الحرية التي أقيم فيها متحف مختار، فكنا نلهو اللهو البريء، ولم يكن الأمر يخلو من التعرف على بعض الفتيات اللاتي كن ينسيننا بمجرد عودتهن إلى بيوتهن، وكنا نقوم بالأمر نفسه فقد كنا رقباء على بعض، ولم يحدث فيما أذكر أن امتدت علاقة عابرة بريئة إلى قصة حب، كما حدث في رواية إحسان عبد القدوس التي شهدناها على شاشات السينما بعنوان «الوسادة الخالية».

ولا أذكر أنني كنت أذهب إلى السينما في أيام الدراسة، فقد كنت أفعل ذلك في أيام الصيف، قبل عودتي إلى المحلة، وفي أيام الأعياد والعطلات، فيما عدا الأفلام التي كان يعرضها اتحاد الطلاب في الكليات وأذكر أنني شاهدت فيلم عبد الحليم حافظ «الخطايا» في أحد مدرجات كلية الهندسة وكان ذلك في سنتي الجامعية الأخيرة، أما قبل ذلك فقد كنت أفضل الذهاب إلى السينمات الصيفية، خصوصا بعد الفراغ من الامتحانات في الصيف.

فول وكوارع وقشدة

أما أيام الدراسة، فلم أكن أضيع وقتي في الطهو، وكنت بعد الفراغ من المحاضرات أتغذى حسب الأحوال المادية، إذا كانت جيدة، ولا أزال أحتفظ بالمكافأة الشهرية التي ينالها الطلاب المتفوقون، أذهب إلى مطعم جيد الطعام في ميدان الجيزة، وإذا كان الجيب ليس فيه سوى القروش، كنت أكتفي بسندوتش فول وسندوتش طعمية، أشتريهما بقرشين من ميدان الجيزة، وأعود بهما إلى حجرتي، وأحمد الله قبل أن أواصل المذاكرة وكنت أكافئ نفسي، يوم الجمعة، بالذهاب إلى ميدان السيدة زينب، وأتناول وجبة «كوارع» ترمّ العظم، ويكون الحلو إما طبق أرز باللبن، عليه قطعة من القشدة، عند المالكي في ميدان الحسين، أو سلطانية شعرية باللبن في ميدان السيدة زينب. وما أكثر ما ترددت على ميدان الحسين في رمضان، فقد كانت وزارة الثقافة تقيم خيمتين كبيرتين لعرض الكتب وبيعها بتخفيض 20%. وأذكر أني كنت أشتري أي كتاب من سلسلة أعلام العرب بثلاثة قروش، واشتريت مجلدات الأغاني وبدائع الزهور الجزء بعشرين قرشا للمجلد، لكن الذي لا ينسى حقا هو معرض القاهرة الذي حضرته للمرة الأولى، وأنا في السنة الأولى، وكان جناح مكتبة «دار الشرق» التي أنشأها القسم الثقافي بالسفارة السوفييتية، يبيع روائع الأدب الروسي بقروش قليلة وقد اشتريت ما يربو على عشرين كتابا بأقل من جنيهين، وكانت رواية «الدون يجري هادئا» ومختارات تشيكوف وكتابا نقديا عنه، فضلا عن غيرها من الروايات التي كان معها كتابات جوركي وتولستوي وتورجنييف وغيرهم من الكتاب الروس الذين خرجت بحقيبة مليئة بأعمالهم من جناح دار الشرق الذي أصبحت أترقبه وأهرع إليه في كل معرض.

 

 

جابر عصفور