اللغة حياة: لا يحرَّك المثنّى حركة منوّنة

اللغة حياة: لا يحرَّك المثنّى حركة منوّنة
        

          لو كتب أحدهم في أيّ نصّ من النصوص: «عملتُ يوماناً بليلهما، فكان لي أَجْرانٌ، ومرضتُ بعدها مدّة أسبوعانٍ» فماذا نقول فيه؟ أعجميّ، أو جاهل، أو مستضحِك، ويلتبس علينا الأمر بين الأَجْرَيْن والأَجْران (جمع جُرْن وجِرْن)! لكنّني قرأت في كتاب من أهمّ كتب النحو الحديثة أنّ من اللهجات ما يُلزِم «المثنّى الألِف والنون في جميع أحواله، مع إعرابه بحركات ظاهرة على النون، كأنّه اسم مفرد؛ تقول: عندي كتابانٌ نافعانٌ، واشتريتُ كتاباناً نافعاناً، وقرأتُ في كتابانٍ نافعانٍ» على أن يُحذف التنوين إذا وُجد ما يقتضي حذفه كالتعريف بأل والإضافة والمنع من الصرف. وذلك الكتاب مرجع أستعين به شخصيّاً، لمكانة صاحبه العلميّة، لكنّ هذا الرأي الغريب فاجأني، وحملني على البحث عن حقيقته ومقدار صحته.

          ولعلّ مفتَتَح هذه المسألة تخريجٌ لقراءة الآية الكريمة: إنَّ هذانِ لَساحِرانِ (سورة طه، 20/63)؛ ففي تلك الآية عدّة قراءات إحداها هذه التي بتشديد نون «إنّ»، وبألِف ونون مكسورة في «هذانِ»، خلافاً للاستعمال الغالب الذي يُنصب فيه المثنّى بالياء. والقراءة المشار إليها تُنسب إلى أهل المدينة والكوفة إلاّ في رواية حَفْص عن عاصِم، وتُرَدّ إلى لغة خاصّة تعزى إلى عدّة قبائل، منها بنو الحارِث بن كَعْب، وقيل كِنانة، من غير أن يعيّنوا أيّ كنانة يعنون: كِنانة قُضاعة أم كِنانة مُضَر أم غيرهما، لكنّ القُرْطبيّ ذكر كِنانة بن زَيْد، ولم نجد لهذه القبيلة من ذكر في كتاب الاشتقاق لابن دُرَيْد، ولا في مصادر الأنساب؛ وزادوا على هاتين قبائل كثيرة أخرى حتى كادوا يذكرون أشهر قبائل العرب، ويوحون أنّ هذه هي اللغة الأعمّ والأشهر، وإن غلّبوا نسبتها إلى قبيلة بني الحارِث. وهي لغة تُلزم المثنّى الألِف فترفعه وتنصبه وتجرّه بها، لأنّها تَقلب الياء المفتوح ما قبلها ألِفاً. وقيل إنّ ألِف «هذا» لا تجتمع مع الياء، ولا بد من حذف إحداهما، فحُذفت الياء لتأتي الألِف مناسبة لألِف «ساحران». وقيل إنّ «إنّ» هنا بمعنى نَعَمْ، فما بعدها مبتدأ وخبر. وقيل إنّ ثمّة ضمير شأن محذوفاً، وأصل العبارة: إنَّهُ هذانِ لهما ساحرانِ. وأكثر هذه التأويلات غير مقنعة، وقد ناقشها ابن هشام في المغني وشذور الذهب بتوسّع؛ ويروون أنّ أبا عَمْرو بن العَلاء قد أنكر هذه القراءة، وأعلن أنّه يستحي أن يقرأ بها؛ وهذا، إذا صحّ، يعني أنّها لغة مزعومة أو منكرة، لأنّه لا يمكن لأبي عَمْرو أن يرفض قراءة بلغة سائغة وواسعة الانتشار. ثم إنّ السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا يقرأ المدنيّون القرآن بلغة شاذّة، وقد أُمروا أن يجعلوا لغة قريش مرجعهم في القراءة؟ وقد رووا عن السيّدة عائشة (ر) أنّها نسبت هذه القراءة وقراءة آيات أخرى إلى خطأ الكاتب، فاعترض عدد من العلماء على هذه الرواية ونفوا صحّتها؛ وقد راجعنا مصادر الحديث النبويّ التي تشمل عادة أحاديث زوجات النبيّ والصحابة (ر)، فلم نجد القول المشار إليه. لكن لو افترضنا أنّه قيل حقّاً، فإنه ليس إنكاراً للآية بقدر ما هو إنكار لقراءة بعينها، وإقرار غير مباشر بقراءات أخرى. وقراءة عثمان وعائشة وعدد من الصحابة والتابعين، رضي الله عنهم، وكثير من القرّاء والنحاة هي بتخفيف «إنَّ» أي بإسكان نونها، وهذا يسمح برفع الاسم بعدها ودخول اللام على خبرها للتفريق بينها وبين «إنْ» التي بمعنى ما.

          وممّا يدخل في هذه المسألة ذلك البيت المشهور الذي نسبوه إلى رجل من بني الحارِث، وإلى رجل من اليمن، وإلى الشاعر الأمويّ أبي النَّجم، وهو من بني عِجْل، أي من عرب الشمال، وبنو الحارِث يمنيّون:

إنَّ أَباها وأَبا أَباها
                              بَلَغا في المَجْدِ غايَتاها

          حيث نُصبت الغايتان بالألِف لا بالياء، ونُصب وجُرّ أحد الأسماء الخمسة، وهو «أبو»، بالألِف أيضاً. وقد قدّروا هنا احتمالاً آخر غير احتمال قلب الياء ألِفاً، هو تقدير حركة الإعراب على الألِف وكأنّها حرف مقصور. وللدارس أن يشكّ الشكّ كلّه بهذا البيت للاضطراب في نسبته، وفي أصل من نُسب إليهم، وفي رواية البيتين اللذين يسبقانه، إذ لا نجد أي علاقة بين رواياتهما، زد على ذلك أنّه يكاد يكون شاهداً وحيداً وشاذّاً في هذا الموضوع، وأنّه واضح التكلّف، ويشي بالوضع.

          وممّا يدخل في المسألة رجَز واضح التكلّف أيضاً، غير منسوب، مرّة، ومنسوب إلى امرأة مجهولة من فَقْعَس، مرّة أخرى، وفيه تُفتح نون المثنّى بعد الياء وتليها هاء السكت؛ ومثله بيت رجَز منسوب إلى رؤبة بن العَجّاج وإلى رجل من ضَبّة، واحتمل ابن هشام أن يكون مصنوعاً، وفيه يُنصب المثنّى بالألِف كما في «غايتاها»، وتُفتح نونه، ويقول:

          أَعْرِفُ مِنْها الأَنْفَ والعَيْنانا

          فكلا الرجَزين محلّ شكّ، لجهلنا قائل أحدهما، ولنسبة ثانيهما إلى غير واحد،  وللتكلّف فيهما جميعاً.

          وقد ذكر عبدالقادِر بن عُمَر البَغداديّ، صاحب خزانة الأدب، أنّه «حُكي أنّ منهم مَن ضَمَّ النونَ في نحو: الزَّيْدانُ والعَمْرانُ» لكنّه استدرك أنّ ذلك من الشذوذ الذي لا يقاس عليه. وصيغة التمريض هذه، وعدم إيراد شواهد على تلك الحالة، يجعلان الأمر محل شكّ أيضاً.

          فنحن بإزاء لغات شاذّة، ومشكوك في شواهدها، وتجيز أمرين: إلزام المثنّى الألِف في كلّ حالاته الإعرابيّة، وتحريك نونه بالحركات الثلاث؛ لكن ليس فيها، مع ذلك، ما يجيز تحريك تلك النون بحركات منوّنة، ولو كان التنوين لغة فيها لوجدنا ولو قراءة واحدة أو بيت شعر أو رجَز يؤيد استعماله؛ بل إنّ كون قراءات «إنَّ هذانِ لَساحِرانِ» جميعاً بكسر النون، يوحي خلاف ذلك. وإذا كانت أوزان بعض الأسماء المثنّاة تشبه أوزان الأسماء المفردة، مثل يَدان التي تشبه عَنان، فيحتمل فيها يدانٌ كما يحتمل عَنانٌ، فإنّ أكثر أوزانها لا تشبه أوزان المفرد حتى تعامل معاملته، فليس من وزن مفرد شبيه بوزن كتابان (فعالان)، مثلاً، أو وزن متنزّهان (متفعَّلان)، وليس مقبولاً أن تصحّ القاعدة على جمهرة من الأسماء ولا تصحّ على جمهرة كبيرة أخرى. ولذلك فنحن نكاد نجزم بأن تلك القاعدة خطأ، وإذا صحّت، احتمالاً، فإنّها لا تصحّ إلاّ في المثنّى المشبه للمفرد. 

          قد يقال بأنّ الإجازة بتحريك آخر الكلمة بالحركات الثلاث في نحو: الحَسَنان، والبحرين، يسمح بالتنوين عند التنكير: حَسنانٌ، بحرينٌ. ويُردّ على ذلك بأنّ القياس في العربيّة ليس آليّاً، وشرطه إساغة الذائقة العربيّة العامّة له، وليس ما يدلّ على إساغتها في الحالة المذكورة، في ما نعلم.
-----------------------------
* أكاديمي من لبنان.

 

مصطفى عليّ الجوزو*