قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟

-----------------------------------------

أولاً يجب أن نعي أن كتاب هذه القصص غير محترفين, لكن مع ذلك تشي هذه الكتابات بشغف الكتابة والتعبير عن الذات بطرق مختلفة, وبناء على ذلك بنينا رأينا في القصص حسب ترتيب الأفضلية كالتالي:

1 - القصة الأولى والتي لفتت نظري هي قصة «لا» لمؤلفها يوسف حسني من مصر, هذه القصة فيها شيء ذكرني برواية «اللجنة» للأديب صنع الله إبراهيم, فمضمون القصة يطرح مفارقة لطيفة, حول رغبة الشاعر في أن يُعتقل, بسبب قصيدته التي «تودي بداهية»، لينضم إلى صفوف الأبطال, الذين قالوا لا للسلطة, وأملا في شهرة سريعة.

وعندما استدعته الجهة, وتم التحقيق معه, كانت كل إجاباته «لا»، ولكنها كانت «لا» صادقة, حتى جاء السؤال: «إنت اللي كاتب الكلام ده؟»، ترك الكاتب تخمين الإجابة لنا, وهي إحدى مهام الأدب والفن, وأقصد إشراك القارئ في عملية الإبداع, بدلاً من تقديم الإجابات والحلول لنا. أرشح هذه القصة للفوز بالمركز الأول.

2 - جاءت قصة «الرجال لا يبكون»، لمؤلفها ماجد عبد الرحمن عاطف من اليمن في المركز الثاني, فقد تناول الكاتب العرف الاجتماعي بأن الرجل يجب ألا يبكي, وهو عرف خاطئ وقد يكون متخلفاً, على اعتبار أن البكاء حاجة إنسانية لا تختص بجنس أو عرق, وفي القصة تكررت عبارة «الرجال لا يبكون»، لتشكل إيقاعاً يعطي القارئ إيقاعا داخليا وبهذا يعطينا حس القصيدة. أرشح هذه القصة للمركز الثاني.

3 - قصة «حضرة الباشا» للكاتب علي حسان خضر من مصر, جاءت في المركز الثالث في رأيي, ففكرتها لطيفة, وهي أن المظاهر خداعة, وصاغ الكاتب مضمون هذه الفكرة بشكل ذكي, عندما جعل الباشا يتبادل الدور مع خادمه, وبالرغم من أن الفكرة ليست جديدة, فإن الكاتب صاغها بوعيه وفهمه الخاص, ويقال إن الموضوعات موجودة على قارعة الطريق, لكن الأهم هو طريقة معالجتها. أرشح القصة للمركز الثالث.

4 - قصة «السيارة» لـ «ياسين أبو الهيتم» من المغرب, قصة متطورة الشكل, أي أنها ذات شكل فني متطور, ولغتها متطورة, وأطر الكاتب مضمونها بالقضاء والقدر, وحكى القصة بتكثيف مقبول, ولقد أعجبتني هذه القصة ورؤية الكاتب, واستطاع إدخال تفاصيل مشاهد سينمائية سريعة, أشبه بالومضات, ووضع خلفيات لمشاهده مثل أغنية La Vie En Rose لإديث بياف, فأجبرنا على المشاهدة والاستماع. لكننا نحتاج إلى قراءة القصة أكثر من مرة, حتى نعيش بها, ولكن عند القراءة الثانية أو الثالثة نكتشف جمالها الحقيقي, وعمق رؤية كاتبها.

أرشح القصة للمركز الرابع.

5 - «لص الحمام» لكاتبتها سارة حسن قرة, وهي سورية تقيم في الأردن, قصة خفيفة, ومضمونها طريف. عالجت سارة الفكرة دون إيغال في التعقيد, واستطاعت شدنا للحدث, لتأتي النهاية ظريفة, لا نملك إلا أن نبتسم لها, وأيضاً كانت النهاية بسؤال: «لماذا يبدو مضرب التنس مبتلاً هكذا؟»، وتركتنا نتصور ما وراء هذا السؤال, وهذا ما قصدت به الذكاء الإبداعي. أرشح القصة للمركز الخامس.

--------------------------------------
«لا»
يوسف حسني (مصر)

كالعادة، استيقظ من نومه على صوت أمل - تلك الصاخبة في كل شيء - وهي تختلق أزمة جديدة مع أختها التوأم حنان - تلك الوادعة في كل شيء - الساعة تقترب من العاشرة. لم يتبق على ميعاد العمل إلا القليل إذاً. توجه إلى دورة المياه هارباً من هالة النعاس التي مازالت تحوم حوله - ومن صخب أمل أيضاً - فتح الصنبور فلم يجد مياها كالعادة. ارتسمت على وجهه علامات التهكم، التي لا تكاد تفارقه.

هو كالعادة، لا يعرف سوى أنه «معارض» لهؤلاء الفشلة - من وجهة نظره - تصريحاتهم تؤكد ذلك. كلما وقعت عيناه على أي من هذه الأخبار المملة - والمستفزة أيضاً - وجد الكلمة تخرج منه دون أي تردد «لا». إلا أنه لا يملك سوى أن يكتب الأشعار التي غالباً ما تلقى في الأدراج أو في سلة المهملات على حسب. لكنه في لحظة من لحظات التجلي، وجد نفسه يكتب بمنتهى الرفض قصيدته التي اعتبرها المتنفس الوحيد الذي يستطيع من خلاله أن يقول «لا» وألف ألف «لا». كلما ألقاها في ندوة أو مؤتمر. انتظر أن يستقبلوه على الباب ليكتب اسمه في سجل العظماء - أبطال لا - إلا أنهم لم يمنحوه هذه الفرصة، وبينما هو منهمك في تجهيز العشاء إذ بالهاتف المحمول يتعالى رنينه -

أيوا.. مين معايا..؟

- إحنا مكتب..

- أخيراً.. مش معقول..؟

كنا عايزينك شوية.

... ارتسمت على وجهه علامات البطولة وأحسّ بنشوة الانتصار في زمن الهزيمة.

ألقى نظرات الوداع على سريره ومكتبه وأوراقه، قبّل صورة حبيبته. رمقها بنظرة مليئة بالحب والاعتذار. وصل إلى المكان. لمح على درجات السلالم آثار أقدام الأبطال الذين سبقوه إلى تلك الساحة. تقدم إلى مكتب الاستعلامات الذي طلب منه أن ينتظر قليلاً، جلس على أحد المقاعد مسترخياً تماماً، توالت النداءات على الأسماء التي سمح لها بالدخول إلا هو ربما يقومون بالتحرّي عنه. استعاد سالف أيامه. قفزت إلى عقله بعض المشكلات في حياته، والتي كان يعتقد أنها ليست من الأهمية. فرغت صالة الانتظار. عيناه ترقبان الساعة المعلقة على الحائط، تسرّب إليه إحساس بعدم الاتزان، أخيراً جاء عليه الدور، فهمّ بالوقوف مستعيداً نشاطه الذي كان عليه لحظة الدخول. دخل إلى المكتب بعد أن جرّدوه من كل شيء. بعد كلمات ترحيب قليلة توالت الأسئلة.

- هل تدخن...؟ - هل خرجت في مظاهرات..؟ - هل أنت شيوعي..؟ - سلفي. - كله لا؟ إذاً إنت إخواني..! - هل نحن ظلمة كما يرى البعض..؟

وكانت اجاباته جميعا هي: لا

- (لما أنت مواطن صالح وملتزم كدة أومال إيه اللي احنا سامعينه عنك ده..؟).

ضحك ضحكة احتار المحقق في تفسيرها، فقابلها بمثلها، وقال له: احنا آسفين على تعطيلك. ممكن تتفضل. بعد أن تبادلا التحية وأرقام التليفونات، خطا نحو الباب وإذ بالمحقق يسأله: (على فكرة... إنت اللي كاتب الكلام ده..؟) ثم أسمعه بعض أبيات من قصيدته قفزت مشاهد الأحباب جميعا إلى ذهنه - طرق السؤال باب أذنه مرة أخرى (إنت اللي كاتب الكلام ده)..؟

فأجاب وبلا تردد «....».

الرجال لا يبكون!
ماجد عبدالرحمن عاطف (اليمن)

كلما أردت البكاء يصيح أبي في وجهي.

- «صه الرجال لا يبكون».

كتمت بكائي.. ومراراً أردت البكاء عندما لا يكون أبي موجوداً في المنزل، فتصرخ بي أمي:

«صه أنت رجل والرجال لا يبكون».

فأجبت مبرراً كما كان يقول لي أبي: البكاء للضعفاء ووحدهن النساء هن الضعيفات.

كنت أغبطهن، وتمنيت لو أن الله خلقني امرأة. رأيت أبي ذات ليلة مقمرة يجلس وحيداً، فسألته: هل القمر يبكي ياأبي؟

أجابني بنبرة معلم: القمر لا يبكي.

رددت بنبرة التلميذ الذي فهم درس معلمه، إذاً القمر رجل أليس كذلك؟

أحسست أني بدوت رجلاً في عين أبي، فأمي وحدها تبكي وأختي وكل النساء، ظللت أرى أبي ينظر إلى القمر بصمت كأنه كان يتعلم منه أشياء أو يبوح له بشيء.

كبرت وأنا لم أبك قط، سوى أختي التي كانت تبكي فرحاً وحزناً وعناداً، لتستحوذ على أشياء تريدها.

سألت أختي في يوم زفافها: لم البكاء؟

أجابتني: نبكي عندما تستيقظ أوجاعنا، نبكي عندما تولد أفراحنا، نبكي لنحيا من جديد.

أذهلتني فلسفتها للبكاء، قلت لها: مَن علّمك كل هذا؟

أجابتني وهي تبكي: البكاء.

نظرت إليها، قلت لها: أريد أن أبكي، نظرت إليّ نظرة استصغار قائلة:

- «الرجال لا يبكون».

قلت في نفسي لعلها ستأتي فرصة أبكي فيها، وتذكرت أنه سيموت أبي وأمي، وسأبكي بالتأكيد، كم تمنيت أن يموت أحدهما قريباً.

تزوجت، ولدت زوجتي ولداً، خرج يبكي، صرخت في وجهه.

- «صه.. الرجال لا يبكون».

صمت ولم يبك.

ماتت أمي، بكت أختي وكل النساء، أتت الفرصة التي ستمنحني البكاء، جاء المعزون فقالوا لي ولأبي: «الرجال لا يبكون».

كبر ابني ولم يبك قط، وسألني ذات مرة ونحن ننظر إلى القمر:

- هل القمر يبكي يا أبي؟

أجبته: القمر لا يبكي، القمر يبتسم دائماً.

ردّ علي: إذاً القمر رجل.. أليس كذلك؟

مات أبي، بكت زوجتي وأختي وكل النساء. أتت الفرصة التي سأبكي فيها.

أتى المعزون فقالوا لي ولابني:

«الرجال لا يبكون» لكنني لم أستطع أن أمنع دموعي. أو أمنع بكائي المترسّب طويلاً في أوردة الروح، احمرّت عيناي، بدأت الدموع تتهيأ لمغادرة عيناي، بدأ بكائي يتسلل بحياء نحو الخارج، كان ابني يتأملني ليصرخ في وجهي.

«صه الرجال لا يبكون يا أبي».

حضرة الباشا
علي حسان خضري (مصر)

بذلت جهداً كبيراً لأصل به إلى تلك الهيئة، بذلة أنيقة وربطة عنق رشيقة، وقبعة رقيقة، بالإضافة إلى تلك العصا الجذّابة التي استعرتها من أخي الأكبر حتى تتم له الوجاهة، وبعد خروجه خطوات، عاد هلعاً وقال لي: «رافقني في تلك الرحلة الاستكشافية، أرجوك». ترددت.. ولكني أريد أن تستكشف بنفسك!!

«امش معاي على أنك الصبي بتاعي يا سيدي»!! قبلت ذلك لما رأيته من عدم - أقصد قلة - الدراية «لحظة.. مشط بسرعة، دقنك دي عاوزة تتسرح». هندمتها له وكذلك «سبسبت» له، أجزاء وجهه الكثيف الشعر ذلك، وأخذ زخرفة!!

اعتقد العوام ممن رأونا أنه سيدي وأنا خادمه.. «اتفضل يا حضرة الباشا...».

مال علي وسألني في هدوء: «بماذا أجيبه! قلت هامساً: «قول له متشكرين، وما توقفش».

اهتزّ مبسمي في فمه، ولكنه ضغط عليه بقوة ورد وهو محتفظ به في فمه «متشكرين»!! ظهرت أسنانه الطويلة الحادة قابضة على المبسم، فأسرعت إلى أذنه المدلاة من تحت القبعة «امسك نفسك، وما تضحكش!! الله يسترك». امتثل وسار.. طبعاً يسبقني بخطوات قلائل وأنا ألهث وراءه سعياً .. «أنا كل ما اشتري مخلل صاحب الدكان ده يديني شوية قليلة تقولش بيزكي عليّ!! ادخل عليه كدة بالنضارة والعصاية».

- لو سمحت، قالها بالكاد بعد أن لف العصا دورة واحدة «هات بجنيه مخلل!!».

- أوامرك يا باشا، ودخل صاحب المحل إلى الداخل قليلاً وهو يغمغم «يا نهار.. ده باين عليه رأس كبيرة قوي.. استر يارب!!».

- اتفضل يا حضرة الباشا.

- أم م م... متشكرين!!

أخذتُ المخلل... كمية كبيرة تلك المرة بالجنيه!!، «ما هذا!! أغلق على لسانك فمك.. يا باشا» ضحك شيئا ما، وهمس لي: لو عرف الناس مَن أنا لما بخلوا عليّ بالعظام وبقايا الخبز!» وتكرر السيناريو نفسه عند بائع اللحم.

وانقضى الموقف على خير والحمدلله، واستأنفت السير.. «هل رأيت المظاهر كيف تخدع الناس؟! مع أنني لا أملك دفتري وقلمي الآن لأسجّل تلك الأحداث بمجملها».

نظر إليّ الباشا ثم أردف «وكنت حسجّل دوري إزاي يا أستاذ» لم أفهم مرمى كلامه، لكنني صارحته «حكتب الحقيقة كلها، حكتب أنا مين وأنت مين!»، استمر السير بعد الصمت من جانب كلينا - وبعد شيء ليس باليسير إذا بي أسمع زمجرة مكتومة، لم أتحرك يميناً ولا يساراً، وصرفت فكرة احتمال غضبه تلك من خاطري، انغرست أظفاره الطويلة جامعة لتلابيب ثيابي، وصاح علوياً «عاوز تكتب حقيقي للناس وتفضحني؟»، حاولت تهدئته بلا جدوى، فقررت فضحه أمام العالم وصرخت بالناس «يا ناس.. شوفوا الباشا المحترم ده يطلع إيه. مين اللي لبّسك وهيأك وخلاك بني آدم، إنت نسيت اتفاقنا واللا إيه!!».

أرسل يديه بعيداً عني مبتسماً «خلاص.. الناس مش حتصدقك!!». يا إخوانا ده الكلب بتاعي وأنا خليته بالشكل ده عشان أكتب قصة عن المظاهر الخدّاعة حتى شوفوا أنيابه الطويلة».

غمغم الناس: شوف الولد الخسيس ازاي بيعض الإيد اللي اتمتدت له. اخص.. «انتصب الباشا (الكلب بتاعي) وهزّ عصاه دورات متتاليات ثم مضى وحده حاملاً كيس اللحمة!! ويصيح به البقال «معلش.. اتفضل يا حضرة الباشا..».

السيَّارة
ياسين أبوالهيتم (المغرب)

القَدر: وهو الحكم المرتبط بالزمان والسّبب..

هذا السور المحيط بالمدينة العتيقة بُني في العهد المرابطي، أشار ابن رشد على الخليفة علي بن يوسف ببنائه لما استفحل خطر الدولة الموحدية. صمد السور طويلاً بعد زوال الدولتين المرابطية والموحدية ودول أخرى. يقاوم الزمن ماانفك يحيط بأكبر مدينة مُسوّرة بدول الحوض المتوسطي. انطلقت سيارة رباعية الدفع من قبالة باب تاغزوت بالزاوية العباسية.

تهدم ظاهر جانب السور المحاذي لباب دكالة. بينما يتهدّد كلّ أسفل السور رشاش البول، فيما يتهدد أعلاه بُزاق الطيور. كُوّاته ملجأ الحمائم والسّنونو، وأعشاشه الدائمة الضخمة دار هجرة اللقالق، لكن أتهاجر اللقالق حقا؟ إنها هنا دوماً، لا تبرح الأعشاش. وساحة باب دكالة موقِف عشرات العمال يوميا، والذين يخيب أمل معظمهم غالباً، في إيجاد مرحاض عمومي بالرغم من أن أسلافنا -على حدّ تعبير المقررات الدراسية- كانوا أول من أنشأ الحمامات العمومية بالأندلس!

يسوق السيارة أحد أولئك الأجانب المتقاعدين الذين سحرتهم مراكش بعجائبيتها وإيقاعها البطيء.

ما كاد العاملان المساعدان يبلّغان مُرمّم المباني التاريخية في مرقاة خشبية إلى منتصف ارتفاع السور حتى أمرهما بالتوقف، كانا لا يجذبان الحبلين النافذين من البكرتين في آنٍ واحد. نهرهما المرمّم في تهديد.

لما بلغ الأجنبي بسيارته حومة «رياض العروس» كان مستمتعاً بسماع أغنية la Vie En Rose. وحين استقرّت المرقاة إزاء صَدْعٍ بالسور أمر المرمّم مساعديه بتثبيت الحبلين ومدّه بعجين الجير والآجر الأحمر.

قبالة دار الباشا اضطرّ الأجنبيّ أن يتلبّث ريثما تعبر زفّة تتصاعد منها الزغاريد والفرح حاملة -بلا شك- هدية عروس؛ استبطأهم كثيراً.

انحلّت عقدة أحد الحبلين فخرّ المرمّم على الأرض فجأة كمثل ما تسقط آجُرّة حمراء من السور. هرع المساعدان إليه. لحسن حظّهم لم يصب بسوء، أو بالأحرى بكبير سوء. في هذه الأثناء، انتهت السيارة إلى عرصة الحامض تسبقها أغنية مُتصاعدة لإديث بياف.

تلحّح المساعدان على المرمّم حتى مضى لشراء قنينة مشروبات غازية، نَخْب نجاته.

القضاء: وهو الحكم الكلّي الذي لا يتغير منذ الأزل، كالحكم بأنّ كلّ ما في الوجود لا محالة إلى عدم

مارقاً كالسهم من باب دكالة تحت تأثير الإيقاع المتسارع لأغنية Boulevard Du Crime، صدم الأجنبيُّ بسيارته مُرمّمَ المباني التاريخية. وهو متمدّد على الإسفلت، مُستعجل جدًّا، أطلق المرمّم رشقاتٍ من عينيه الخاملتين متواترة وكأنه يأبى إلاّ أن يستنفد ذخيرته: رمى ببصره جانبًا يتهدّم من السور في تناسل، فتذكر حكاية ابن رشد مع ابن يوسف؛ رنا إلى الأجنبيّ يترجّل من سيارته فحضرته قصة سنمار مع النعمان بن المنذر؛ سها إلى الشراب المتسلسل فطفق يبحث عبثاً بين وجوه عمال الموقِف المتعبة عن بطليْ «نخب النجاة»، لم يعثر عليهما. وحتى وجوه العمّال توهّمت تدريجيا إلى أن استأثر البياض الساطع اللامتناهي بكلّ شيء. عندئذ حملتهُ اللقالق على بساطٍ، عرفها من مناقيرها، لقد خلّت أعشاشها أخيراً.

فرضيَ المرمّم في تسليم بالقدر والقضاء.

لصّ الحمّام
ساره حسن قره (سورية)

دخل المنزل كعادته كل يوم أحد، في الساعة الواحدة وخمس وعشرين دقيقة، خلع حذاءه ودفعه تحت الأريكة ثلاثية المقاعد، ورمى بالكيس الذي يحوي البنّ على أريكة أخرى، واستطاع بوضوح أن يشتمّ رائحة الغاز الواضحة والغريب وجودها في بيته، تعكّر مزاجه! هل نسي الغاز مشتعلاً؟ لكنه لم يوقده في الصباح! فقد كان مرطبان البن فارغا، ولذا لم يحضّر قهوة الصباح. إذاً لعلّ أنبوبة الغاز تسرّب؟ أيضا تأكد منها قبل أن يخرج إلى عمله كما يفعل كل صباح! إنها.. إنها المضخّة! انتبه إلى صوتها الحاد فجأة، دائما تملأ رائحة الغاز غرفة الجلوس إذاما كان أحدهم يستهلك الماء الساخن ولم يغلق باب المطبخ، هل تكون أخته سناء عادت من عملها وتستحم؟ يا لحماقتها، إنها تعرف كم تثير هذه الرائحة غضبه واستياءه لماذا لم تغلق الباب؟ لا، ليست هي التي هنا، لاتزال هناك ساعتان حتى موعد عودتها من العمل، من هناك في الحمام؟

أتراه لصّا؟ لا، مستحيل! كيف يمكن أن يكون هناك لصّ في الحمّام؟ لا أحد يحفظ نقوده هناك حتى يدخل اللص إلى حمامه غير الفاخر، أم أنّ الأغنياء يحفظون ثرواتهم في الحمّام؟ وربّما تكون الخزنة السريّة مخبأة في مكان ما بين حجارته اللامعة؟ ربّما، لكن مظهر منزله لا يدل على وجود خزنات سرية، أو أموال مخفية، حتى يجهد اللص نفسه كل هذا الإجهاد! تلفّت حوله باحثا عن حذاء شخص ما، أو بالأحرى عن حذاء سناء نفسها، بحث في خزانة الأحذية مع أنه كان موقناً أنها لم ولن تضع حذاءها هنا، بل سيكون في مكانه المعتاد، منتصف غرفة النوم، ذهب إلى غرفة نومها وبحث هناك لكنه لم يجد شيئاً، أتراها أخفته في مكان لا يعرفه؟ غباء وهراء! ما الداعي لإخفائه!

نسي تماماً أنه عندما دخل البيت كان في أمسّ الحاجة لاستعمال المرحاض، واتجه نحو النافذة وفتحها على مصراعيها حتى يخرج رائحة الغاز السامة من الغرفة، نادى: سناء! هل أخذت إجازة؟

لم ينتظر رداً، فقد كان يعلم يقينا أنها ليست هنا، لكن خوفا خفيا من اللص الموعود دفعه إلى ذلك النداء الراجي، حمل بيده مضرب التنس، واتجه إلى باب الحمّام، وبشجاعة منقطعة النظير فتح الباب قليلاً بطريقته المألوفة وقال رافعاً صوته: سناء أريد أن أدخل، هل سأضطر للانتظار طويلاً؟

من جديد لم ينتظر رداً، بل كانت هذه - برأيه - طريقة ذكية لجعل اللص يظن أنه لا يعرف بوجوده.

لاحظ بخوف تفاقم كثيراً أن هناك على الأرضية اللماعة ظل رجل يحمل سكينا بيده، كان حقا في الحمّام! سأموت! لكنني لا أريد أن أموت!

أقنع نفسه أنه قوي وسيصرع المقتحم الوقح بضربة واحدة من مضربه، وبثانية واحدة فتح الباب بكل قوته، وهوى بمضربه على رأس اللص بكل ما أعطاه الله من قوة في ذراعه. لكن ويا للعجب لم يجد رأس اللص! أو بالأصح لم يكن هناك لص، وكل ما أسفرت عنه حركته البطولة أن زلّت قدمه ووقع على الأرض المبتلّة، وبحمد الله لم يكسر حوضه أو رجله أو أي عضو في جسده. في الحقيقة لم يكن هناك أحد في الحمّام! كل ما تذكر أنه نسي أن يغلق الصنبور! بسبب تعجله صباحا! رأى ظلّه على الأرض وظنه ظل لص! أسرع يبدّل ثيابه التي ابتلّت بماء أرضية الحمام، وأخفى كل مظهر يدل على أن شيئا غريبا قد حصل، حتى لا يضطّر أن يشرح شيئا لأخته التي ما لبثت أن وصلت، لم تكن لتشكّ في شيء، لكنها سألت بفضول: لماذا يبدو مضرب التنس مبتلاً هكذا؟.
-----------------------------------
* كاتب وناقد من الكويت.

 

 

وليد جاسم الرجيب*
اعلانات