حروب الماء.. حروب المستقبل.. د. أحمد أبوزيد
حروب الماء.. حروب المستقبل.. د. أحمد أبوزيد
ربما لم يشغل الإنسان فكره بشيء مثلما شغله بمشكلة الماء وندرته أو وفرته وسبل الحصول عليه، وطرق استخدامه وترشيد ذلك الاستخدام للمحافظة على القدر المتاح له أو الذي ينتظر أن يحصل عليه في المستقبل القريب والبعيد حتى يمكنه تنظيم حياته وفقا لذلك. فلقد كان الإنسان دائما حتى في أبسط أشكال الحياة، وأدنى مراحل المعرفة يخطط لتوفير الماء حتى يضمن استمرار حياته هو نفسه في المحل الأول، واقتضى ذلك منه أن يبتدع أساليب أو حتى (تكنولوجيات) - تكفل له تحقيق ذلك الحد الأدنى. ولقد كان لكل مجتمع دائما تصوراته وخططه وأساليبه ووسائله وأدواته التي تتفق مع درجة تقدمه والمرحلة التي وصل إليها في مسيرة الحضارة. وكثير من الخطط والأساليب والوسائل التي سادت في الماضى - ولايزال لها بعض الرواسب في عدد من مجتمعات العالم الثالث التي تعيش بمعزل عن التطورات العلمية والتكنولوجية الحديثة - تعتمد على تدخل القوى الإعجازية غير المنظورة، أو الكائنات الروحية، بما في ذلك ممارسة طقوس السحر، على أساس أن تلك الكائنات الروحية تؤثر في كل شيء بما في ذلك الظواهر الطبيعية والكونية. وتؤلف هذه الممارسات جانبا كبيرا من الثقافة الشعبية في تلك المجتمعات، وهي ممارسات يطلق عليها أبو الأنثروبولوجيا البريطانية إدوارد بيرنت تايلور اسم (العلم الزائف) على اعتبار أن السحر في رأيه هو (علم البدائيين). والآداب العالمية زاخرة بالقصص والأساطير والطقوس الدينية، والممارسات السحرية حول قداسة الماء والمبادئ والتعاليم التي ينبغى الالتزام بها في التعامل معه باعتباره أصل الكون وأساس الحياة. ولذا فقد يكون من الصعب بل ومن الخطأ إصدار أحكام تقويمية على تلك الخطط والوسائل والممارسات والحكم عليها بمقاييس العلم الحديث وإن كان من المشروع أن نحكم على مدى تطور المجتمع نفسه من مدى فاعلية وكفاءة تلك الخطط والوسائل في توفير مايحتاج إليه لمزاولة أنشطته الحياتية. ولقد كان حرص الإنسان على الحصول على الماء وكل مايتعلق بذلك من أفكار وممارسات يفوق في كل المجتمعات المعروفة حرصه واهتمامه بتوفير الطعام ،كما كانت مشكلة المياه تحتل دائما مساحة من فكره أكبر بكثير جدا من تلك التي تشغلها مشكلة الغذاء على الرغم من أهمية الطعام لحفظ الحياة وعلى الرغم أيضا من كل الجهود المضنية التي يبذلها في إنتاجه أو الحصول عليه بشتى الطرق. وعلى أية حال فيجب ألا ننسى أن الماء مكون أساسي في الطعام ابتداء من مرحلة إنتاجه حتى مرحلة إعداده للتناول بالطهي. كما أن القدرة على التحكم في مصادر المياه، والكشف عن موارد جديدة ومتجددة والعمل على تنميتها وحسن إدارتها تمهد الطريق للتخطيط للمستقبل الآمن، وتحديد المصير في حدود الوضع المائي. وقد تكون هذه كلها أمورا معروفة. ولكن ما يدفعني الآن إلى العودة إليها والتذكير بها - وإن كان من الصعب نسيانها أو إنكارها - هو الوضع المائي الخطير في العالم ككل وفي منطقة الشرق الأوسط الذي نعيش فيه وننتمي إليه، وهو وضع يحتاج إلى التوقف عنده وإمعان النظرفيه في ضوء الظروف الإيكولوجية المتغيرة، التي قد يكون لها آثار سلبية على موارد وكميات الماء المتاحة لكثير من المجتمعات مما يهدد بنشوب المنازعات حول حقوق استغلالها وطرق الإفادة منها، وبذلك تتحول الظروف والأوضاع الإيكولوجية المتغيرة إلى مشكلات سياسية تنبئ بكثير من الأخطار. فالماء يمثل قوة رهيبة في المجال السياسي ويعتبر أداة لممارسة السلطة والتأثير على كل المستويات. فالذى (يملك) الماء يجمع بين يديه قوة سياسية مؤثرة لايتمتع بها من لايملك، كما أن القدرة على التحكم في موارد الماء تترجم نفسها في شكل القدرة على التحكم في مصائر الآخرين. ولقد كانت الحاجة إلى توفير القدر المناسب من الماء وراء كثير من حالات النزاع بين الجماعات الفرعية المختلفة داخل المجتمع الواحد، كما أنها وراء حالات الصراع الذي يزداد حدة الآن بين كثير من الشعوب نتيجة للتغيرات الإيكولوجية بحيث يتردد الآن القول إن الحروب القادمة ستكون من أجل التحكم في مصادر الماء وأن «حروب الماء» هي حروب المستقبل. وإذا كان البترول الذي يوصف لأهميته بأنه «الذهب الأسود» كان وراء كثير من الحروب، التي اندلعت خلال العقود القليلة الماضية، وألحقت بالعالم العربي كثيرا من الخسائر والفواجع، فإن الماء الذي يوصف الآن بأنه «الذهب الأزرق» Blue Gold لايقل أهمية عن البترول إن لم يفقه، لأنه سيكون سبب الصراع في المستقبل على مستوى العالم. شرقنا الأوسط والواقع أن ثمة شعورا متزايدا في معظم دول العالم بأنه لن يكون ثمة مفر من اندلاع ماأصبح يعرف باسم «حروب الماء Water Wars» في المستقبل غير البعيد. وقد حذرت الأمم المتحدة في مارس الماضى (عام 2009) من أن التغيرات المناخية قد تثير الصراعات حول الماء. ومن الواضح أن المناطق الأشد تعرضا لخطر تناقص المياه، والمؤهلة بالتالي للصراع هي الشرق الأوسط وأجزاء كبيرة من أفريقيا. فالصراع سوف ينشب بين الدول الفقيرة والغنية على موارد الماء مع تفاوت في مدى الحاجة الفعلية لهذا الماء، ولكنه سيكون على أشده بين الدول التي تشترك معا في مصدر واحد للماء يمر بها كلها، أي الدول التي تشترك في حوض نهر واحد تمر مياهه في أراضيها، وكانت ترتبط معا بروابط تاريخية وثقافية متينة خلال عصور طويلة، كما هو الشأن مثلا بين دول حوض النيل قبل أن تظهر نزعات أخيرة لدى دول المنبع للسيطرة والتحكم في المياه على حساب دول المصب، والدعوة إلى إعادة النظر في الأوضاع التقليدية المتوارثة خلال عقود طويلة، والمتعلقة بحقوق استغلال ماء النهر المشترك، مما قد يؤدي إلى صراع مرير وطويل، وإن كان من الصعب أن يتحول الخلاف إلى حروب دامية لأسباب عديدة ليس هنا مكان الخوض فيها، وليست هذه هي الحالة الوحيدة أو الفريدة إذ هناك حديث طويل عن الأخطار التي تهدد بعض المناطق الأخرى في العالم العربي والشرق الأوسط بل وأيضا في بعض الدول الغربية ذاتها، كما هو الشأن مثلا بالنسبة لحوض الدانوب. وترتبط مشكلة التنازع على الماء ارتباطا وثيقا بالزيادة الهائلة والمتسارعة في سكان العالم وبخاصة في دول العالم الثالث التي تعاني أصلا من الفقر المائي نتيجة لأوضاعها البيئية الخاصة، حيث يقع معظمها في مناطق صحراوية أو شبه صحراوية كما هو الشأن بالنسبة لدول الشرق الأوسط، أو في مناطق السافانا والمستنقعات كما هو الحال في وسط إفريقيا. إنما هذا لا يستتبع بالضرورة ابتعاد دول العالم المتقدم عن هذه المعاناة، ولكن لأسباب أخرى هي التقدم الصناعي الهائل، وحياة الرفاهية في المدن الكبيرة التي تستنزف كميات هائلة من المياه التي تحتاج إليها الزراعة والري في المناطق الريفية، وذلك فضلا عن احتياجات الأهالي في الأحياء الفقيرة في تلك المدن ذاتها، مما يسبب كثيرا من عدم الاستقرار. وقد شهدت الولايات المتحدة حالات من الصراع على الحقوق في استخدام مياه الأنهار في عشرينيات وثلاثينيات، بل وأيضا في تسعينيات القرن الماضي في الجنوب الغربي في ولاية كاليفورنيا بالذات، حيث نشب مثل هذا النزاع الذي كاد يتطور إلى صدام مسلح، وتطلب تدخل الكونجرس بين كاليفورنيا وأريزونا عام 1928، ثم في النزاع الذي نشب بين كاليفورنيا ونيفادا وقبائل البيوتي Piute عام 1990. وفى الولايات المتحدة ما لايقل عن ثمان وعشرين اتفاقية لتنظيم حقوق الماء بين عدد من الولايات، ربما كان أهمها اتفاقية تنظيم حقوق المياه بين أريزونا وكاليفورنيا وكولورادو ونيو مكسيكو وويومنج Wyoming. وقد سجلت قصة فيلم Chinatown الذي أنتج عام 1974 بعض أحداث ذلك الصراع الخطيرعلى حقوق الماء والأرض في لوس أنجلوس في الثلاثينات لضمان حقوق الماء في وادي أوينز Owens Valley. بل إن ثمة اتفاقيات بين ثماني ولايات أمريكية وإقليمين في كندا لتنظيم الاستفادة من مياه البحيرات العظمى ونهر سانت لورانس وعدم التصرف في استغلالها تجاريا دون استشارة كل الأعضاء، ولقد أصدرت اليونسكو منذ بعض الوقت تقريرها لعام 2009 عن تنمية الماء في العالم تحت عنوان UN World Water Development Report 2009. ويولي هذا التقرير قدرا كبيرا من الاهتمام للتغيرات المناخية والأزمات التي قد تنتج عنها والتي سوف يتأثر بها حوض المتوسط بما في ذلك جنوب أوربا وشمال إفريقيا، كما يعطي أهمية مماثلة لخطورة النزيف المستمر للمياه الجوفية في كثير من مناطق العالم، إلى جانب المخاطر الناجمة عن إساءة إدارة الماء مما يعني أن الإنسان نفسه يلعب دورا خطيرا في تفاقم الأزمة التي يعتبر نفسه ضحية لها. فالمشكلة إلى حد كبير مشكلة اجتماعية وثقافية من صنع الإنسان نفسه، ولو في حدود معينة وأنه يمكن التغلب على جانب كبير من تلك الأخطار عن طريق تعديل الناس لسلوكهم وتغيير نظرتهم إلى الماء. ولتقرير اليونسكو عنوان فرعي هو «الماء في عالم متغيرWater in Changing World يدور حول دور الماء في التنمية والنمو الاقتصادي وأن ندرة الماء تفرض على هذه المشكلة البيئية أبعادا اجتماعية وسياسية يجب أن تؤخذ دائما في الاعتبار، خاصة أن الوضع المأسوي قد يستمر لعقود طويلة نظرا للزيادة السكانية وثبات موارد الماء المتاحة في الأغلب مع تعرضه لأخطار البخر والتسرب والتلوث وبخاصة في العالم الثاث، وأن الفقراء (الأفراد والجماعات والدول) هم الذين يتعرضون لتلك المآسى أكثر من الأغنياء بحيث يمكن وصف كثير من حالات الصراع سواء على مستوى العالم أم داخل المجتمع الواحد بأنها «حروب طبقات» Class Wars حسب ماتقول مجلة The Globalist (عدد 16 أغسطس 2007). ومصطلح «حروب الماء» أطلقه في الأصل بعض علماءالبيئة على نوع الصراع الذي ينشب بين الشعوب نتيجة عدم توافر مايكفي لسد احتياجاتهم جميعا من مورد الماء المتاح لهم والخلاف حول حق الانتفاع وتوزيع الأنصبة. وتذهب بعض التقديرات إلى أن حوالي أربعين في المائة من سكان العالم الآن يعانون بشكل أو بآخر من عدم كفاية الماء المتاح لهم أو تلوثه، مما ينتج عنه كثير من الأمراض التي تودي بحياة مئات الآلاف كل سنة وبخاصة من الأطفال في دول العالم الثالث، وأن ذلك الوضع المتردي سوف يزداد سوءا في المستقبل نتيجة الزيادة السكانية في العالم والتغيرات المناخية. وتذهب مفوضية البيئة بهيئة الأمم إلى أن حوالى ثلاثة بلايين نسمة سوف يعانون من هذا الوضع خلال الخمسين سنة المقبلة، وأن ذلك سوف يؤدى إلى حدوث حركات هجرة واسعة من الريف إلى الحضر, وصراع شديد بين الجماعات التي تتباين في أساليب حياتها بين البداوة والزراعة والصناعة، وكذلك بين الشعوب التي تشارك في حوض نهر واحد وتختلف فيما بينها حول حقوق الانتفاع. وقد تتحول هذه الخلافات إلى صراعات مسلحة تستمر سنوات طويلة. واقع أم أسطورة وعلى الرغم من انتشار هذه المخاوف في كثير من الأوساط فإن هناك من الكتاب والدارسين من يرون أن مقولة «حروب الماء» هي مجرد أسطورة بعيدة عن الواقع، وأنه لم يحدث خلال التاريخ المعروف قيام حرب بالمعنى الدقيق للكلمة من أجل الحصول على الماء كما يحدث مثلا بالنسبة للبترول بالرغم من أن الماء أكثر اتصالا بالحياة. ولكن مما له دلالته على الجانب الآخر في هذا الصدد أنه حين أرادت إندي بارنابي Endy Barnaby وهي كاتبة أسترالية مشهورة بكتاباتها العلمية، ومن الرافضين لفكرة إمكان نشوب حروب بين الشعوب من أجل الماء أرادت نشر كتاب عن وجهة نظرها عن استحالة قيام حروب من أجل الماء بعنوان Do Nations Go to War Over Water رفض الناشرون قبول الكتاب على أساس أن كتابا يستبعد فكرة الحرب من أجل الماء لن يجد رواجا في السوق على ما تقول هي نفسها في مجلة Nature. وهذا يشير بوضوح إلى مدى اتساع فكرة حروب الماء وقبول الرأى العام العالمى لها. وربما لايكون هناك مايدل دلالة قاطعة على قيام حروب كبرى بالمعنى التقليدي لكلمة «حرب» - حول الماء خلال التاريخ، وإن كانت هناك تواترات ومصادمات محدودة نسبيا، وأن حالات النزاع مهما طالت تنتهي في آخر الأمر إلى إقرار الأطراف المتنازعة بضرورة التعاون فيما بينها وتنسيق جهودها لتحقيق المصالح المشتركة. وقد كان من الطبيعى أن تهتم هيئة الأمم وبعض وكالاتها المتخصصة بهذه المشكلة وأبعادها السياسية والتنموية، باعتبارها أحد مصادر عدم الاستقرار السياسي في أنحاء عديدة من العالم وأحد معوقات التنمية فضلا عن المشكلات الاجتماعية والصحية المترتبة على عدم كفاية الماء الصالح للشرب من ناحية، وعدم توافر وسائل الصرف الصحي من الناحية الأخرى. ففي اجتماع القمة الذي عقد عام 2005 في جوهانسبرج، انتهى الأمر إلى أن الهدف الأخيرالذي يجب على كل دول العالم أن تعمل على تحقيقه هو البحث عن خطط وسياسات ووسائل فاعلة لإدارة الماء، على نحو تكاملي بقدوم عام 2050، تأخذ في الاعتبار مختلف جوانب الحياة مع إعطاء أولوية للبعد التنموي الذي قد يشجع الدول الغنية والمانحة على الاستثمار في مشروعات تنمية موارد الماء، وبخاصة في مجتمعات العالم الثالث التي تعاني الكثير من عدم توافر الماء الصالح للاستخدام الآدمي. ولقد قررت هيئة الأمم اعتبار اليوم الخامس والعشرين من مارس من كل عام هو يوم الماء العالمي. وفى الاحتفال بذلك اليوم عام 2008 كانت الدعوة إلى ضرورة التعاون والتكامل الدولي لضمان استمرار الماء الكافي لمختلف المجتمعات وحسن إدارة الماء واستخدامه، واعتبار التغلب على هذه المشكلة هو «تحدي القرن الحادي والعشرين» على ماجاء في كلمة جاك ديوف المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة. ويتمثل ذلك التحدي في توفير الأساليب والطرق التي تكفل حفظ وحماية وحسن استخدام موارد الماء في كل أنحاء العالم إزاء الزيادة السكانية المتصاعدة والتي قد تصل في عام 2030 إلى أكثر من ثمانية بلايين نسمة. ومواجهة هذا التحدي تتطلب تضافر كل القوى في العالم ويستوي في ذلك الحكومات ورجال الصناعة والمجتمع المدني. ولكن هل تتوافر الآن الخبرات الثقافية والفنية في مختلف المجالات المتعلقة بالبيئة والاقتصاد والسياسات المحلية والإيكولوجيا والتغيرات المناخية واستجابة الناس لتلك الجهود ومدى إدراكهم لأبعاد المشكلة واستعدادهم لتغيير مواقفهم المحملة بتقاليد الماضي وتاريخ علاقتهم بموارد الماء؟ يبدو أن الشوط لايزال طويلا أمام العالم حتى ينجح في التغلب على ذلك التحدي الخطير. ---------------------------------- بدر شاكر السياب
|