فجوة العقل الصحي العربي

فجوة العقل الصحي العربي

«العقل الصحي» عقل يخطط ويدبر وينفذ تنمية صحة الفرد والجماعة، كعنصر أساسي حيوي من تنمية إنسانية حديثة شاملة، مؤسسة على اقتصاد رشيد، ليتوافر للناس جميعاً فرص للحياة وعمر أطول.

يرتكز مفهوم العقل الصحي على إدراك صحي عالمي معاصر لأهمية قياس «طول العمر المتوقع» لكل إنسان، دون أن يموت مبكراً أو يعيش مريضاً! أي أننا نخصم من متوسط العمر المتوقع لسكان الوطن، السنوات الضائعة بسبب الموت المبكر (بلا داعي!)، وسنوات مرض كان يمكن تفاديه.

ونحسب بذلك العمر المتحقق بصحة جيدة، فيكون ذلك مؤشراً صحياً عالمياً جديداً لحجم «الفجوة في العقل الصحي للأمة»، والتي بالقضاء عليها يعيش الناس عمرا أطول في صحة جيدة، مما يقربنا من مستويات البلدان المتقدمة.

ومن الواضح أن تقدماً قد حدث في العقود القليلة الماضية في صحة المواطن العربي، بسبب التقدم العلمي الطبي، وتحسن المستوى التعليمي، وتنفيذ العديد من البرامج التنموية. وانعكس ذلك في طول العمر (في النساء سنوات قليلة أكثر) وفي انخفاض ملحوظ في وفيات النساء في الحمل والولادة، وانخفاض مماثل في وفيات الأطفال الرضع، والولدان تحت سن الخامسة. وتحتل الدول العربية بهذا التحسن الصحي موقعاً وسطاً بين المستويات المتدنية (إفريقيا جنوب الصحراء) وبين المستوى الأوربي المتقدم،كما تنقص حظوظ بعض البلدان العربية الأكثر تخلفاً (السودان - الصومال - موريتانيا...)، عن حظوظ غيرها الأوفر نمواً.

وتتمثل فجوة العقل الصحي العربي في آثار صحية مجتمعية، وفجوة صحية مصاحبة على المستوى المعرفي، والثقافي والسلوكي للفرد العربي.

غياب مشروع النهضة

تشير تقارير التنمية الإنسانية الإقليمية والدولية والوطنية إلى تأرجح في متوسط الناتج القومي الإجمالي، وحجم الإنتاجية، ونصيب الفرد من الناتج السنوي، عند المستوى الاقتصادي المتوسط المنخفض، على الرغم من حظوظ الأمة العربية من الثروة النفطية الهائلة.

فهناك غياب مشهود لمشروع النهوض الصناعي العربي، والسوق المشتركة وكفاية الإنتاج الزراعي والغذائي. وتشمل الأمية 50% من السكان (وخاصة النساء).

وتستند صحة أي جماعة إلى توافر بيت للأسرة، له سقف وباب، وتصله مياه مأمونة للشرب والنظافة، ويتم الخلاص الآمن من فضلات سكانه حتى لا تختلط بمصادر المياه (فيحمل النيل بين ضفتيه فرص الحياة والموت كليهما). وتشهد المدن العربية الكبيرة اكتظاظاً بالسكان، ولزوجة بشرية، واختناقات مرورية وتلوثات بالغة الخطورة. ويعيش الملايين في عشوائيات تخنق المدن، يحيط بها مدن الأغنياء الجديدة التي توفر لهم التعليم والصحة والأمن الخاص.

ولم يستوطن العرب حتى الآن صحاريهم في أحزمة سكانية حول شواطئ البحار تخفف الضغط عن الوديان الزراعية كمحميات طبيعية تاريخية وسياحية، ولم ينقلوا الزيادة السكانية الكبيرة في القرى إلى ظهير صحراوي على نطاق مؤثر بعد، ولم يطوروا الاستفادة من تجربة «حسن فتحي» المعمارية على هيئة بيوت اقتصادية مريحة في مستوطنات عربية متآلفة، عامرة بالإنتاج الصناعي الحديث، ومسنودة بتواصل الطرق وتوافر الخدمات الصحية والتعليمية، واستعمال موفر للمياه التي تضمن الاستقرار والاستيطان العربي الحيوي لزراعة خفيفة وصناعة وتقنية متزايدة القيمة عالية العائد والقدرة.

ويغيب عن العقل الصحي الاجتماعي العربي خطط الرعاية الصحية الشاملة من خلال التأمين الصحي الاجتماعي التي تساند العمالة الريفية والإسكان الصحراوي. وقد اتجه العقل الصحي لأصحاب مؤسسات الخدمات الصحية والأطباء، إلى الاندماج في العولمة المنفلتة الطائشة لسوق العلاج الأناني الحر. ويسود في العالم العربي (تسليع) الخدمات الصحية وبيعها مع توفير الدواء فقط لمن يقدر. وتهيم قوى العمالة والبطالة العربية، على وجوهها دون سند صحي منظم، بسبب انفراط عقد النقابات العمالية الصناعية الكبيرة، وانتشار قطاع صحي خاص استثماري لا يتحلى بواجبات المسئولية الاجتماعية الصحية، ما يقلل من مردود التنمية الرأسمالية العربية. ودرجت كليات الطب العربية على إعداد الأطباء للعمل الفردي الخاص المتعدد المصادر في دكاكين العلاج ومؤسسات العلاج الخاص، واحتلال أماكن في المؤسسات التأمينية والحكومية في الوقت نفسه لتكون مصدراً لتحويل الرضا إليهم كمشروع فردي. وبتزايد قدرات الأطباء بصورة تفضيلية على أسس شبه عائلية، مستندين إلى أجهزة معقدة في مؤسساتهم الخاصة، يضيع الإمكان الاجتماعي لتوفير رعاية تأمينية شاملة لكل قوى الشعوب العربية، توفر الوقاية والتثقيف الصحي، وصيانة للبيئة، والفحص الطبي الدوري، والرعاية السريرية، والاكتشاف المبكر للمرض، ورعاية الحوامل وتقليل وفاة الولادة (إلى قرب الصفر!)، ومداومة تسجيل الحالة المرضية لكل مواطن في ملف طبي دقيق، يوفر رعاية مستدامة منظمة، ويقطع الطريق على الموت والمرض المبكر. كما يتعول الأطباء في سوق العلاج الحر على عدم الانضباط في نظام للعمل المركّز طوال الوقت، مبني على تراكم المهارة، واستيفاء الدليل من الفحوص المخبرية (المعملية)، والتمس بأصول الاحتراف المهني وتقديم الخدمة في إطار من الإخلاص والتكريس وجو من الحنان والعطف. إن غياب كل ذلك بسبب الاندماج في (سوقية الرعاية الصحية الهادفة أساساً للربح) يجعل كل حديث دولي عن ضرورة توفير العدالة والسواسية في الخدمات الصحية الأساسية الكافية للجميع وإتاحة الخدمة وجودتها، وكفاءة الأداء وتكامله، ضرباً من أضغاث الأحلام، وفي الواقع المر لن يحظى بالرعاية إلا القلة الغنية. وبهذه الفجوة الصحية في العقل الاجتماعي العربي، ستزيد فجوة التنمية العربية الرشيدة.

ومما يضاعف الخطر، انتشار متزامن للأمراض المنقولة (بالعدوى) مع قدوم أمراض الحضارة المزمنة (مثل مرض السكر وارتفاع الضغط، والسمنة المفرطة وانتشار الأورام). ويمثل ذلك عبئاً مزدوجاً على المواطن العربي، بسبب الخلل في نظم الرعاية المجتمية، والتردي في المهارات والسلوكيات الصحية الفردية، وتلوث الغذاء بالعدوى، والمزروعات بالأسمدة الضارة والمعلبات والأغذية المحفوظة بالمواد الحافظة المسرطنة.

وتشكل الزيادة الكبيرة في حوادث الطرق في كل القرى والمدن العربية وما ينجم عنها من وفيات الشباب والمضاعفات الجراحية الكارثية، مظهراً من مظاهر الطيش المجتمعي يفتقر إلى الحزم المروري والانضباط الحيوي لقيادة المركبات، والانفلات في استعمال المخدرات والاستهانة بالأرواح، والتكلفة العالية للإصابات، بما لا قبل للمؤسسات الصحية بها. ولم يستعد العقل الصحي العربي لمواجهة هذه الأزمات الإنسانية بأقسام الرعاية الفائقة الكافية للعلاج المكثف لإصابات الرأس، لمنع موت المخ، ثم للتضامن الإنساني على هيئة برامج إنسانية ضميرية خيرية والتطوع بالأعضاء البشرية، وبالتضامن في شبكة قومية عربية لزراعة الأعضاء، في حين يسمح الفرد العربي لنفسه بذلك حين يعيش في البلدان المتقدمة الأجنبية.

الصحة الجيدة.. كيف تتحقق؟

إن الصحة الجيدة نتاج منظومة مجتمعية، إلا أنها أيضاً مسئولية فردية إلى حد بعيد ومسئولية الفرد تعبير عن استعماله لقدراته العقلية: المعرفية والثقافية، في خدمة صحته الشخصية. وفي مجال الغذاء، تتيح الأكلات الشعبية العربية النظيفة إمكانية صحية كافية، يمكن الاستعاضة بها عن الوجبات السريعة الأجنبية المشبعة بالدهون، وبزيوت القلي الضارة، والتي توفر طاقة زائدة تسبب السمنة المفرطة، وأمراض المفاصل، وأخطاراً مضاعفة على الصحة في غياب ثقافة الرياضة البدنية اليومية المنظمة.

وستقدم لنا التحليلات الطبية تحديداً للبصمة الجينية لكل فرد في المستقبل القريب، لكي يتمكن من تحديد احتياجاته الغذائية والدوائية بصورة شخصية. ومن المهم عدم الانسياق وراء البرامج العديدة لطرق الطبخ الباذخة والتي تغري بالإفراط في تناول الأصناف الغذائية الدسمة المتعددة في الوجبة الواحدة للمطابخ الخليجية الغنية.

ومن ناحية أخرى تشكل الثقافة الجنسية المتوازنة للفرد العربي، محوراً صحياً إنسانياً. ويتسبب الخلل في الثقافات والسلوكيات الجنسية في فجوة عقلية صحية عربية تحتاج إلى رشد عقلي اجتماعي مبني على الاحترام المتبادل بين الجنسين، والحقوق المتكافئة، والرضا والقبول المشترك بغير غصب أو إكراه أو استغلال أو تحرش، واهتمام بالمعلومات الصحية لأساليب الحماية للطرفين من أخطاء العدوى الجنسية أو حدوث الحمل الذي يفتقر إلى اشتراطات اجتماعية ومسئوليات مشتركة.

كما يلعب نقص الثقافة الإنجابية، وعدم اهتمام الزوجين، وغلبة تفضيل إنجاب الذكور، دوراً ملحوظاً في الإنجاب الزائد في المجتمعات العربية المكدسة كثيفة السكان، وما ينجم عنه من آثار وخيمة على صحة الحامل، وأخطار الولادة المتقاربة على صحة الأم. وتتحدث أدبياتنا التراثية عن أن «جهد البلاء، هو كثرة العيال، مع قلة الشيء (الدخل!)». ويكابد الأبوان في العصر الحاضر أعباء تأهيل أبنائهم لخوض المنافسات الواسعة، في المجالات المعرفية والرياضية والإبداعية، مما يحرم الآباء من فرصهم هم في حياة لن يجود زمانهم بمثلها مرة أخرى.

التضامن الصحي والاجتماعي

ويشكل وعي الأفراد بأهمية التضامن الصحي الاجتماعي، والتبرع الخيري، والتأمين الصحي، التزاماً عقلياً صحياً يوفر تضامن الأمة العربية في عصر محموم من الأنانية الرأسمالية. كما تلعب الثقافة الصحية الفردية دوراً مهماً في منع نقل العدوى من فتحة الشرج إلى الفم، وانتشار الفيروسات الكبدية، والالتهابات التنفسية. ويؤكد انحسار الأمراض المعدية في المستقبل رشداً أكيداً للعقل الصحي للإنسان العربي.

ويحمل التقدم العلمي بشارات واعدة لإمكان الفحص الجيني للجنين في أطفال الأنابيب، وتجنب زرع الجنين المصاب بخلل جيني صحي يهدد مستقبل حياته. وكأن ذلك ينبهنا إلى نصيحة غالية (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس!) كما يتقدم علم حفز الخلايا الجذعية الأساسية على تخليق أنسجة وأعضاء بشرية تصلح كقطع غيار للأعضاء التالفة.

وهناك تقدم عالمي هائل في استكشاف القارات المجهولة في نسيج المخ البشري، واكتشاف ترابطاتها الفسيولوجية والعصبية، ومسارب ومخازن الذاكرة، وتشابكات الفكر، واحتمالات التداخل بين النشاط العقلي عميق الأغوار، والنشاط الإلكتروني الحاسوبي سريع الأطوار، بما يسمح بتوسيع الذاكرة المشتركة وتعميق التفاعل الذكائي للإنسان - الحاسوب، وفي ذلك متسع لمساهمة كل عقل عربي نجيب. وربما أفضى ذلك إلى تداخل وتواصل بين (ذاكرة الحياة في العمر المحدود) (وذاكرة الكون الممدود). بل ربما أفضى ذلك إلى نجاح محاولة التواصل الإنساني في المستقبل، مع الكواكب والمجرات، بسرعات فلكية، أو في أنفاق كونية، عبر مسارات للزمان في المكان بلا حدود. وربما كان ذلك في النهاية، استجابة لنداء تليد لبني الإنسان إِنْ استَطَعْتُم أَنْ تَنْفَذُوا مِن أَقْطارِ السَّمواتِ والأَرض فانفَذُوا، لا تَنْفَذُون إلا بَسُلطان .

 

 

 

عبدالمنعم عبيد