الطب وأمراض المشاهير فان جوخ.. نموذجـًا

الطب وأمراض المشاهير فان جوخ.. نموذجـًا

هل هناك علاقة بين المرض النفسي والفنون؟ هل هناك علاقة بين الاضطراب النفسي وقدرة الفرد على الإبداع أو التفكير بشكل يختلف عن الآخرين؟ ما زال هذا السؤال يطرح نفسه في العديد من قاعات البحث، وبواسطة متخصصين في مجالات الطب النفسي، والكيميائيين، وأيضا لدى المتخصصين في علم الجمال وعلاقته بعلم النفس الحديث، وفيما يلي أحدث الدراسات المتخصصة التي اهتمت بتحليل أعمال الفنان الهولندي فان جوج وقياس مدى اضطرابه النفسي عبر قراءة أعماله من قبل متخصصين.

من بين العديد من رسامي هولندا يظل فنسنت فان جوخ الأكثر انفراداً بأسلوب يمنح الحياة جوهرا عميقا في أعماله التي كانت نتاجاً لجهد ذهني وبدني، ومعاناة مع المرض النفسي على مدار عشر سنوات، أنتج في أثنائها عددا من أعماله النادرة، وساهم على نحو ما في موته المبكر.

ليس من الواضح نوعيه المرض العصبي الذي عاناه فان جوخ، وكيفية تأثيره في أعماله، بل إن مجرد محاولة الربط بين غرابة أطوار شخصيتة ومزاجه المتقلب من جهة، وإنتاجه الفني من جهة أخرى، يجعل فهم مرضه مسعىً معقداً جدا، ويضفي بالتبعية تحدياً كبيراً لمن يبحث في العلاقة بين ذهنية الفنان والمخ البشري بأمراضه.

لذلك تبدو معظم التشخيصات التي تم افتراضها لمرض فان جوخ النفسي أثناء القرن الماضي والتي قاربت ثلاثين تشخيصا أقرب إلى الافتراضات المبنية على تحليل لوحاته

ومراجعة سيرته الذاتية من خلال رسائله لأخيه «ثيو» منها إلى الأدلة الطب/تاريخية غير الكافية أصلا عن حياته.

وسنحاول في هذا المقال تقديم بعض السجالات التي ترجح تشخيصا بعينه لحالته المرضية وهو «اضطراب مزاجي ثنائي القطب» وهو ما يتميز بالتأرجح بين حالي «الاكتئاب والهوس».

أمراض العائلة

عاش فان جوخ بين عامي 1853 - 1890 وكان لعائلته نصيبها من الأمراض النفسية، فمن بين أربعة أشقاء عانى «ثيو»؛ الأخ الأكثر قربا له، من نوبات اكتئاب شديدة، بينما عاشت أخته «ويلمينا» ما يقرب من ثلاثين عاما في مصحة للأمراض العقلية، كما تشير دلائل عديدة على موت أخيه «كورنيليس» منتحراً، وهذا كله يشير إلى ما هو ثابت الآن بأن حدوث المرض بمعدل مرتفع في الأقرباء من الدرجة الأولى هو سمة مميزة للاضطرابات ثنائية القطب بما يحمل ذلك من آلية وراثية في حدوث المرض.

قبيل عام 1886 عانى فان جوخ فترات اكتئابية بالتبادل «وسرعة التقلب» مع فترات أخرى من الهوس. حدثت الفترات الاكتئابية أثناء إقامته في لندن بعد قصة حب فاشلة وطرده من الكنيسة وانفصاله عن «شين» السيدة التي أحبها لاحقا، بينما جاءت الفترات الهوسية متزامنة مع تحوله إلى الكنيسة الرسولية و بداية عمله بالفن.

ونجد فان جوخ في تلك الفترة مدخنا شرها ومسرفا في احتساء المشروبات الكحولية إضافة الى احتمال تعاطيه للتربانتين والكافور اللذين يستخدمان في الرسم. وهذا كله يعد من تصرفات مرضى الاضطرابات ثنائية القطب، بما يحمله تعاطي هذه المواد من تحفيز لحدة الاكتئاب أومحافظة على اليقظة الزائدة خلال نوبات الهوس، بالإضافة لتأثيرها في عدم ثبات الحالة المزاجية.

خلال الفترة ما بين 1870 1890 كتب فان جوخ لأخيه «ثيو» بشكل منتظم، وأظهرت تلك الرسائل مدى ما كان يعانيه من قلق ومخاوف؛ من الفقر والمرض والفشل، بالإضافة إلى العديد من أعراض الاضطرابات ثنائية القطب على الرغم من صعوبة الفصل بين مراحل الاكتئاب والهوس أو معرفة الفترات التي تستغرقها كل منها.

في رسالة لأخيه، وهو ما تكرر في مجموعة أخرى من الرسائل عبر فان جوخ، بقوة عن حالات الهوس الشديدة والمتكررة، وآثارها السلبية في قدراته على التعبير الفني، وعن إدراك الأهداف الجمالية في أعماله، على الرغم من أن النظر لتلك الأعمال يكشف تضمنها قدرا كبيرا من التحقق الفني.

لتفسير هذا التناقض يجب توضيح أن حدة الاكتئاب والهوس تتباين خلال مسار المرض، بما يجعل دورات «الهوس/الاكتئاب» تتناوب مع دورات أخرى من «الهوس الخفيف/الاكتئاب».

والحقيقة أن الهوس الخفيف يتسم بأنه أقل حدة من الهوس، وإن كان مصحوبا بالنشاط الزائد وهو ما يظهر جلياً في حالة فان جوخ ليس فقط في الكم المؤثر لأعماله التي أنتجها في فترة زمنية قصيرة نسبيا، ولكن، أيضا، في أسلوب رسائله بإيقاعها الذي حمل نوعا من التدفق اللاهث، وتعبيراته المليئة بالعاطفة وأفكاره المتدفقة ، الطليقة المسترسلة بلا توقف. ولعل حالة التسارع في إنتاجه للوحات في فترات تعرضه للضوء خلال فترتي الربيع والصيف، أحد دلائل ظاهرة معروفه تربط بين النشاط الزائد والتعرض للضوء لدى مرضى الاضطرابات ثنائية القطب.

وفي مقابل الرسائل الدالة على فترات الهوس التي مر بها فان جوخ، وجد الباحثون رسائل أخرى تعكس مروره بمراحل اكتئابية عبر فيها عن بؤس التشرد وعبثية محاولاته في الفوز بحب امرأة وقع هو في غرامها، بالإضافة إلى فقدانه الأمل لتحقيق أهدافه كرسام، وخوفه من الموت المبكر.

سمة أخرى للاضطرابات ثنائية القطب هي فقدان القدرة على إقامة علاقات اجتماعية ثابتة، وهو مايتضح في عدم استمرار فان جوخ في العمل داخل كيان منظم، بالإضافة إلى توتره الدائم وعدم قدرته على احتمال إدارة العمل بما تمثله من سلطة.

وعلى مستوى حياتة الأسرية كانت علاقتة بعائلته ملتبسة، وكثيرا ما كان احتياجه الملح وطلبه الضاغط للمال يفتقر للكياسة بالشكل الذي هدد علاقته حتى بأخيه «ثيو» الذي كان يتسم بالصبر والتفهم له.

وكما الحال في حياته الشخصية فإنه كرسام كان يبدو كمن بحث عن الاكتئاب ليقع في براثنه! كان شغوفا بشدة بنمط الحياة الفقيرة غير المستقرة لعمال المناجم بما فيها من مرض واقتراب من الموت، وكثيراً ما عبّر عن إحساسه بأنه واحد منهم.

ولعل اللوحة التي رسمها لطبيبه المعالج «د.جاشي» تجسد بدقة مدهشة الحزن والاكتئاب ممتزجين.

داخل المصحة

في عام 1889 وفي أثناء وجوده بمصحة «سان ريمى» التي دخلها بإرادته بعد تعرضه لنوبة ذهانية قام فيها بالحادثة المشهورة بقطع جزء من أذنه، مر فان جوخ بنوبات امتزج فيها الاكتئاب بالهوس، وهي فترات أوحت له بلوحات صور فيها المناظر الطبيعية مثل حقول القمح ، وأشجار السرو، والزيتون . ولكنه كان تصويرا مختلفا عن المألوف؛ فلوحة مثل «حقل القمح والغربان» التي قد تكون آخر لوحاته المكتملة قبل انتحاره تصور السماء المتشحة بالرياح السوداء والحقول التي تعصف بها الرياح. «وكلها دلالات على الاكتئاب والهوس».

أما الغربان التي تطير بعيدا قد تكون رمزا للخطر الذي كان يستشعره أو لحالة فقدان الأمل. في حين أن الطرقات في اللوحة تمثل إشارة لحياتة السابقة، أوالمسارات البديلة التي كان يمكن أن يختارها في المراحل الصعبة في حياتة.

في المقابل تمثل لوحته الأشهر «ليل مليء بالنجوم» نموذجا مختلفا لما قد يبدو تأثير العلاج على أعماله الفنية. فهذه اللوحة رسمها من الذاكرة، بينما كان تحت تأثير العلاج في المصحة بعد تعرضه لنوبة ذهانية تثير الكثير من مشاعر التواؤم بين قوى خفية «في خياله القلق» وقوانين دورات الطبيعة اللانهائية.

والحقيقة أنه لن يتسنى لنا أبدا معرفة ما إذا كانت العلاجات الدوائية الحديثة أو العلاج النفسي المتاح اليوم بأنواعه لتؤثر في حياة وأعمال فان جوخ لو حظي بتلقيها، فالإبداع الفني عملية شديدة الخصوصية والغموض

ولا يمكن فصلها عن التجربة الشخصية مما يجعلنا أميَل لتصديق وقبول فكرة أن المرض، بما قد يحمل من أبعاد فنية، هي فكرة ظهرت جلية في حال فان جوخ و تزداد وضوحا في تعبيره عن القوى الأصيلة الموجودة بعمق في الطبيعة، والتي لم يرمز لها بالسماء والنجوم والأشجار والزهور فحسب، بل تجاوز ذلك لاستخدام المباني والغرف بما فيها من أثاث للتعبير عن ذلك وهو شكل رمزي عميق لروحانية الطبيعة يراها البعض محاولة لتحويل معاناتة إلى حالة إيجابية منتجة لأعمال فنية.

في السابع والعشرين من يوليو أطلق فان جوخ على نفسه النار ليموت بعدها بيومين في التاسع والعشرين من يوليو 1890.

بعد موته كتب أخوه «ثيو» لأمه قائلا: «كانت الحياة ثقيلة جدا عليه».

 

 

 

خالد جمال 





فان جوخ بريشته مضّمدا أذنه المقطوعة





أولع فان جوخ برسم صورته الذاتية مرآة لشخصيته





كان يرسم من الذاكرة، يثيره خياله القلق