الفنان جعفر إصلاح في كتابه رُوح مصر.. وثائقٌ وصورٌ وحنينٌ

الفنان جعفر إصلاح في كتابه رُوح مصر.. وثائقٌ وصورٌ وحنينٌ

لماحية كاشفة يقدمها لنا عنوان هذا الألبوم المصور الذي جمع وثائقه ومادته الفنان الكويتي جعفر إصلاح؛ «روح مصر». فإن قرأته باللهجة العامية المصرية فهي دعوة لتذهب إلى مصر، وإن قرأته باللسان العربي الفصيح، فأنت على موعد مع الروح المصرية، في الآداب والفنون وأطياف الحياة المصرية كافة على مدى قرن أو أكثر.

عشق الفنان جعفر إصلاح الصورة، ولعل أول كتبه التي احتفت بها كان «واحدٌ موجودٌ في كثير، وكثيرٌ موجودٌ في واحد» الذي جمع بين غلافيه كلماتٍ مأثورة لإيقونات دينية وسياسية وأدبية في مقابل صور جمعها أو التقطها في مشارق الأرض ومغاربها. لكنه في كتابين تاليين يهب نفسه كلية للمُشاهد حين يخرج من جعبته صورًا التقطها في رحلاته العديدة، ليصدر ألبومه (الأطفال ملائكة ـ صور أطفال العرب وأطفال العالم)، وألبومه (الدراجة) التي تمثل دائرتي إطارها وجهي العالم الشرق والغربي الذي طاف به الفنان، وقد احتفى بالألبومين في معرضين استضافتهما بالكويت قاعة بوشهري.

هذا الألبوم الجديد، (روح مصر) له قصة. فمثلما أراد جعفر إصلاح أن يشارك الجميع في رحلاته المصورة حين قدم ألبومي صور (الأطفال) و(الدراجة)، أراد أن يهدي - بكل ما في اللفظة من معنى حقيقي - قراء العرب عامة، ومصر خاصة، هذه المجموعة من مقتنياته النادرة والتي تأخر صدورها نحو ستة أعوام. بدأت الفكرة بإصدارها ضمن ملحق كتاب الشهر الذي كانت تصدره مجلة (نصف الدنيا) وتحمست رئيسة التحرير الكاتبة والفنانة سناء البيسي له كثيرًا، وهي التي ظلت تُعنى بإعادة إحياء تاريخ مصر الاجتماعي والفني والسياسي منذ أصدرت وترأست تحرير تلك الأسبوعية. لكن تركها للمجلة جعل الفكرة تتحول، وربما ذلك ما أنضجها لتخرج بهذا الثوب القشيب من القطع الكبير في 336 صفحة، فيكون الناشر كويتيا (مؤسسة الشراع العربي)، والمطبعة بحرينية (الشرقية)، والمحتوى مصريا (وثائق وصور خلال مائة عام)، وهي إشارة إلى مشروع ثقافي عروبي، أصبح نادرًا في هذا الزمن.

بطاقات وطوابع

عَرَفتْ السياحة المعاصرة طريقها إلى مصر سنة 1870، حينما عينت الحكومة المصرية السيد: جيه. إم كوك، نجل مؤسس توماس كوك Thomas Cook، وكيلا رسميا للسفر في وادي النيل، وهو الأمرُ الذي أطلق العنان للرحلات النيلية على متن المراكب التي تخوض قلب النهر العظيم النابض بالثقافة الغنية، والتاريخ العريق، والمناظر الخلابة. تتوقف هذه المراكب بين ميناء وآخر، ليهبط راكبوها زوَّاراً للآثار الفرعونية، ومشترين لما يباع، وهو كثير، من أهالي تلك الموانيء.

مع مجيء العام 1900 كانت السياحة إلى مصر، وفيها، قد بلغت أوجها، وبدأت مراحل ترميم وإعداد المواقع الآثارية لاستقبال الزوّار، وتلا ذلك إنشاء بنى تحتية لاستضافة هؤلاء القادمين من أوربا. فبعد بناء «مينا هاوس» قرب الأهرام، وتشييد «شِبرد» في وسط القاهرة، غزت الصعيد سلسلة من الفنادق، أهمها «ونتر بالاس»، في الأقصر، و«كتاراكت»، في أسوان، وبدأت عيون السائحين تلتقط البطاقات البريدية التي ترسم مصر من أعلاها إلى أدناها. لا يُنكرُ أحدٌ فكرة كَوْن البطاقاتِ البريدية؛ التي تضمُّ مشاهدَ سياحية، قد لا تكشف واقع أي بلد تصدرُ منه، قدْر كونها مجردِ أداةٍ تستخدمُها صناعة السفر، التي يختار القائمون عليها الصورَ الأجمل، والأماكنَ الأفضل، واللحظاتِ الأشدَّ إغراء، والوجوهَ الأكثرَ إغواء. ولا تخرج البطاقات السياحية البريدية لمصر في مطلع القرن العشرين عن هذه القاعدة.

كانت بطاقات للكنوز المصرية، والبهاء المعماري الخالد، والوجوه البضة الفطرية، قد رسمت بقوة مولد هذا الفن وشيوعه.

لا يمكننا المقارنة بين بطاقات الأمس واليوم، فالقاهرة التي لم يكن يزيد عدد سكانها على نصف المليون، تحمل على كاهلها اليوم نحو عشرين مليونا، وقد ازدحمت الشوارع، وغطت اللافتات المباني، وزحفت أشجار الأسمنت والمعدن إلى كل المساحات الخالية، ومعظم البقاع الخضراء، حتى غطت نهر النيل أو كادت.

ستكشف لنا البطاقات البريدية أسراراً كثيرة إذا ما أمعنا النظر إلى التفاصيل. فوجود بحيرة مائية أمام الأهرام في البطاقات البريدية مطلع القرن العشرين، تؤكد أن الصورة أخذت أثناء فيضان النيل إلى تلك البقاع قبل بناء سدي أسوان وأسيوط في 1902. ونعلم أنه حتى العام 1868 كان على المرء أن يسافر إلى الأهرام من القاهرة على متن قارب!

هذا الكشف وسواه تقدمه بطاقات البريد المصرية التي جاوز عمرها المائة عام، وتحفل بها مجموعة جعفر إصلاح في (روح مصر). إن قراءتنا للافتات المحلات، التي تحملُ أكثر من لسان، وتكتب بأكثر من لغة، وترسم بأكثر من أبجدية، يجعلنا ندركُ أن مدن القاهرة والإسكندرية وبورسعيد كانت محلاتها تتحدث الفارسية واليونانية والرومانية، بجانب الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، فضلا عن العربية بالطبع. أما طوابعُ مصر فقد كانت - وهي لاتزال - أصدق إنباء من البطاقات البريدية، حملت على سطحها صور الملوك والرؤساء، من فجر التاريخ وإلى اليوم. لم يكن ولعُ جعفر إصلاح خاصًا بالطابع وحسب، أو المظروف المرسل فقط، أو أنه كان يكتفي بإصدار اليوم الأول، بل سعى - بجانب ذلك كله، ومن واقع خبرته في تصميم الطوابع - إلى البحث عن «أجنَّةِ الطوابع»، أو الرسوم الأولية، التي يحضِّرها الفنانون للطابع البريدي قبل أن يدفعوا بالتصميم النهائي إلى المطبعة. لذلك تضم هذه المجموعة ـ أيضا ـ نسخًا أصلية بريشة رسامين لوجوه من الأدب والفن والسياسة. إنها بطاقاتٌ وطوابعٌ وحنينٌ، لزمان عانق فيه الفن التاريخ، ليقدمَ، بحب وشغف، هذه المجموعة.

فصول وأصول

في الألبوم (روح مصر) أقسام، القاهرة الخديوية، والتصوير الفوتوغرافي والاستوديوهات الخاصة في مصر خلال الثمانين سنة الماضية، ووثائق وصور لملكي مصر فاروق وفؤاد، وقسم خاص لرجالات السياسة والصحافة والآداب، وآخر عن السينما والمسرح وأهل الفن، وداخله عين مدققة في صناديق تراثية لوثائق أم كلثوم، وحكايات ليلى مراد، وأيام أسمهان، ولحظات منيرة المهدية، وقبس من أوراق وصور ووثائق وخطوط فتحية أحمد، ونجاة الصغيرة، وعبد الحليم حافظ، ومحمد الموجي، وسيد مكاوي، وكمال الطويل، وهدى سلطان، وشادية، ومحمد عبدالوهاب، وفريد الأطرش، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي، وسلامة حجازي، حسبما وردوا بترتيب الكتاب، الذي خضع لاختيارات مخرجه الفنان جعفر إصلاح. واختتم الألبوم بفصول عن الفن التشكيلي ورواده، ووثائق البريد المصري والفنادق التاريخية.

ونعرف في القسم الخاص بالصحافة المصرية كيف ارتبط تاريخ السلطة الرابعة بالمرأة ارتباطا وثيقا، وشهدت الساحة دخول كثيراتٍ في مجال هذه المهنة، ناشرة، وكاتبة، ومؤسِّسة لإيقونات وعلامات على درب السلطة الرابعة. ومن بين المجلات التي تعتبر أهم وثيقة مصورة للمرأة ونشاطها في مصر، كانت مجلة (المصرية) التي أصدرتها السيدة هدى شعراوي. وقد تعرفنا بها على نشاطات المرأة المصرية ونهضتها، وسعيها لخدمة ثقافة شعبها، وفنون أمتها. وعلى الرغم من صدورها باللغة الفرنسية بادئ الأمر، إلا أنها مع أعدادها الأخيرة تحولت إلى اللغة العربية.

وقد صدرت مجلة هدى شعراوي بين عامي 1925 و1940 بعنوان L'Egyptienne، وحذت إصدارات أخرى حذوها مثل مجلات بنت النيل، والمرأة الجديدة، وحواء. ولعل الطفرة التي حدثت في الصحافة النسوية تدين لهذه المجلة الفريدة. ويسجل التاريخ الأدبي أن بداية المرأة المصرية في الصحافة النسائية والعامة (منذ 1892 ومع نشأة الفتاة لهند نوفل) كانت تحت أسماء مستعارة، فكانت زينب فواز (المرأة المصرية)، وسعدية سعد الدين (شجرة الدر)، وسارة المحية (فتاة النيل)، وملك حفني ناصف (باحثة البادية)، ونبوية موسى (ضمير حي في جسم رقيق)، وأوليفيا عبد الشهيد (الزهرة)، وكان الرجل الوحيد الذي يستخدم اسمًا نسويًّا مستعارًا هو سليم سركيس (مريم مظهر) قبل موضة انتشرت في الصحافة المصرية على أيدي مفيد فوزي وأنيس منصور وغيرهما! ومنذ ثورة 1919 وحتى الستينيات روجت المجلات المصرية لصورة المرأة طبيبة وجندية، وعالمة وعاملة، تقود الطائرات، مثلما تعمل جابية لتذاكر المترو، وحجر أساس في التعليم. وتوزعت هذه الصور عبر عشرات السنين على عدة مدارس صحفية قدمت لنا أسبوعيات وشهريات تحتفي بالصورة منها: الهلال، روز اليوسف، اللطائف المصورة، الاثنين والدنيا، المصور، وآخر ساعة، حتى إذا بدأ العقد الأخير من القرن العشرين جاءت إلى الصورة (مجلة أسبوعية نسائية اجتماعية) هي (نصف الدنيا) لتعيد كتابة تاريخ الصورة الصحفية في مصر. ولا يغفل الألبوم تجواله في أصول هذه الصور.

كانت الطفرة الصحفية التي خدمت فن الرسم الصحفي قد دشنها مولد مجلة صباح الخير (12 يناير 1956) عن مؤسسة روز اليوسف، وكانت المجلة كما يقول أحمد بهاء الدين بمناسبة مرور عام على صدورها وكان أول رئيس تحرير لها ـ وثاني رئيس تحرير لمجلة (العربي) التي بين أيديكم: «إننا تصورنا ونحن نضع خطة المجلة أسرة في مجتمعنا فيها الأب والأم وفيها الشاب والشابة في مرحلة النضج وفيها الفتى والفتاة في سن المراهقة وقررنا أن تكون صباح الخير صوتا يخاطب كل هؤلاء ويشترك معهم في حل مشاكلهم وتلبية اهتماماتهم». ولم تحاك المجلة الوليدة مطبوعة سبقتها بل منحت الرسوم الشارحة والكاريكاتير المساحة الواجبة، وقدم فنانوها الكبار أعمالا خالدة ومنهم زهدي وعبد السميع وصلاح جاهين وحجازي ورجائي ونيس وبهجت عثمان وجمال كامل وحسن فؤاد وهبة عنايت وصلاح الليثي وغيرهم.

يحكي الفنان جعفر إصلاح في مقدمته كيف بدأت علاقته مع مصر بنداء بائع الصحف في (الكويت) حين كان صبيا يتردد بعد المدرسة على دكان والده في سوق الغربللي بسوق الكويت القديم، فإذا به ذات عصر يسمع نداء بائع الصحف على المجلة الوليدة، يقول جعفر: «وهكذا وأنا صبي في العاشرة بدأت علاقتي بمصر تزداد ورحلتي مع هواية جمع المجلات وأغلفة الكتب والصور تنمو. ولم تمض أشهر قليلة حتى أصبح التردد على المكتبات وبائعي الجرائد في السوق نشاطا يوميا لاأستطيع الاستغناء عنه، إضافة إلى هوايتي المفضلة لجمع الطوابع المصرية.. كنت أشتري هذه المجلات والكتب لا لقراءة محتواها، بل لأستمتع بتصميم غلافها، وإخراجها الداخلي، وكنتُ أميل في ذلك الوقت لأغلفة مجلة صباح الخير المرسومة ورسوم الكاريكاتير إضافة إلى مجلتي (سمير) و(سندباد)».

على أغلفة صباح الخير ظهرت الفتيات بالمايوه، والنساء بالملاءات اللف والنساء من كل طبقة، الراقصات والعاملات والفلاحات، والطالبات، والموظفون والبسطاء، جنبا إلى جنب مع النجوم والزعماء. وهكذا شاهدنا حوريات جمال كامل الأسطورية، وكائنات حجازي الساخرة، ودمى صلاح جاهين الضاحكة، وأبطال حسن فؤاد العظام، ومواقف رجائي ونيس اليومية، ومشاهد هبة عنايت الساحرة، ولغة إيهاب شاكر البصرية المتجددة، وأصبحت هذه الأغلفة بمنزلة لوحات تشكيلية لفائدة الطبقات التي لا تستطيع اقتناء لوحات أصلية. وساهمت في تفريخ أجيال جديدة، من متذوقي الفن، ليس فقط في مصر، بل حيث وصلت، في كل أقطار الوطن العربي كما في حال جعفر إصلاح.

في مرحلة لاحقة، سيدخل الكمبيوتر عصرنا دون مواربة، في التصوير والتلوين معًا، ويبدأ نوع جديد من الثرثرة اللونية. وبتنا نرى عناوين كثيرة بألوان وخطوط متنافرة، وباتت الصورة تزاحم الرسم، والخطوط تزاحم الشبكات، وأعتقد أنه مع انهيار مدرسة الغلاف البصري الرائق في صباح الخير، انهارت مدرسة كبيرة في فن الغلاف المصور. لكن الأمل في غلاف راق ـ سواء للكتب أو للدوريات ـ بقي مرهونا بما يقدمه الفنانون حلمي التوني ومحمد أبو طالب ومحيي الدين اللباد، وإيهاب شاكر، ومحمد حجي، وهم أبناء المدرسة التي تحتفظ للغلاف بشخصيته الناطقة بالموسيقى العريقة في عصر الضوضاء. وبالرغم من أن ذلك كله ليس مكتوبًا في (روح مصر) فإن المتصفح للكتاب المصور يستطيع أن يقرأه من الأصول الكثيرة للأغلفة والمتون للأعمال الفنية.

الصورة تؤرِّخ

في العام 1839 كللت بالنجاح جهود المصوِّرَين الفرنسيين لويس جاك داجيري وزميله ألفونس جيرو في الحصول على صورة قياسية عن طريق آلة تصوير فوتوغرافي، وما أن أعلن تحقق هذا الحلم على لسان فرانسوا أريجو بأكاديمية العلوم في باريس حتى كانت هذه الآلة، مع أول مصور على أرض مصر، التي رغب هذا المصور ومن أتى بعده في أن يقدموا طبعة مصورة من مصر التي خلبت لب أوربا وألهبت خيال الأوربيين، بعد أن قدم علماء حملتها الفرنسية وجه مصر مرسوما في (وصف مصر). كان محمد علي باشا ـ الذي بدأ حكم أسرته لمصر في العام 1805 ـ يبذل جهده للنهضة ببلاده، وتحديثها عسكريا بما يفي بطموحه في توسيع سيطرته، وقد سمع بخبر آلة التصوير الجديدة، فقرب إليه صاحبها المستشرق الفرنسي، والرسام، أميل جون هوراس فيرنيه، بل وطلب منه أن يعلمه أصول هذا الفن وأسسه، كما يذكر الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو في تقديمه لكتاب (مصر في عدسات القرن التاسع عشر)، الذي أصدره مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باستانبول. وتلا فيرنيه خلال الأربعينيات من القرن التاسع عشر سبعة مصورين، وفي الخمسينيات حل بالبلاد 34 مصورا، وزارها في الستينيات 43 مصورا، وفي العقد الذي تلاه جاء 30 مصورا. وكان كل هؤلاء المصورين من المشهورين النابغين في مجالهم، ممن جاءوا على نفقتهم، أو ممن أرسلهم السلطان عبد العزيز، والسلطان عبد الحميد الثاني، آخر سلاطين الخلافة العثمانية، الذي أراد توثيق وتصوير سائر بقاع الإمبراطورية العثمانية.

وكان ممن أوفدهم السلطان عبد الحميد الثاني الأخوة عبد الله، وباسكال صباح، وبشار، وكلهم من استانبول، فضلا عن الإيطالي كارلو نايا، واليوناني زنجاكي. ولعل هذا الأخير كان من أغزرهم، وتظهر مجموعاته في ألبومات كثيرين من مقتني صور هذه الحقبة، ومنهم صاحب هذا الكتاب الفنان جعفر إصلاح، الذي تضم مجموعته رصدًا حيا لمصر القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، من خلال صوره النادرة. كانت القاهرة في ذلك العصر غير القاهرة التي نعرفها اليوم، بل وغير القاهرة التي نعرفها قبل نصف قرن. وشاء المصورون أن يكونوا عينا توثيقية لعمارتها وشوارعها، ومعالمها، مثلما كانوا عينا راصدة للوجوه المصرية والعربية، والكوزموبوليتانية أيضا، التي عاشت فيها خلال ذلك الزمن البعيد القريب، وشاهدة على جوانب من الحياة اليومية القديمة في القاهرة والإسكندرية وبورسعيد وغيرها قبل مائة عام، أو يزيد.

لعلنا نتعرف على بعض مصوري هذه الحقبة، فنذكر الأخوة عبد الله وهم ثلاثة أشقاء ولدوا في استانبول لعائلة أرمينية، كيفورك (1839) الذي أكمل تعليمه في فينيسيا، وفيتشن الذي عمل رسام منمنمات في بلاط السلاطين، وهوفيسب، وقد اشتروا ستوديو تصوير ظل هو الأول في استانبول لمدة 30 عاما حتى اشتراه صباح وجولييه في 1899م. وقد عين ثلاثتهم في البلاط السلطاني سنة 1863 وافتتحوا فرعا لمعملهم في القاهرة سنة 1895. ثم نذكر من المصورين أيضا ممن تظهر أسماؤهم على هذه المجموعة الفرنسي بونفي، وقد أسس دار تصويره في بيروت سنة 1867، وكان رب العائلة فيلكس بونفي (1831 ـ 1885)، الذي أسس مع زوجته ماري ليدي كابانيه بونفيه (1837 - 1919) شركة تنتج صور جولات الزوج ورحلاته، بينما تصور الزوجة البورتريهات في الاستوديو، حتى انضم الابن آدريان للمهنة، بعد وفاة والده. لكن القبرصيين أو القادمين من جزيرة كريت، ولقبهما زانجاكي، يعدان من أشهر من نلتقي بهم في هذه المجموعة، وقد ظهر أحدهما في إحدى الصور التي تعود لفترة نشاطهما في سبعينيات القرن التاسع عشر، واسمه أدلفوي زانجاكي، بجانب سيارة تحمل لافتة بالعربية والإنجليزية لاسم شركتهما، بالرغم من أن جميع تعليقات الصور والبطاقات التي تركاها كانت باللغة الفرنسية. ولم يكتف هذان المصوران بالتقاط الصور على طبيعتها، بل أقاما ما يشبه الاستوديو الخارجي قرب معملهما، جعلا منه مكانا دائما لعشرات الصور التي يتناوب عليه أصحاب المهن التقليدية في شوارع القاهرة وحواريها.

كان هذا الركن جزءا حقيقيا من مبنى قديم ظل على عهده طوال هذه السنوات، ليكون مثاليا في كونه مشهدا أصيلا للعمارة القاهرية في الأحياء الشعبية: الأقفاص المهملة من بيع الفاكهة التي تبدو صالحة كمقاعد في بعض الصور، والباب الخشبي الذي يحتفظ بنقوشه وبيد (السقاطة) الحديدية التي تدق الباب فيسمع من في قلب البيت (العامر)، والجدار الحجري الضخم، والمشربية التي تحتفظ بحرمة من وراءها حتى يعلن عن نفسه وحضوره. في هذا المكان الثابت سيفد باعة حقيقيون للبرتقال والموز، وسقاءون بقرب المياه المصنوعة من جلود الماعز، وحمالون، وأصحاب مهن سن السكاكين، والحلاقة، وسواها.

وفي البطاقات البريدية نلمح ذلك العطر الخفي الحسي الذي يتصاعد من الصور المختارة، لراقصات شرقيات، وعوالم يصاحبن فرقا موسيقية، وغجريات مع أطفالهن ومن دونهن، وبدويات حافيات بأزيائهن التقليدية، وبغايا عاريات الصدر أو البطن يشكو معظمهن من نقص الجمال، ونساء بيوت في جلسات مسترخية، وأخريات يشربن القهوة ويدخن النارجيلة، مما حول هذه المجموعة إلى صور من الفن الاستشراقي، أكثر من كونها صورا للحياة الطبيعية. وسبب ذلك - في رأينا - أن هؤلاء المصورين جاءوا باحثين عن الصور التي رسمها فنانو المرحلة الاستشراقية للحياة القاهرية، وحينما لم يجدوها، ابتدعوها، حتى أنهم يسجلون في القرن التاسع العشر، وسنوات مطلع القرن العشرين مشاهد تنتمي لقرون خلت. صور المرأة في مجموعة مقتنيات الفنان جعفر إصلاح، وهي تؤدي أكثر من دور، لعل أغلبها أدوار صامتة على أهميتها (هل هو صمت الألم؟). فقد لعبت المرأة المصرية دورا مهمًا في سبيل تقدم اجتماعي تحلم به. ففي الوقت الذي شاركن فيه الرجال نضالهم ضد الاحتلال الأجنبي، كانت لهن نضالات أخرى تتحدى سلطة المجتمع البطريركية نفسها، وبين هذين الوجهين للتحرر عبرت بنات النيل بين ضفتي الزمن. ولعل الصور الأغلب تكون للنساء حاملات الجرار، كما أسلفنا، لكن صور الحياة الاجتماعية ترصد مزيدا من يوميات المرأة خلال قرن مضى تجلت فيه روح مصر على أكثر من وجه.

 

 

أشرف أبو اليزيد 




غلاف الألبوم





كانت نساء القاهرة لا يرغبن خلال حياتهن العادية أن يكن موضوع الصور، وبخاصة بنات العائلات المسلمات، فإن غيرهن قبلن الجلوس إلى المصورين ليصنعوا منهن موضوعات كثيرة، وبأزياء مفتعلة في أحايين أكثر





في سبعينيات القرن التاسع عشر، كان الحجاب يغطي الرأس والكتفين، ونادرا ما كان يغطي الوجه، وكان اليشمك، النقاب التركي لوجه المرأة، والصورة للملكة فريدة وإدريس حواء في عام 1939م





قهوة خانة مصرية، بعدسة زانجاكي سنة 1880م





هدى شعراوي على غلاف النيل سنة 1927م





إذن بريد بصرف 950 مليما، بتاريخ 16 / 1 / 1941م





أحمد لطفي السيد، مرفوضا من سيدة طلب يد ابنتها للزواج في 1933 ومكرما على غلاف «الهلال» بعد نحو 60 سنة





الفنون - جميعها - حاضرة في (روح مصر)، من خلال ملصق فيلم نادر، أو مخطوطة لنص مسرحي (مثل صفحات من مسرحية لنجيب الريحاني بطلها كشكش بيه، مع شطب بأمر الرقابة في بلاد الشام لبعض الأسطر في ختم يعود للعام 1922م).