استدراكات بنيوية (2)

استدراكات بنيوية (2)
        

          في أواخر عام 1999 اشتبكت مع المرحوم عبد العزيز حمودة ( 1937 - 2006م ) في معركة نقدية، ترددت أصداؤها على امتداد العالم العربي. وقد عنف كلانا بأخيه، ولعلي كنت حادًا في عباراتي بسبب كثرة الأخطاء التي وجدتها في الكتاب. وقد أطلق صديقي العزيز جمال الغيطاني «معركة نهاية القرن» على المقالات التي لم تقتصر على ما كتبته أنا وما كتبه حمودة، رحمه الله، فقد أسهم فيها العديد من نقاد الأدب العربي على اختلاف أجيالهم. ومرت السنوات العديدة، وعادت صداقتي السابقة مع عبد العزيز حمودة إلى مجراها الطبيعي، فقد كنا في الأصل أبناء كلية واحدة، ينتسب هو الذي تخرج قبلي بثلاث سنوات ( 1962 ) إلى قسم اللغة الإنجليزية، وأنتسب أنا إلى قسم اللغة العربية بتقاليده العلمية الصارمة التي أرساها طه حسين، والتي لا أزال أسعي إلى الحفاظ عليها. وفي العدد السابق نشرنا مجموعة من الاستدراكات وهنا نستكمل ما بدأناه:

          ويرد في (ص06 1) ما نصه: «إن إعادة الاكتشاف الغربي التي تحدث لباختين منذ سنوات تنطلق من التعامل معه كبنيوي وليس كأحد أقطاب الشكلية الروسية، ثم إن الجناح البراجي من الشكلية الذي اتخذه لنفسه حين تأسيسه عام 1926 والذي ضم اسمين روسيين كبيرين هما: «بيتر بوجاتريف» و«رومان ياكوبسون» اعتبر نفسه بنيويا منذ البداية بالرغم من تمسحه بالاسم السابق نفسه للمجموعة الروسية». وأوجه عدم الدقة في هذا النص متعددة، وأولها نسبة باختين (1895-1975) إلى البنيوية بالطريقة نفسها في الإشارة إلى ياكوبسون، فباختين له وضع متميز تماما، سواء بالنظر إلى الشكليين الروس من أمثال شكلوفسكي، أو أقرانهم الذين أصبحوا بنيويين مع تطور أفكارهم مثل ياكوبسون. والعامل الحاسم في تمييز باختين هو أنه لا يؤمن بالبنية المغلقة، وينظر إلى العمل الإبداعي بوصفه وظيفة فاعلة في العلاقات الاجتماعية، وظيفة يمكن أن تهدد التراتب الاجتماعي وتسهم في تغيير حدوده وقواعده على نحو غير مباشر. (راجع مفهومه عن الكرنفال مثلا).

          هذه واحدة. أما الثانية فهي حكاية «الجناح البراجي ( من مدرسة براج) من الشكلية الذي اتخذه لنفسه حين تأسيسه عام 1926». والذي أعرفه - إلى أن يصحح لي أحد معلوماتي - أن باختين لا علاقة له بمدرسة براج في تشيكوسلوفاكيا. ولم يكن له جناح اتخذه لنفسه، ولم يتخذه جناح براج ( براغ) من الشكلية لنفسه بالقدر نفسه. وفي موجز الحياة القاسية لهذا الناقد العظيم (راجع، موسوعة النظرية الأدبية المعاصرة، جامعة تورنتو سنة 1994) ما ينفي هذه العلاقة، وما يستحق الذكر لإظهار مفاسد التسلط والتصلب والتعصب من أي نوع. فبعد أن تخرج باختين من جامعة بطرس برج، انتقل إلى مدينة صغيرة في غرب روسيا، حيث عمل معلما لفترة، وانضم إلى مجموعة مهتمة بالفلسفة والأدب والأخلاق. وكان في ذلك بداية النشاط العلمي الذي انتهى به في مطلع العشرينيات إلى كتابة دراسة ضخمة عن طبيعة المسئولية الأخلاقية وعلم الجمال، وذلك من منظور معارض لكل من الكانطية الجديدة والماركسية. وطبعا، لم يفلح الرجل في الحصول على عمل ثابت بسبب الاسترابة الجدانوفية في أفكاره، وضعف صحته بسبب مرض في العظام تفاقم نتيجة الاضطهاد السياسي، مما أفضى إلى بتر قدمه اليمني سنة 1938. وكان باختين قد اعتقل سنة 1929 بتهمة النشاط المعادي للدولة السوفييتية، وحكم عليه بالنفي في معسكر اعتقال قاتل في أقصى الشمال الروسي. ولم ينقذه من الموت في هذا المعسكر الرهيب سوى تدخل بعض أصدقائه من ذوي النفوذ لتخفيف الحكم عنه لسوء أحواله الصحية، وبالفعل تم تخفيف الحكم إلى ست سنوات في منفى أقل خطورة داخل قازاخستان. ولم ييأس الرجل الذي اضطر إلى العمل في أتفه الأعمال، طوال الثلاثينيات، فاشتغل لفترة كاتب حسابات في مزرعة جماعية. ومع ذلك كتب في هذا المنفى أشهر مقالاته عن نظرية الرواية. وبدأ البحث في عمله التأسيسي عن رابليه، وهو العمل الذي أصبح أطروحته للدكتوراه التي حصل عليها من معهد جوركي لآداب العالم في موسكو. ترى هل يمكن الحديث بعد ذلك عن علاقة باختين بمدرسة براج، أو الإشارة إلى «الجناح البراجي من الشكلية الذي اتخذه لنفسه حين تأسيسه عام 1926»؟

الشكلية الروسية

          ومن ذلك ما نقرأه (ص 112) عن الشكلية الروسية «التي يجري منذ بضع سنوات إعادة اكتشافها». وكلمة «البضع» ما بين الثلاث إلى التسع. ولذلك فهي لا تصلح على الإطلاق لوصف عمليات إعادة اكتشاف البنيوية التي تمتد إلى بضعة عقود وليس بضع سنوات. وسواء بدأنا تقديم الشكليين الروس في الولايات المتحدة من كتاب «نظرية الأدب» الذي نشره رينيه ويليك بالاشتراك مع أوستن وارن سنة 1949، حيث ظهرت للمرة الأولى فيما أحسب بعض أفكار فيكتور فينوجرادوف وزرمونسكي وأوسيب بريك وغيرهم، أو بدأنا من أطروحة الدكتوراه التي أعدّها فيكتور إرليك وقدّم لها رينيه ويليك حين نشر طبعتها الأولى سنة 1954، فإن النتيجة واحدة، وهي أن عملية إعادة اكتشاف الشكلية الروسية في الولايات المتحدة ترجع إلى بضعة عقود وليس إلى بضع سنوات. وفي هذا الجانب، تختلف عملية استقبال الشكلية الروسية في أمريكا عنها في فرنسا، بسبب وجود الأساتذة المهاجرين إليها من الدول الشرقية أمثال رينيه ويليك التشيكي الأصل (مولود سنة 1903) الذي درس في جامعة براج وحصل منها على الدكتوراه سنة 1926، ثم ارتحل منها إلى الولايات المتحدة سنة 1927، بعد أن حمل معه ميراث المدرسة الشكلية، شأنه في ذلك شأن رومان ياكوبسون (1896-1982) الذي هاجر من الاتحاد السوفييتي إلى تشيكوسلوفاكيا حيث حصل على درجة الدكتوراه من جامعة براج وظل فيها إلى أن فر إلى الدول الاسكندنافية مع الغزو النازي، ومنها إلى الولايات المتحدة سنة 1941، حيث عمل بالتدريس مثل رينيه ويليك الذي سبقه إلى الهجرة. وكلاهما كان له دوره في تشجيع التعرف الأكاديمي على الشكلية الروسية في الولايات المتحدة، الأمر الذي أدّى إلى سلسلة رسائل جامعية بدأت بفيكتور إرليك سنة 1954، ولم تنته برسالة EWA. M. Thompson عن «الشكلية الروسية والنقد الأنجلو أمريكي الجديد» المنشورة سنة 1970 (Mouton) وفي موازاة هذه الأطروحات صدرت مختارات لوران الشكلية مترجمة عن الروسية بواسطة أمثال كريستيانا بومورسكا (زوجة ياكوبسون الأخيرة).

          نقابل في (ص114) ما نصه : «إن ما يشكل البنية الفوقية للثقافة من وجهة النظر الماركسية، وهي الفن والقانون والسياسة والدين، هي البنية التحتية أو الإدراك الاجتماعي القائم على العلاقات الاقتصادية والصراع الطبقي»، وقد أدى عدم الدقة في الكلام إلى الخلط بين «الإدراك الاجتماعي» الذي هو بنية فوقية و«العلاقات الاقتصادية» المنتسبة إلى البنية التحتية، ومن ثم فلا تسوية بين البنية التحتية أو الإدراك الاجتماعي»، فالثاني ليس من جنس الأول.

ذات المتلقي

          ويرد (في ص117) الكلام عن «ذات المتلقي التي سوف تتضخم في الفترة المفصلية بين البنيوية والتفكيك، في السبعينيات على وجه التحديد حينما تسيطر نظريات التلقي على الساحة النقدية لفترة قصيرة، وتصبح ذات المتلقي هي مصدر المعنى، المصدر الوحيد في الواقع». وهذا كلام يحتاج إلى تدقيق، فذات المتلقي لم تتضخم في الفترة المفصلية بين البنيوية والتفكيك، وإنما مع التفكيك، وضمن التمرد على المشروع العلمي للبنيوية وإطلاق سراح النص من سجن البنية المغلقة. وقد بدأ ذلك مع الإعلان الدرامي الشهير لرولان بارت الذي تحدث عن «موت المؤلف» في مقاله الشهير الذي كتبه سنة 1967 ونشره سنة 1968، مختتما إياه بالجملة التي أصبحت أشبه بالمأثورات الشعبية في النقد المعاصر: «ميلاد القارئ رهين بموت المؤلف»، لكن بقدر ما كان هذا المقال إرهاصا بما بعد البنيوية، في مجتمع ثقافي باريسي، كان ديريدا يلقي فيه محاضراته الأولى عن التفكيك، فإن المقال كان حلقة في سلسلة عالمية سرعان ما تجاوبت معها كتابات أمبرتو إيكو في إيطاليا عن «دور القارئ» ابتداء من سنة 1959، وما كتبه جيرالد برنس (الناقد الأمريكي المولود في مصر سنة 1942) عن «المروي عليه» فضلا عن حديثه عن سرديات القراءة ابتداء من السبعينيات، جنبا إلى جنب ستانلي فيش من ناحية وميشيل ريفاتير من ناحية أخرى في الولايات المتحدة. أضف إلى ذلك أصحاب علم نفس القراءة أمثال نورمان هولاند وديفيد بلايخ وغيرهما من الذين بدأوا في السبعينيات، وأخيرا مدرسة كونستانس لجماليات التلقي في ألمانيا وعلى رأسهم إيزر وياوس.

          ويؤكد تتبع إنجازات هذه السلسلة المتسعة أن ذات المتلقي لم» تتضخم» في الفترة المفصلية بين البنيوية والتفكيك، وإنما بدأ الوعي بها يتصاعد شيئا فشيئا إلى أن وصل إلى درجة كبيرة من اتساع المجال بدأ مع مطالع السبعينيات، وفي الثمانينيات مع شيوع تأثير أمثال ستانلي فيش كتابه «هل هناك نص في هذا الفصل؟ سلطة المجموعات التفسيرية» سنة 1980 وإيزر الذي بدأ كتابه تأثيره في الجامعات الأمريكية منذ عام 1978 وأسهمت كتبه وكتب زميله ياوس في جذب المزيد من الانتباه الذي كان قد بدأ في ترجمة أعمال مدرسة كونستانس إلى الإنجليزية، فأصدرت جامعة جونز هوبكنز ثلاثة من كتبه، أولها «أنماط القراءة» (1974) و«فعل القراءة» (1978) و«القصصي والخيالي» (1993). والأمر نفسه بالنسبة لياوس الذي تأخرت ترجمته، فلم تصدر الترجمة الإنجليزية بكتابه «التجربة الجمالية والهرمنيوطيقا الأدبية» إلا سنة 1982 من جامعة مينسوتا في موازاة ترجمة كتابه الثاني «نحو جماليات التلقي» في إنجلترا في العام نفسه. ولاتزال نظرية الاستقبال (المرتبطة بأعمال مدرسة كونستانس) تواصل تأثيرها، في موازاة الأثر غير المنقطع إلى اليوم لنظرية التفكيك التي مرّت بمتغيرات دالة.

استجابة القارئ

          ومما يحتاج إلى التدقيق الكلام عن الناقد الإنجليزي آي. إيه. ريتشاردز «الذي تأثر بالدراسات النفسية المتطورة لفرويد» (ص 138)، فالأدق أن نتحدث عنه بوصفه ممثلا للنزعة التجريبية التي حرصت على وضع أساس علمي للنقد الأدبي، ومن ثم إقامة هذا النقد على قاعدة صلبة من المبادئ الخاصة بسيكولوجيا علمية، هي أقرب إلى اتباع المدرسة السلوكية والأخذ بالنتائج التي أسفر عنها علم الأعصاب في مطلع العشرينيات. أما القول في الصفحة نفسها بأنه «تحول منذ نشر كتابه حول فلسفة البلاغة عام 1936من لغة علم النفس إلى لغة البلاغة» فكلام يحتاج إلى التدقيق. وحتى لو استبدلنا علم اللغة بلغة البلاغة فإن الاهتمام اللغوي القديم لريتشاردز ظل مستمرا منذ أن نشر مع زميله أوجدن «معنى المعنى» سنة 1923.

          ويتصل بذلك ما يأتي في (ص143) في تأكيد «إننا في الواقع لا نفصل بين التلقي Reception theory وأحد تفريعاته، وهي (كذا!) النقد القائم على استجابة القارئ Reader - response criticism من ناحية، والتفكيك من ناحية أخرى». فهذا كلام مطلق على عواهنه. والصلة بين نظرية التلقي والنقد القائم على استجابة القارئ صلة وثيقة ما في ذلك شك، تؤكدها الصلة بين علم نفس القراءة مثلا وجهود مدرسة كونستانس. ولكن أن يغدو التفكيك فرعا (أو تفريعا بلغة الكتاب) من نظرية الاستقبال فهذا ما لم أسمع أحدا قاله من قبل، فالمنظومة الفكرية التي يقوم عليها التفكيك شيء والمنظومة التي تقوم عليها نظرية الاستقبال شيء بعيد لا يسمح بأن يكون نظرية الاستقبال فرعا من فروع التفكيك. ويمكن للقارئ الاطلاع على تفاصيل أكثر فائدة تعينه على تجنب الخلط الذي يمكن أن يقع فيه بسبب قراءة «المرايا المحدبة» بالعودة إلى المدخل العام الذي وضعه روبرت هولب Robert Holub أستاذ الألمانية بجامعة كاليفورنيا - بركلي - بعنوان «نظرية الاستقبال»، وصدر ضمن سلسلة «نبرات جديدة» سنة 1984 وترجمه ترجمة ناصعة عز الدين إسماعيل سنة 1994، بعنوان «نظرية التلقي».

          والواقع أن أي استيعاب لنظرية الاستقبال على نحو ما يعرضها هولب في كتابات مدرسة كونستانس في ألمانيا الغربية، سواء من حيث المصادر التي تأثرت بها والمناقشات التي دخلت طرفا فيها، ومنها الخلاف بين ياوس وديريدا، فضلا عن الإسهام النظري والعملي الذي قدمته، كل ذلك لا يمكن أن يؤدي إلى قبول ما نقرأه (ص143) في «المرايا المحدبة» من «أن كلا من التلقي والتفكيك يلتقيان في أهم مبادئهما، وهو إلغاء النص وقصدية المؤلف».

          ومن الخطأ الواضح ما يرد (ص126) من «أن» هايديجر «نقل إلى الإنجليزية متأخرا في السبعينيات على وجه التحديد». ولا وجه للتحديد ولا الصحة في هذا الكلام، فقد صدرت الطبعة الأولى من الترجمة الإنجليزية لكتاب هيدجر «الوجود والزمان» سنة 1962 عن دار نشر «بلا كويل» على وجه التحديد.

خصام سارتر - شتراوس

          ومثل ذلك ما يرد في الصفحة نفسها من القول بظهور «تأثير وجودية سارتر في البنيوية والتمهيد لها» فالأقرب إلى الدقة القول بأن البنيوية الفرنسية جاءت لتحل محل الوجودية وتنقضها في الوقت نفسه. وذلك هو سر الجدال - أو الخصام - الشهير بين جان بول سارتر وكلود ليفي شتراوس. أما القول بعد ذلك بسطرين من أنه «من الثابت أن جان بول سارتر بدأ وانتهي ماركسي الاتجاه» فيحتاج إلى التدقيق نفسه وإلا ضاع الفارق بين الوجودية والماركسية بالرغم من تضاربهما في بعض المناطق في فكر سارتر. وقل الأمر نفسه في الزعم بأن وجودية سارتر تبقى علامة فارقة «في قوة تأثيرها في الدراسات اللغوية» على جانبي الأطلسي، فلم يكن لوجودية سارتر هذا التأثير القوي المزعوم في الدراسات اللغوية.

          ويتصل بذلك ما يرد في (ص 142) من الجزم بتأخر وصول البنيوية إلى الولايات المتحدة «بسبب استمرار شعبية أفكار سارتر عن حرية الفرد وتأكيد الذات». وهو كلام يستحق المراجعة لسببين على الأقل. أولهما أن البنيوية انطلقت في واقع الأمر من الولايات المتحدة بواسطة حلقة نيويورك اللغوية التي أنشأها رومان ياكوبسون (1896-1982) بعد هجرته إليها من تشيكوسلوفاكيا - التي كان قد هاجر إليها من الاتحاد السوفييتي، وذلك أثناء الحرب العالمية. وبعد الهجرة، عمل ياكوبسون بالتدريس في المدرسة الحرة للدراسات العالية التي أسسها العلماء اللاجئون من الفرنسيين والبلجيك. وحضر دروسه عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي شتراوس. وبفضل التأثر بياكوبسون، حمل كلود ليفي شتراوس راية البنيوية من الولايات المتحدة إلى فرنسا، عندما عاد إليها بعد الحرب، ونشر فيها كتابه «المدارات الشاجية» سنة 1955. وكان ذلك قبل ثلاث سنوات فحسب من الإعلان الرسمي للبنيوية في الولايات المتحدة في المؤتمر الذي انعقد في جامعة إنديانا عن «الأسلوب في اللغة» الذي ألقى فيه ياكوبسون بحثه الشهير: «بيان ختامي: اللغويات والشعرية». أما السبب الثاني فهو أن القبس البنيوي الذي حمله كلود ليفي شتراوس إلى فرنسا سرعان ما توهج مع كتابات رولان بارت وجاك لاكان، وعاد إلى الولايات المتحدة بسرعة لافتة ما كان يمكن لأفكار سارتر أن تعيقها مهما كانت شعبية هذه الأفكار التي لم تفارق دوائر بعينها في النهاية.

فجيعة سارتر

          ولا يختلف عن عدم دقة القول السابق ما يرد في الصفحة الثانية مباشرة من أن فجيعة سارتر في التاريخ «أي التجربة المتمثلة في محاولة تطبيق اليوتوبيا الماركسية النظرية - وهي التجربة التي يمثلها الاتحاد السوفييتي - هي مصدر اختلافه مع الماركسية حول نظرية اللغة ووظيفة الأدب، وخاصة مع جوهر فلسفة ليفي شتراوس اللغوية التي لقيت قبولا من المعسكر الماركسي» (128-129). والعوار في النص لا يحتاج إلى تعليق طويل، فاختزال اختلاف سارتر مع التجربة السوفييتية في «نظرية اللغة ووظيفة الأدب» ينحدر بفهم الموضوع إلى درجة التعكير على آراء سارتر في وظيفة الأدب على نحو ما بسطها في كتابه الشهير «ما الأدب»؟ أما أن فلسفة ليفي شتراوس اللغوية لقيت قبولا من المعسكر الماركسي، فأولا لم يكن لليفي شتراوس فلسفة لغوية. لأنه عالم أنثروبولوجيا جعل من النموذج المنهجي لعلم اللغة عند دي سوسير أساسا له في بناء منهجه البنيوي. هذه واحدة. أما الثانية فهي أن نظريته البنيوية بوجه عام ومفهومه عن التاريخ في علاقته بمفهومه عن الإنسان بوجه عام وضعه موضع عداء المعسكر الماركسي الذي ظل يهاجمه إلى النهاية. وقد حاول لوسيان سيباج تلميذ ليفي شتراوس أن يتوسط بين بنيوية ليفي شتراوس والماركسية فلم يفلح في إيقاع المصالحة التي كان يحلم بها، وإن كان ذلك لم يمنع غيره من اللاحقين في مواصلة المحاولة.

          ورد في ( ص 141) ما يلي: «ظلت أفكار ليفي شتراوس وفرديناند دي سوسير، وهي أفكار فرنسية النشأة، لا تجذب انتباه المفكر أو المثقف الفرنسي لبضعة عقود تعتبر طويلة في تاريخ الحركة النقدية المتسارعة الخطى من القرن العشرين». والربط بين دي سوسير (1857 - 1913) وكلود ليفي شتراوس (المولود سنة 1908) ربط غير دقيق لا من حيث الكلام عن تأخر تأثير أفكارهما كلام غير دقيق، ولا من حيث نشأة أفكار كل منهما، فالأول (دي سوسير) تلقى تعليمه الأكاديمي ما بين جنيف وليبزج وبرلين إلى أن حصل على الدكتوراه من جامعة ليبزج سنة 1880، وتولى تدريس اللغويات التاريخية في المدرسة التطبيقية للدراسات العالية في باريس من سنة 1881 إلى سنة 1891، يعني قبل ولادة كلود ليفي شتراوس بسنوات عدة. وإذا صح أن أفكار دي سوسير لم تجذب انتباه المفكر أو المثقف الفرنسي لبضعة عقود تعتبر طويلة، في تاريخ الحركة النقدية متسارعة الخطى في القرن العشرين، فإن هذا لا يصح على كلود ليفي شتراوس الذي تحوّل إلى البنيوية في الولايات المتحدة تحت تأثير تعرفه على رومان ياكوبسون واستماعه إلى دروسه في علم الأصوات، الأمر الذي انتهى به إلى الكتابة عن «التحليل البنيوي في علمي اللغة والأنثروبولوجيا» سنة 1945 وهو البحث الذي نشره في المجلة التي كانت تصدرها حلقة نيويورك اللغوية التي أنشأها رومان ياكوبسون، وأتبع هذا البحث بمجموعة بحوث ودراسات أشهرها - إلى ذلك الوقت - كتابه «الأبنية الأولية للقراية» سنة 1949، واستمر في النشر إلى أن أصدر سنة 1955 كتابه «المدارات الشاجية» الذي أثار الانتباه الباريسي، وكان قوة الدفع الأولى للبنيوية في مجال الأنثروبولوجيا. ومعرفة تتابع التاريخ العلمي لكلود ليفي شتراوس على هذا النحو لايمكن أن تؤدي إلى وصفه بأن أفكاره لم تجذب انتباه المفكر أو المثقف الفرنسي لبضعة عقود، فالمسافة الزمنية بين دراسة «التحليل البنيوي في علمي اللغة والأنثروبولوجيا» و«المدارات الشاجية» التي أوصلت الرجل للشهرة هي عشر سنوات، أي عقد واحد من الزمن لا أكثر.

          ومن الأحكام المتسرعة ما نجده في (ص145) من موازنة بين النقاد البنيويين والتفكيكيين، حيث نطالع هذه الجملة: «من الواضح أن الحداثة الغربية لم تفرز نقادا بنيويين بنفس حجم من أفرزتهم من النقاد التفكيكيين». والعبارة ينقضها الواقع التاريخي لكتابات ياكوبسون ورولان بارت وتودوروف وجيرار جينيت وغيرهم من أصحاب الجهود التي دفعت ميشيل فوكو إلى القول بأن البنيوية ليست منهجًا جديدًا وإنما الوعي اليقظ القلق للفكر الحديث.

 

جابر عصفور