الهامشيون على شاشة السينما العربية

الهامشيون على شاشة السينما العربية

«الهامشيون»، ذلك هو أحد المصطلحات التي سادت في الثقافة الغربية خلال الربع الأخير من القرن العشرين، ثم انتقل إلى لسان مثقفينا العرب فتلقفوه واستسلموا لسحره، فأنت حين تتحدث عن «الهامشيين» يبدو لك أنك تدخل عالما يحتشد بكل ماهو غريب وعجيب، فالكلمة توحي أن لهؤلاء عاداتهم وطقوسهم الخاصة في حياتهم اليومية، وهم عالم مغلق على ذاته لا يريد أو لا يراد له الذوبان في المجتمع. ومما زاد من سحر هذا المصطلح بعض التجسيدات الأدبية والفنية له، وفي السينما على نحو خاص، مثل الفيلمين اليوغوسلافيين «قابلت غجرا سعداء» و«حياة غجري»، والفيلم الأمريكي «الشاهد» الذي يدور عن طائفة «الأميش» الذين لا يزالون يعيشون في أمريكا حتى اليوم حياة أسلافهم القادمين من أوربا منذ قرنين من الزمان، فضلا عن العديد من الأفلام التي تتناول الأقليات العرقية أو الدينية أو حتى ذات الميول الجنسية غير الطبيعية.

الغريب أن السينما المصرية قررت أن تستورد مصطلح «الهامشيين» لتطلقه على الفقراء أو «العاطلين» أو «ساكني الأحياء العشوائية»، وشاع في الكتابات الصحفية والنقدية استخدام هذا المصطلح دون تأمل معناه الحقيقي، فإذا كان هؤلاء الفقراء يشكلون نسبة كبيرة من المجتمع، في سياق اقتصادي واجتماعي متداعٍ، فالأدق أن نقول إنهم يمثلون «المركز» وليس «الهامش»، لذلك فإن أزمتهم تعبر بشكل قوي عن أزمة المجتمع ككل، وتناول حياتهم على الشاشة يمكن أن يكون تجسيدا للتناقضات الصارخة التي تبحث عن حل. هناك إذاً طريقتان لتناول حياة الفقراء: الأولى أن تراهم كائنات غريبة لها عالمها الضيق شديد الخصوصية، والثانية هي أن تنظر إليهم باعتبارهم شريحة من الواقع الأكبر ولا تنفصل عنه، وهاتان الرؤيتان وجدتا التجسيد السينمائي في فيلمين سوف نتوقف عندهما بالتأمل، الأول هو فيلم «حين ميسرة» (2007)، والثاني هو «سارق الفرح» (1995).

إنهم «بشر» وإن كانوا غير سعداء

يدور الفيلمان عن «البشر» الذين يقيمون في أحياء عشوائية على أطراف القاهرة، لم يجدوا مكانا في المدينة فصنعوا لأنفسهم مدنهم الخاصة بإمكانات محدودة: عشش من الخشب والصفيح والحجارة، تتجاور وتتلاصق ولا تترك مكانا إلا لدروب ضيقة ملتوية، وهذا التلاصق قد يخلق حالة من الحميمية في العلاقات، لكنه قد يثير أيضا حالة من العدوانية، وبين هذه المشاعر المتناقضة تمضي أحداث الفيلمين وتعيش شخصياتهما، وإن كان كل فيلم يميل إلى جانب دون الآخر، بما يعكس رؤية صانعه لهذا العالم الذي يتحدث عنه.

سوف نبدأ بفيلم المخرج داود عبدالسيد «سارق الفرح»، وهو أيضا كاتب السيناريو عن قصة قصيرة لخيري شلبي، وعلى عادته فإن داود عبد السيد يعتبر الأصل الأدبي مجرد مادة خام كأنها واقع ثانٍ يقوم بإعادة تشكيلها، يضيف إليها شخصيات وأحداثا ويحذف أخرى، والأهم هو أنها تدخل عالمه السينمائي لتعكس رؤيته الخاصة للفن والحياة. ليست هناك في قصة خيري شلبي إلا خط درامي رفيع: الشاب الفقير والبائع الجوال عوض يريد أن يستكمل «شبكة» محبوبته، بأن يسرق الحذاء الثمين الذي يقتنيه شقيقه مطر طبَّال الراقصات في الأفراح الشعبية، ويبيع عوض الحذاء ببعض المال فتأتي الشرطة في ليلة الزفاف لتقبض على العريس «سارق الفرح» الذي لم تكتمل فرحته أبدا.

من هذا الخط الدرامي بنى داود عبد السيد عالما كاملا، تتداخل فيه دوافع الشخصيات وتتشابك الأحداث التي تدور في ثمانية أيام فقط، تمثل رحلة الفتى عوض «ماجد المصري» لكي ينجح في تدبير زواجه من حبيبة القلب أحلام «لوسي»، وسوف نظل طوال الفيلم في حالة توحد معه لنتساءل إذا ماكان سوف يستطيع حقا الحصول على «أحلامه». لكن بالرغم من أن قصة الحب تلك تدور في «مقدمة» الدراما، فإن «خلفية» الدراما تشكّل وبالقدر نفسه من الأهمية الجو الوجداني العام لتلك الحالة من العطش العاطفي والرغبة في الارتواء، بل إن بعض الشخصيات الثانية ولا نقول الثانوية تلعب أدوارا تؤكد الخط الرئيسي، وتعمق معناه، فالفيلم يبدأ بشخصية العجوز ركبة «حسن حسني» الذي يعمل «قرداتيا» ينقر بالدف، والذي يشعر أن الزمن قد سرق منه شبابه، وهاهو في رغبة وجودية جارفة حارقة يريد أن يستعيد الشباب من خلال مشاعر حبه المكنون للفتاة رمانة «حنان ترك» شقيقة أحلام، إذ يرى فيها رحيق الحياة وهو يتجدد من جديد. إنها علاقة مبتورة قاصرة، يكتفي فيها باختلاس النظرات من بعيد بنظارة مكبرة قديمة، وفي اللحظة التي يمتد فيها خيط غير مرئي بين نقرات دفه واهتزازات جسد رمانة بالرقص، يشعر أن تجربته قد وصلت إلى الذروة، أو كأن جسده قد أصبح قادرا على الطيران والتحليق نحو الشمس، فإذا به يرمي بنفسه من أعلى الهضبة ليسقط في لحظة النشوة إلى الموت!

يشكل هذا البعد «الوجودي» في فيلم «سارق الفرح» تأكيدا على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لساكني هذا الحي العشوائي، فهم «بشر» لهم أشواقهم وأفراحهم وآلامهم، وليسوا مجرد «كائنات» تحركها غرائزها، لذلك سوف تصدق أن مايربط بين البطل عوض والبطلة أحلام ليس مجرد إشباع الرغبات الشهوانية، وإنما الحلم ببيت، سكن، وطن، وحياة تليق بالبشر، لكن ما أصعبه من حلم في ظروف شديدة القسوة، لا يجد فيها الناس مفرا إلا أن «يسرقوا فرحهم» خلسة، وينتزعوه انتزاعا. وعبر الأيام الثمانية التي يدور فيها «سارق الفرح» نعيش رحلة عوض لسرقة هذا الفرح، ونرى يديه وهما تتسلقان الصخور إلى أعلى الهضبة، فنتذكر على الفور رحلة سيزيف الأبدية العبثية، لكن عوض لن ينتهي مثل البطل التراجيدي الإغريقي، فهو بطل مأساوي مصري خالص، يعرف أن الأيام لن تمضي متتابعة متماثلة، فكل يوم من خلال محاولته الدائبة سوف يأتي بجديد. فهو يفاجأ ذات صباح أن الفتى شطة «محمد شرف» ينافسه على خطبة أحلام، يساعده في ذلك امتلاكه لبضعة آلاف قليلة من الجنيهات تجعله ثريا بين أهل الحي الفقراء، بينما لا يملك عوض في هذه الدنيا شروى نقير.

يغزل «سارق الفرح» خيوط الشخصيتين الرئيسيتين داخل شبكة من العلاقات التي تعوق اكتمال زواجهما أحيانا، وتساعده أحيانا أخرى. إن عوض الذي يبيع المناديل الورقية عند إشارات المرور يلتقي بفتاة الليل الفقيرة نوال «عبلة كامل»، التي تعود من جولاتها الليلية مستذلة مهانة وقد سرق منها «الزبائن» مالها، وإذ تدفع النخوة بطلنا عوض إلى الدفاع عنها فإن مشاعر الود تمتد بينهما، لأنهما ضحيتان للظروف القاسية وإن تغير موقع كل منهما، وهذا الود سوف يثير مشاعر الغيرة في قلب أحلام فتصمم بدورها على التعجيل بزواجها من عوض. وهكذا يندفع عوض إلى سرقة أخيه لتدبير بعض المال، بينما تكمل له أحلام ماتبقى، وفي ليلة الزفاف تصارحه بالحقيقة المريرة: لقد استجابت لإغراء «الكوافير» زينهم «محمد متولي» بالذهاب إلى حفلة في قصر أحد الأثرياء لترقص مقابل المال الذي أكملت به مصروفات «فرحها»، إن عوض يضربها بعنف محطما كل الأشياء، وتنزف أحلام الدماء، بينما تبكي لتؤكد له أنها لم تفرط في شرفها أبدا، وتعاتبه: «بتضربني عشان ماقدرتش أعيش من غيرك؟.. لازم نسامح عشان نقدر نعيش».

متحف الكائنات البشرية

إن كانت إذاً الظروف الخانقة تحيط بنا لتقتل أحلامنا، وتضطرنا للتنازل عن جزء من كرامتنا، فلماذا نفرغ إحباطاتنا في العدوانية المتبادلة؟ هل يجب أن ننتقم من بعضنا البعض بدلا من أن نوجه انتقامنا لمن صنعوا هذه الظروف القاسية؟ هذا هو السؤال الذي ينتهي به «سارق الفرح»، وكان من المنتظر أن يعيد فيلم «حين ميسرة» طرح هذا السؤال بعد مايزيد على عقد كامل ولاتزال الظروف على حالها وربما أسوأ، خاصة وأن الفيلم يبدأ بعناوين كبيرة من الصحف تتحدث عن «خمسة عشر مليونا يسكنون العشوائيات» و«ثلاثين مليون مصري تحت خط الفقر»، وهو مايبشر للوهلة الأولى أن خالد يوسف مخرج الفيلم والتلميذ السابق ليوسف شاهين سوف يتحدث عن «الكتلة» المركزية من المجتمع المصري، فإذا كانت الطبقة الوسطى تشكل هذه الكتلة حتى سبعينيات القرن العشرين فإن العديد من أبناء هذه الطبقة سقطوا إلى القاع، ومع ذلك فإنهم لا يزالون يصارعون الحياة بحثا عن مكان تحت الشمس، وعلى الرغم من سكناهم الأحياء العشوائية فإنهم يعملون في مهن مختلفة، ويذهب أبناؤهم إلى المدارس الفقيرة المتهالكة، ويحدوهم الأمل يوما في أن يخرجوا من هذه «العشش» ليعيشوا حياة تحقق الحد الأدنى من حياة آدمية لا يحصلون عليها.

يأتي فيلم «حين ميسرة» على العكس تماماً من حقيقة هذه الكتلة الغارقة، فأنت في الفيلم أمام عالم مغلق تماما يكاد أن يكون صورة ذهنية وليست واقعية بحال عن هؤلاء «البشر»، أو فلتقل أن الفيلم اختار من هؤلاء البشر أدنى غرائزهم الحيوانية لكي يتحدث عنها. وإذا كان «سارق الفرح» يدور في ثمانية أيام فقط ليجسد رحلة شاقة للبطل والبطلة نحو تحقيق حلمهما المتواضع، فإن «حين ميسرة» يقرر أن يبدأ في عام 1990 وينتهي في لحظة أقرب إلى الحاضر، لأن الفيلم سيحدوه الطموح إلى أن يصبح «بانوراما» تاريخية لفترة يراها مرحلة محورية شهدت العديد من التناقضات والتغيرات الجذرية، لكن «البانوراما» التاريخية تناقضت مع انغلاق العالم الدرامي على مجموعة من الشخصيات، التي لم نر علامات الزمن على ملامحها الجسمانية أو النفسية، مما قلل كثيرا من مصداقية الشخصيات والأحداث.

يكاد الفيلم «حين ميسرة» أن يدور مثل «سارق الفرح» حول قصة «حب» بين الفتى عادل «عمرو سعد» والفتاة ناهد «سمية الخشاب»، وقد وضعنا كلمة «حب» بين قوسين لأن العاطفة الحقيقية لم تتجسد في لحظة واحدة على الشاشة، فاتساقا مع رؤية هذه «الكائنات» على أن الغرائز وحدها هي التي تقودها، فإن العلاقة بين عادل وناهد بدت غرائزية تماما، وأسفرت عن طفل أنكره عادل ليؤكد لناهد أنه لن يتزوج منها أو يعترف بطفله إلا «حين ميسرة»، ولأن هذه «الميسرة» لا تأتي ولا تصنع الشخصيات أي جهد لتحقيقها (!!) فإن الفيلم يصبح رحلتين منفصلتين للبطل والبطلة في الحياة، وعلى طريقة الأفلام الهندية الشعبية فإنه كلما حاول أحدهما البحث عن الآخر يكون هذا الآخر قد اختفى «بالمصادفة»، وهذه المصادفة المغرقة في ميلودراميتها هي التي سوف تؤدي في المشهد الأخير إلى أن يكون هناك قطار، يقل عادل وناهد دون أن يعرف أحدهما بوجود الآخر، وعلى سطحه يرقد ابنهما الذي أصبح من أبناء الشوارع المشردين، ليقول لك الفيلم إن هذا هو المجتمع المصري الذي يمضي نحو نهاية مجهولة.

وبين البداية والنهاية هناك عشرات التفاصيل، المكررة في أغلبها، عن رحلة كل من عادل وناهد في الحياة. عادل يسكن مع أمه «هالة فاخر» في أحد البيوت المتهالكة في هذا الحي العشوائي، وهي تعول أحفادها من ابنتها التي قتلها زوجها «لن نعرف لماذا»، ومن ابنها الأكبر رضا «خالد صالح» الغائب لنعرف لاحقا أنه أحد زعماء تنظيم القاعدة! وهناك الجار العاطل فتحي «عمرو عبد الجليل» الغارق دائما في غيبوبة المخدرات، والباحث عن إشباع غرائزه بالزواج من امرأة بعد أخرى، ولتقارن هنا السهولة التي تتم بها طقوس الزواج الغرائزي، وصعوبة الزواح عن قصة حب حقيقية في «سارق الفرح»، لأنك سوف تسأل نفسك في «حين ميسرة» لماذا إذاً لم يتزوج عادل من ناهد بالقدر نفسه من السهولة؟!

الإجابة تأتي من رغبة الفيلم في الحديث عن كل ماهو غريب وعجيب في رحلة حياة البطلين. تأمل كيف أن عادل سوف يهجر عمله في تصليح السيارات ولن ندري سببا حقيقيا لذلك، ليعمل صبيا في تجارة المخدرات، لكنه يتعاطاها مع جاره فتحي بدلا من أن يبيعها «!!»، فينال علقة قاسية على أيدي صبيان المعلم تاجر المخدرات «هل يدفعك ذلك للتعاطف معه؟!». من جانب آخر فإن ضابط الشرطة «أحمد سعيد عبد الغني» سوف يحاول أن يجند عادل ليعمل لديه مرشدا، وحين يرفض الفتى «مرة أخرى لن تعرف لماذا» فإنه يتلقى الإهانة على يد «الحكومة»، وإخيرا فإنه يجد نفسه محاصرا بين جماعة إرهابية «تظهر على نحو نمطي في ملابسها السينمائية البيضاء» ورجال الشرطة، وفي مشهد بالقرب من النهاية تدور «الحرب» بين الجانبين، مما يعرض الحي العشوائي للتدمير، وإن كانت أم عادل تتشبث بمنزلها الذي تأكله النيران، وهي كما ترى خطوط درامية تبدو محاولة مصطنعة لإسقاطات رمزية، لعل المخرج خالد يوسف ورثها عن أفلام يوسف شاهين الأخيرة: «الآخر» و«هي فوضى».

أما رحلة ناهد فهي تتجاوز حدود الميلودراما الهندية، لقد هربت من تحرش زوج أمها بها «الغرائز مرة ثالثة»، وحين يتخلى عنها عادل فإنها تترك ابنها في حافلة لتلتقطها في الإسكندرية امرأة ذات ميول غير سوية «الغرائز مرة رابعة»، وتمضي بها القصص التي تشبه المسلسلات الإذاعية القديمة حتى تنتهي راقصة في ملهى ليلي، حيث يلتقطها رجل ثري لتكون وسيلته في إبرام صفقاته المشبوهة، وحين تطبق الشرطة على مكان هذه الصفقات تهرب مرة أخرى وأخيرة لتركب ذلك القطار المتجه إلى المجهول.

الفرجة بدلا من التوحد والتعاطف

هناك «موتيفة» تكررت في الفيلمين، ومن خلال المقارنة بين المعالجتين سوف تضع يدك على مايطلق عليه في النقد «سياسات السينما»، والتي يقصد بها علاقة صانع الفيلم بمادة موضوعه من جانب، وبالمتفرج من جانب آخر، أو بكلمات أخرى ماذا يريد الفنان أن يوصله إلى المتلقي من خلال اختياره لتفاصيل العالم الذي يصوره. في الفيلمين اضطرت البطلة إلى أن تعمل راقصة، لكن «سارق الفرح» لم يعرض لنا أية رقصة لها، إنه يتحدث فقط عن الحدث في لحظة يمتزج فيها الاعتراف والأسى والشجن، إنها لحظة يضطر فيها الفقراء للتخلي عن جزء من كرامتهم الإنسانية ليرتكبوا نوعا من «سرقة الفرح»، لكن فيلم «حين ميسرة» يستغرق في عرض «بالفوتومونتاج» لرقصات الممثلة سمية الخشاب، تتوقف فيه الكاميرا على طريقة حسن الإمام عند هذا الجزء أو ذاك من جسدها.

وبعيدا عن الأحكام الأخلاقية، فإن فيلم «حين ميسرة» يجعل من البطلة «وكل الشخصيات» نوعا من «الفرجة» بالنسبة للمتفرج الذي أصبح في موضع المتلصص بدلا من التوحد أوالتعاطف، وهو الأمر الذي يمتد إلى كل العالم الدرامي للفيلم، فنحن أمام «متحف» مؤلف من «عاهات» بشرية، فالجميع غارقون في مستنقع الغريزة والعنف، والجميع راضون بهذه الحالة ومتكيفون معها، وهم لا «يتحدثون» بل يصرخون طوال الفيلم في كل لحظات حياتهم. وإذا ظهرت لمحة «إنسانية» واحدة داخل هذا السياق فإنها تبدو غريبة ومصطنعة تماما، مثل تلك اللحظة التي عرف فيها فتحي أنه عقيم، ويسأل زوجتيه إن كانتا ترغبان في الطلاق، فإذا بالدموع تنفجر من عيني زوجته الأولى «وفاء عامر» مؤكدة أنها سوف تبقى معه حتى تموت، وهو الذي لم يجعلها تشعر بالحنان أبداً، فكأن الغريزة «مرة خامسة» هي التي تجمعها به.

إن هذا الأسلوب من التناول سوف ينتهي إلى رغبة المتفرج «المرفه القادر على دخول السينما» في أن «يحترق» أشباه البشر هؤلاء لأنهم مجرد كائنات لا تستحق الحياة، كائنات غريزية بلامشاعر وبلا سياق اجتماعي هو السبب الحقيقي في صنع ظروفهم. على العكس تماما يرى «سارق الفرح» شخصياته بشرا حقيقيين من لحم ودم، غرائز وعواطف، واقع قاس وأحلام مستحيلة، لكنهم لا يتوقفون أبداً عن محاولة تحقيق هذه الأحلام. والأهم هو أنهم برغم كل الظروف الصعبة حافظوا «أو حافظ الفيلم لهم» على إنسانيتهم، عندئذ لن تملك إلا أن تسال نفسك: أي حياة جميلة رائعة يستطيع هؤلاء صنعها لو أتيحت لهم الشروط الإنسانية لتحقيق الذات؟ إنهم ليسوا هامشيين أبدا، إنهم في مكان القلب من المجتمع والوطن، ومنهم يمكن أن نتعلم كيف نصنع الحياة، حتى لو اضطررنا لسرقة الفرح.

 

 

أحمد يوسف

 




الهامشيون.. بشر لكنهم غير سعداء





أبطال «حين ميسرة» غارقون في مستنقع الغريزة والعنف





عمرو سعد ووفاء عامر في لقطة من «حين ميسرة»





الفقر إلى حد الغرابة كما رآه خالد يوسف





حين يتحول الفيلم إلى فرجة تدعو المشاهد للتلصص لا التعاطف