وجهاً لوجه.. «محمد برَّادة»: الكتابة حبلُ سُري يمدّني بالحياة

وجهاً لوجه.. «محمد برَّادة»: الكتابة حبلُ سُري يمدّني بالحياة

د. محمد برَّادة، مثل «مبدع» لن يتكرر، هكذا يمكن أن تصنفه، فهو مبدع في كتاباته الروائية والنقدية، وحتى في ترجماته. أحد الأسماء البارزة في المشهد الثقافي والأدبي العربي، شارك في تأسيس اتحاد كتاب المغرب، وانتخب رئيسا له، في ثلاث دورات على التوالي، وقد كان من السبّاقين إلى مد جسور التواصل الثقافي بين جناحي العالم العربي.. مغربه ومشرقه، إضافة إلى كونه من بين أهم المترجمين العرب، الذين أثروا المكتبة العربية بمجموعة من الترجمات المهمة، في مجال الإبداع والتنظير والنقد، لكل من رولان بارت وميخائيل باختين وجان جنيه ولوكليزيو. كما ترجم لغيرهم العديد من النصوص الأساسية في مجالات مختلفة، وقد ترجمت بعض نصوصه الأدبية إلى بعض اللغات الأجنبية.

حصل على جائزة المغرب للكتاب، في صنف الدراسات الأدبية، عن كتابه النقدي «فضاءات روائية»، ولعل هذا ما جعل شهرته كناقد تطغى على شهرته الأدبية. له خمس روايات هي: «لعبة النسيان»، «الضوء الهارب»، «امرأة النسيان»، «مثل صيف لن يتكرر»، و«حيوات متجاورة»، ومجموعتان قصصيتان: «سلخ الجلد» و«ودادية الهمس واللمس». للحديث عن روايته الأخيرة «حيوات متجاورة»، ولدخول ورشته الكتابية كان لنا مع الأستاذ محمد برَّادة هذا الحوار.

  • لنبدأ من آخر محطة إبداعية، وهي صدور روايتك «حيوات متجاورة». يلاحظ أنها حظيت بحفاوة -ربما- تفوق روايتيك السابقتين «امرأة النسيان» و«مثل صيف لن يتكرر».. وماذا عن ولعك بالشكل ودفعك القارئ إلى المشاركة في النص، بدل الاكتفاء بالتلقي السلبي، إضافة إلى تعدد الأصوات ولايقينية السرد، كما في «حيوات متجاورة»؟ ولماذا لجأت -فنيّا- إلى تلخيصها على شكل سيناريو؟

ألا تبدو تقنية السارد- المسرود له مستوحاة من «ألف ليلة وليلة» واستعارة لآليات الحكي الشفاهي، وبالتالي مخاطرة جمالية، وأنت الكاتب المجدّد أم هي - ببساطة - محاولة لكسر هيمنة السارد العليم والتمرد على الجماليات المتجاوزة؟

- أنا أكتب منذ 1960، ومن الطبيعي أن يكون لدي جمهور معين يقرأ كتبي ويتابع تحولاتي عبر إبداعاتي وتحليلاتي النقدية. وهي علاقة أعتـز بها وأرعاها، لأنها تـُـشكّـل صلة وصل مع جمهوري المفترض، المهموم بتجربتي وأسئلتي الحياتية. والاهتمام النسبي الذي تلقاه كتاباتي يعود قبل كل شيء، إلى صداقة الحوار التي نسجتها مع هذا الجمهور على امتداد خمسين سنة كنتُ خلالها حريصا على ألا أكتب إلا انطلاقا من القناعة والحرية واحترام ذكاء المتلقي... كانت الكتابة عندي ولا تزال، وسيلة للمعرفة والمتعة والاستكشاف وارتياد الفضاءات المتحولة داخل النفس والمجتمع والعالم؛ إذ ليس هناك حدود سوى احترام القيم الإنسانية الرافضة للاحتقار والعنصرية والاستبداد. ما عدا ذلك يظل مجالا للمساءلة وإعادة النظر. وحتى في فترات النضال السياسي والاجتماعي، كنت أميز بين الفعل المباشر وخطاب التعبئة، وبين الإبداع الذي يقتضي مراعاة المسافة الجمالية، وخصوصية الأدب وجرأته المقتحمة للأســيـجـة المحرّمـة. بطبيعة الحال، هذه العلاقة المستمرة مع قرائي والتي أعتز بها، لا توفر لي دخلا ماديا يغنيني عن التدريس ويجعلني كاتبا محترفا كما هو الشأن في أوربا، ولكنه وضع اعتباري رهين بشروط تاريخية عليّ أن أستوعبها لأدرك إمكاناتي وحدود فعاليتي في مجتمع لم يوفر بعد استقلالية الحقل الأدبي والثقافي.

مع ذلك، أعتبر نفسي محظوظا، لأن ما يطبع ويباع من كتبي يصل إلى أرقام لا بأس بها، وخاصة روايتي «لعبة النسيان» التي طبعت منها 8000 نسخة نفدت بعد سنتيْن، ثم قـُـرّرتْ ضمن نصوص برنامج نهاية التعليم الثانوي، فأصدرت طبعة للتلاميذ بيع منها مائتا ألف نسخة(200.000) خلال 5 سنوات؛ وهي تجربة عززتْ علاقتي بجمهور شاب، لأنني كنت أزور المدارس وأحاور الطلبة وأستمع إلى ردود أفعالهم. وأود هنا، أن أُشيد بهذه التجربة الرائدة في المغرب، وأدعو إلى تعميمها في بقية الأقطار العربية، حتى يتمكن المبدعون الأحياء من محاورة التلاميذ والطلاب، ونسج علاقة مباشرة مع قراء مُحتـَـمَلين.

بالنسبة لـ «حيوات متجاورة»، حرصتُ - كما في روايات سابقة - على الاهتمام ببلورة شكل يُـشعر القارئ بأنني لا أتوخى أن أكتب من منطلق الإيــهام بالواقع وإعادة إنتاج ما نصادفه في الحياة؛ بل جعلتُ شكل السرد والكتابة جزءا من صوْغ العلائق مع الذات والمجتمع والآخرين، إذ ليس هناك شيء واضح، ظاهره كباطنه، بل كل ما نعيشه يحيلنا، عند التأمل، على تعقيدات كامنة وأسئلة شائكة، والقارئ قادر على أن يرتاد هذه المناطق المعقدة لأن ذلك يجعله يمارس حريته في الاتفاق أو الاختلاف، ويدفعه إلى توظيف ثقافته وتجاربه لفهم ما يحفل به العالم من تجارب؛ ولكن ذلك لن يتحقق من دون توفير المتعة عبر السرد واللغة والتخييل...وأنا لا أنحو إلى استنساخ ما هو قائم، حتى عندما أستوحي شخوصا بارزة في حقبة معينة من حياة المجتمع المغربي فإنني أعيد خلقها وتخــيـُّـلها. وأنا أيضا أعتبر أن كتابة الرواية لا تخلو من أبعاد لـَـعـبـيّــة تـغري الكاتب بأن ينساق إلى خوض مغامرة اللغة والتشكيل... وهذا ما جعلني في «حيوات متجاورة» أجرب إعادة كتابة مجموع النص السردي في 30 صفحة لها شكل سيناريو سينمائي، لأنني أردتُ أن أقارن بين لغة السرد والوصف، ولغة السيناريو البصرية المُـقتصدة. الشيء نفسه بالنسبة لتعديد الساردين وابتداع » السارد- المسرود له »، فهي عناصر شكلية تمتح من واقع السرد في الحياة اليومية وتلفت النظر إلى أن النص المقروء قابل لأن يُــسرد في أكثر من طريقة، والقارئ بدوره قادر على أن يتخيل السرد في شكل مغاير.

  • الدكتور محمد برّادة ناقد وروائي ومترجم أيضا، لكن شهرتك كناقد طغت على محمد برّادة الروائي، وهناك من يرى أن المغاربة أجدر في النقد، أهي مجرد رؤية مشرقية شوفينية؟ وكناقد- وبعيدا عن حساسية المشرق والمغرب - ما تقييمك للمشهد الأدبي؟

- من حق كل واحد أن يجرب الشكل الذي يريد في الكتابة والإبداع، إذ ليس هناك مقاييس أو قوانين مسبقة تفرض علينا أن نختار شكلا وحيدا للتعبير والإبداع... لكن ما هو مطلوب، أن يعي الكاتب مقومات الشكل الذي يختاره ويعبر من خلاله، وأن يكون إنتاجه مقنعا للقارئ والنقاد. لا داعي إذن لأن «نسجن» كاتبا في خانة وحيدة بدعوى أن اسمه اقترن بها، لأن معنى ذلك افتراض الثبات في مجال مشرّع على كل الاحتمالات. بالنسبة لي، أعرف الكثيرين من القراء والأصدقاء الذين يؤثرون نصوصي السردية ويعاتبونني على عدم كتابة روايات أكثر.

عن المشرق والمغرب، أظن أننا خرجنا من مرحلة الأحكام المسبقة والتعميمية، وأن هناك الآن متابعة واعية لما يُــنشر في كل بلد عربي وتقديرا للإنتاج الجيد واحتفاء به، بغض النظر عن جنسية المبدع... ومن هذا المنظور، يبدو المشهد الأدبي العربي على جانب كبير من الأهمية لأنه يقدم، ضمن اللغة الواحدة، إبداعات متنوعة تستوحي القضايا والمشاعر والتجارب التي لا تخلو من قرابة، وتسلك طرقا جمالية جديرة بالتقدير، خالقة فضاء مشتركا للتجريب والتعبير الجريء عن أزمة المجتمعات العربية التي تعيش في عنق الزجاجة منذ عقود، لكن هذا الإبداع العربي المتقدم يعاني من شروط سياسية واجتماعية تفرض عليه نوعا من الحصار، ولا تتيح له الاضطلاع بمهمته على امتداد الرقعة العربية التي تشمل أكثر من 300 مليون نسمة، نتيجة للرقابة والأمية وصعوبة التوزيع.

  • يشتكي معظم المبدعين من تقاعس النقاد، وقلة منهم يزاوجون بين الكتابة الإبداعية والممارسة النقدية، لكن القارئ ينفر من رواياتهم وقصصهم، لأنهم -غالبا- ما يفشلون إبداعيا.. لماذا هذا الفشل؟ وأثناء كتابة الرواية، هل يلجأ محمد برّادة الروائي إلى الاستفادة من ثقافة الناقد؟ أم تقوم بإقصائه، حتى لا تسقط في فخ التنظير؟

- سبق أن قلت ُ إن من حق كل واحد أن يبدع في أكثر من شكل، وأن المقياس هو إقناع المتلقي بجودة ما يكتبه؛ أما فشل بعضهم في ما يقدمونه فهذا من سنة الحياة، لأنهم لا يتوفرون على الموهبة، أو لا يبذلون الجهد المطلوب ويريدون الضحك على ذقون القراء.

بالنسبة لي، أنا أكتب الرواية استجابة لضرورة وجودية، وأكتبها بكـُـلـيّـتي، ولا ألجأ إلى تجزيء ذاتي إلى ناقد وروائي كما يحلو لبعض الصحفيين أن يفعلوا. المبدع يتوفر بالضرورة على حس نقدي، والناقد له ذائقة جمالية وإبداعية، والمنتوج هو مجال الاحتكام.

  • هل يعزى الاهتمام النقدي برواياتك إلى سلطتك الجامعية، كما أشار الكاتب إدريس الخوري في كتابه «الصوت والصدى»؟

- الاهتمام برواياتي يعود - كما شرحتُ - إلى مساري الأدبي طوال 50 سنة، وإلى السياق الذي وجدتُ فيه قبل استقلال المغرب وبعده، وإلى الدور الذي اضطلعتُ به في تشييد الأدب المغربي الحديث مع كتاب آخرين. أما ما قد يقوله البعض عن «سلطتي» الجامعية، فهو كلام خال من الدقة، لأن الجميع يعرف علاقتي بالسلطة أيا كانت، والطلبة الذين درسوا عندي في الجامعة يستطيعون أن يشهدوا، لأنني كنت وراء تشجيع الموهوبين منهم والذين هم اليوم مبدعون معروفون. وبا إدريس نفسه يذكر أنني كنتُ مشجعا له إذ أذعتُ له إحدى قصصه القصيرة لأنني اقتنعت بجودتها، وصداقتنا لا تقوم على مراعاة «سلطة» الآخر في مجاله.وأنا أفهم أن يتضايق البعض من كون روايتي «لعبة النسيان» أصبحت نصا كلاسيكيا وأنا بعدُ على قيد الحياة، لكن ذلك راجع قبل كل شيء، إلى قيمة ملموسة داخل النص، وليس إلى كتابات احتفلت بالرواية. وأنا أفهم العبارات الصحفية التي يتشدق بها صحفيون ويريدون أن يسبغوا عليها صفة الحكم الجامع والملخص لما استعصى على فهمهم، ولذلك أنا أحتكم إلى النقاد الجادين وإلى القراء على امتداد عقود من الزمن.

  • ثمة روايات تتغزل باللغة وتحفل بالميتا سرد وتغيّب الحدث والشخوص؟ ألا تساهم مثل هذه النصوص في نفور القارئ وهجرته إلى قارة القص الكلاسيكي؟ وما علاقتك باللغة في محكياتك؟

- هناك اتجاهان أساسيان في كتَّاب الرواية: واحد يريد أن يتملق القارئ ويوحي له بأنه يشخص «الواقع» بحذافيره. واتجاه ثان يعتبر أن الواقع جزء من عملية التخييل التي لا تكتفي بالاستنساخ، بل تفسح المجال أمام رؤية الروائي إلى العالم، وأنا أنطلق من الاتجاه الثاني نتيجة لقراءاتي في الرواية العالمية، واقتناعي بأن لا أحد يستطيع أن يستنسخ الواقع الشاسع، المتداخل، وإنما هناك رؤيتنا إلى الواقع الممتزج بالحلم والاستيهام والخيال، لذلك أن أتوجه إلى القارئ الواعي ولا أطرق باب قارئ يطلب التسلية فقط. وعلاقتي باللغة تقوم على اعتبار الكلام المتداول أساسيا لأنه يكشف عن شخصية المتكلم في الرواية ومستواه الاجتماعي وخلفيته الإيديولوجية؛ ومن ثم فإن تعدد مستويات اللغة والكلام عنصر جوهري يستدعي من الروائي أن يوليه اهتماما كبيرا حتى يتمكن القارئ من الوقوف على «فكر اللغة» وعلى تأريخها لظواهر وسلوكات اجتماعية.

  • كنت الأقرب إلى شكري، ونشرت مراسلاتكما في كتاب موسوم بـ«ورد ورماد». لم هذا الجنس الأدبي شبه المغيب في المشهد الأدبي العربي؟ أهو الخوف من البوح الذاتي والتعري أمام القارئ؟

- في الحقيقة إن الرسائل التي كنتُ أتبادلها مع الصديق الراحل محمد شكري، لم تكن تندرج في نية النشر، وإنما كانت ناجمة عن رغبة في الحوار بيننا، وتبادل الأفكار والتعليقات ضمن دائرة الصداقة التي كانت تجمعنا. وفي سنة 2000، أعدت قراءة تلك الرسائل ووجدتُ أنها تشتمل على ملاحظات وأفكار ومواقف قد تفيد الدارس لحياة الأدباء المغاربة وعلاقاتهم، والشروط التي كانوا يعملون فيها؛ وهذا ما جعلني أعرض على شكري فكرة نشرها، فرحب بالفكرة، وتوليتُ أنا إعدادها وتقديمها والإشراف على طبعها...وقد لقيت تلك الرسائل صدى واسعا، وكشفت عن جوانب حميمية من صداقتنا التي دامت أكثر من 30 سنة. ومعروف أن مراسلات الأدباء في الأدب العالمي تحظى بمكانة رفيعة، على غير ما هو الشأن عندنا. وبهذه المناسبة، أود القول إن «ورد ورماد» تعرض للسطو من جانب دار الجمل وصاحبها، لأنه أعاد نشرها في 2006 من دون أن يستأذنني، زاعما أن وكيل المرحوم شكري قد أذن له، فقلت له أنا طرف ثان في الكتاب وأصبحت مالكا له بعد وفاة شكري، فكيف لا تستأذنني؟ وعندما اطلعت على طبعته وجدتها مليئة بالأخطاء! كيف لهذا الناشر الذي يعتبر نفسه شاعرا، أن يقدم على هذا السلوك الشائن وأن يثق الناس في ما ينشره؟

  • في حواراتك ونصوصك تكرر عبارة: حب الحياة، «استعادة الحياة»، الإقبال عليها، أهو تمجيد لهذه الهبة الربّانية؟ أم قلق أنطولوجي خفي؟

- التعلق بحب الحياة ظاهرة إنسانية قد لا نجد تفسيرا لقوتها وسيطرتها على الإنسان على الرغم من الخيبات والشقاء والألم. لعل لــُـغـْــزية جاذبية الحياة هو ما يجعلنا نمجد أسرارها ونهيم بتجلياتها البسيطة التي نتشبث بها لمقاومة الموت وعدميــة الزوال؟

  • من يقرأ رواياتك الخمس يكاد لا يفرق بين الواقعي والتخييلي أو تلك العلاقة الملتبسة بين الأدب والواقع، أهو تحايل فني من الدكتور محمد برَّادة وهروب من مأزق السير ذاتي وجنوح إلى «التخييل الذاتي» وبالتالي، التحرر من أسر الواقع الصارم في اتجاه ما أسميته بـ«فتنة العوالم الممكنة»؟

- سبق القول إنني لا أزعم تصوير الواقع واستنساخ مشاهده وتجلياته؛ ومن ثم فإن مفهوم الأدب الذي أصدر عنه، هو مفهوم لا يتوخى التطابق «مــع»، وإنما يريد تحديد علاقتي بالعالم الخارجي وبالذات أسئلة الوجود، وهذا الأفق للكتابة يحيلني على كتابة الذاكرة: كيف نكتب ذاكرتنا؟ هل من خلال تسطير كل ما اختزنته الذاكرة؟ أم عبر نص ينتقي ويحذف ويضيف ويتوسل بالنسيان؟ أنا أسعى إلى كتابة الذاكرة جاعلا من الذات والسيرذاتي والتاريخ والاستيهامات عناصر تتضافـر مع التخييل واللغة والشكل الجمالي لتوفر للنص وجودا مستقلا على الرغم من أنه يتحدر من الواقع المعيش.

  • ولِمَ تحضر - بقوة - في كتاباتك الروائية ثنائية التذكّر والنسيان، الضوء والظل، الصوت والصدى؟

- لا وجود لذاكرة من غير نسيان، وقد ألح بعض الفلاسفة على ذلك، مثل ما نجده عند نيتشه في كتابه «عن جدوى وضرر التاريخ للحياة»، حيث يقول إن كل فعل يقتضي النسيان، وأنه من المستحيل مطلقا أن نعيش من دون أن ننسى... وأنا أحاول أن ألتقط بعض العناصر المكونة لجدلية الحياة التي تظل متسترة ومتبدّلة وغامضة ومستعصية على الإدراك الأحادي.

  • للمكان عبقه الخاص في الحياة وفي الكتابة، بالتأكيد. كيف ترى القاهرة الآن، بعد هذا العمر، ولا ننسى مراتع الطفولة: فاس، وأيضا باريس - منفاك الاختياري- إن جاز هذا التعبير، وأخيرا بروكسيل. كمبدع ماذا تعني لك هذه المدن؟ أهي بديل للوطن؟

- الأمكنة والفضاءات جزء من حياتنا وذاكرتنا، وهي تساعدنا على تحديد الزمان وتمييز مراحله، ولذلك أحاول الاستفادة من جدلية المكان والزمان، وأتخذ من المدن التي استوطنتها فضاء روائيا يحمل بصمات ذاكرتي وخصوصية ما عشته من أحداث... فاس، الرباط، القاهرة، باريس، بروكسيل، هي محطات تقترن بمراحل من حياتي كما أنها تشهد على مستوى معين من الوعي والتفاعل مع العالم الخارجي؛ وأنا لا أعتبر نفسي في منفى لأن وجودي خارج الوطن ناتج عن ظروف عائلية وعن رغبة في التعلم والاستفادة من أجواء ثقافية أخرى. لكنها ليست مطلقا بديلا عن الوطن الكامن في الأعماق والوجدان.

  • كمبدع يتفهرس ضمن جيل الأحلام -الأسئلة الكبرى والانكسارات الكبرى أيضا- هل ترى أن جيلكم كان محظوظا مقارنة مع الأجيال اللاحقة؟

- ربما كان جيلنا محظوظا لأنه انتمى إلى فترة مخضرمة: ما قبل الاستقلال ومرحلة النضال ضد الاستعمار، ثم ما بعد الاستقلال ومرحلة تشييد مجتمع متحرر وحديث. هذا السياق وفـّر لنا قضية كبرى للنضال، وجعل المثقف مسؤولا عن تنمية الوعي والجهر بالانتقاد، وملأ قلوبنا بالأمل في التغيير...طبعا عرفنا بعد 1965 فترة أزمنة الرصاص، ولكن ذاكرتنا المخضرمة كانت تقوي عزيمتنا وتسعفنا على معارضة الطغيان والحكم الفردي...الأجيال اللاحقة، وجدت نفسها أمام العنف والأبواب الموصدة، ومن ثم فقد دفعت الثمن غاليا من حياتها ووجودها. والآن، كل الأجيال تتلاقى عند سؤال مشترك: ماذا عن المستقبل؟ وكيف السبيل إلى تلافي «السكتة القلبية» التي قد تهددنا من جديد؟

  • من ترجماتك الرائعة كتاب بونوا دوني «الأدب والالتزام (من باسكال إلى سارتر)»، هل تتفق مع بونوا في إمكان «التحرر من الالتزام» عبر اختيار الكاتب الصمت؟ وماذا يمكن أن نسمي تلك المقالات، الخواطر وحتى الرسوم الكاريكاتورية التي تهاطلت على الصحف والمواقع الإلكترونية تضامنا مع غزة، فبات الأمر مستهجنا،لا سيما مع من يحاولون تسلق القضية والمتاجرة بآلام الأيتام والمنكوبين لسرقة الأضواء؟ ثم ما الذي يمكن أن يضيف هذا الكتاب للقارئ العربي مع غياب الأديب الملتزم، المثقف العضوي وسقوط الإيديولوجيات؟ وأخيرا، ألا تتفق معي في أن الأديب -حين يعتنق قضية ما - يضحي بفنيّة نصه، فيصير ظرفيّا، محدود الصلاحية كما المعلّبات؟

- كتاب «الأدب والالتزام» الذي ترجمته عن الفرنسية، دراسة جيدة تعرض مسألة الالتزام منذ نشأتها في مطلع الأزمنة الحديثة بأوربا، أي القرن السابع عشر، وتتابعها إلى اليوم موضحة التحولات الطارئة على مفهوم الالتزام، بترابط مع الأوضاع الاجتماعية والصراعات السياسية في أوربا أساسا. وقد قصدتُ من وراء ترجمته، أن يطلع القارئ العربي على مختلف الدلالات التي ارتبطت بمفهوم الالتزام، وردود الفعل التي كونتْ ردود فعل سادت في الحقل الثقافي الأوربي من بداية القرن الـ 20 إلى الآن. ومعنى ذلك، أن مثل هذه الدراسة قد تسهم في تعميق وعي القارئ العربي، فلا يظل فهمه للالتزام فهما قائما على الاختزال والسطحية. وما يضيفه الكتاب، هو إظهار نسبية مفهوم الالتزام وخضوعه لاجتهادات المفكرين والمبدعين على ضوء ما يستجد في مجال القول والفعل...وتغيـُّر مفهوم الالتزام لا يعني اختفاء الأسباب التي تدعو إلى الالتزام ،بطريقة بعيدة عن الإلزام وترديد الشعارات. ذلك أن الفن الرفيع يستطيع أن يكون ملتزما على طريقته إذا توافرت الموهبة والحس العميق.

  • كيف ترى الوضع الاعتباري للكاتب العربي مقارنة بنظيره في الغرب، وبالتالي ألا يحق لنا أن نتساءل -وبمنطق نفعي- ما جدوى الأدب في حياتنا اليومية؟

- لا مجال للمقارنة بين الوضع الاعتباري للكاتب العربي ونظيره الأوربي، لأن التاريخ مختلف، ومكونات الحقلـيْـن الثقافيـيْـن متباينة، والدوافع إلى ممارسة الأدب والتعبير مختلفة أيضا.ويمكن أن ألخص الفرق في أن أوربا تتوفر على استقلال ذاتي في الحقول الثقافية والدينية والفنية، تتيح للمبدع نوعا من الاستقلال المادي والمعنوي، بينما نحن لم نحقق هذا الاستقلال لأسباب معروفة. هذا لا يعني أن الأدب لا جدوى له، لأن الحاجة إلى التعبير عن الذات والمشاعر والاستمتاع بالسرد والخيال والمحكيات هي رغبة مشتركة بين الناس وتتخذ تجليات متباينة؛ وجدوى الأدب في جميع الثقافات تظل رمزية متصلة بالهوية والذاكرة وتشييد المتخيّل الاجتماعي.

  • لمَ لمْ ينجح أي روائي عربي آخر في الحصول على جائزة نوبل بعد نجيب محفوظ، بالرغم من ثراء التجربة الروائية العربية؟

- جائزة نوبل، كما هو معروف، تخضع لعدة اعتبارات ومقاييس، من بينها الاعتبار السياسي وربط الجائزة بموقف يتخذه الكاتب إلى جانب قيمته الفنية، وأظن أن نجيب محفوظ كان يتوفر على كثير من الخصائص التي تؤهله لتمثيل الأدب العربي على مستوى جائزة نوبل، ولعل هناك آخرين، لكنني لستُ متأكدا. ومهما يكن، ليست جائزة نوبل هي التي تشهد على جودة أدبنا، بل القيمة الذاتية التي تدفع الثقافات الأخرى إلى ترجمته وإدماجه ضمن الزاد الأدبي العالمي الذي يغذي الروح الإنسانية، المتطلعة إلى استعادة الوئام الداخلي المفقود.

------------------------------------
الريح تلهث بالهجيرة كالجثام، على الأصيل
وعلى القلوع تظل تطوى أو تنشّر للرحيل
زحم الخليج بهنّ مكتدحون جوّابو بحار
من كل حاف نصف عارٍ
وعلى الرمال، على الخليج
جلس الغريب، يسرّح البصر المحيّر في الخليج
ويهدّ أعمدة الضياء بما يصعّد من نشيج
أعلى من العبّاب يهدر رغوه ومن الضجيج
صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق
كالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي عراق
والموج يعول بي عراق، عراق، ليس سوى عراق
البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما يكون
والبحر دونك يا عراق

بدر شاكر السياب

 

 

حاوره: هشام بنشاوي





 





 





 





الفنان التشكيلي حلمي التوني في حوار مع د. محمد برادة أثناء مشاركتهما بندوة مجلة «العربي» للاحتفال باليوبيل الذهبي