إنفلونزا الخنازير: منقذ الكوكب

إنفلونزا الخنازير: منقذ الكوكب

إن كل من هو مستعد لهدر كمية معينة من عمره لتتبع الفسفور أو الكريستال السائل وهو يتوزع على شاشة التلفاز ليكون صورة القنوات الإخبارية المبعوثة عبر القمر الاصطناعي، سيلاحظ، لا محالة، المادة الإعلامية الجديدة التي أعادت اهتمام المشاهدين إلى ما تنطق به الشفاه الملأى بالسيلكون لمذيعات القنوات الإخبارية، وذلك بعد انتهاء دراما قطاع غزة وبداية أفول نجم الأزمة الاقتصادية، إن الحديث هنا عن إنفلونزا الخنازير. إن هذا الوباء يشكل مادة ترفيهية من العيار الثقيل، فإٍلى جانب الشغف الذي يجده معظم الناس، وإن أنكروا ذلك، في تتبع تزايد عدد الإصابات والوفيات، هناك أيضا فضول التنبؤ بالاسم الذي سيُُستعمل للإشارة إلى الفيروس المسبب للوباء، هل هو «أيتش واحد ان واحد» أم «إيتش وان إين وان» (الذي يبقى التسمية المفضلة لسبب خفي) أو حتى، إن شعر المتكلم في رغبة في التغيير، «أيتش ان إن ان»، كل شيء وارد.

إن كل هذه الضجة لن تمنعنا من رؤية الموضوع ضمن صورة أشمل، وبالتالي تناوله من زاوية تسمو عن وضاعة الدراما الإنسانية: فبما يفوق 6.7 مليار كائن بشري، لقد تجاوز الإنسان بشكل كبير الأعداد القصوى لما يمكن لهذا الكوكب أن يعيل من أفراد جنسنا في تناغم نسبي مع بقية الكائنات، وهو عدد لا يتجاوز المليار ونصف المليار حسب أكثر الحسابات مرونة. إن البشرية تبدو وكأنها في مهمة لتحويل كل متر مربع من اليابسة على هذا الكوكب إما إلى مركز عمراني لإسكان الجماهير اللامتناهية من البشر أو إلى أراض فلاحية لإطعامهم وإطعام المواشي التي يتغذون عليها.

أمام حقائق كهذه يصبح من السهل تفهم الموقف العدائي الذي يتخذه الكوكب والنظام البيئي ضد الإنسان. وهنا أود اقتباس أحد أصوات المنطق القليلة المتبقية في زمننا هذا، بينتي لينكولا: «لقد شهدنا عبر تاريخ البشرية صراع البيئة اليائس ضد خطأ من صنع تطورها. فقد بدأت المجاعة، وهي وسيلة قديمة وفعالة سابقا ًلتقليص عدد الساكنة، تدريجياً بفقدان فعاليتها مع تطور مهارات الإنسان التقنية. وانخلع الإنسان من وسطه البيئي وبدأ في أخذ المزيد والمزيد من الموارد الطبيعية، مهجرا بذلك مظاهر الحياة الأخرى. عندها انتبهت الطبيعة للوضعية واكتشفت أنها قد خسرت الجولة الأولى فغيرت الإستراتيجية. لقد لوحت الطبيعة بسلاح لم تستطع استعماله عندما كان العدو مشتتا في تجمعات صغيرة، ولكنه الآن أصبح أكثر فاعلية ضد قوات العدو المتزايدة بشكل سريع. فبمساعدة الميكروبات، أو «الآفات الالتهابية» كما يسميها الإنسان في بروباجاندا الحرب الخاصة به، حاربت الطبيعة ببسالة لألفي سنة ضد البشرية وحققت عدة انتصارات باهرة. لكن هذه الانتصارات بقيت ذات طابع محلي وبدأت تأخذ شكل حارس معقل قوات منسحبة. لم تتمكن الطبيعة من تدمير القيادة البشرية، إلا أن باحثي وعلماء هذه القيادة تمكنوا من تجريد الطبيعة من ترسانتها».

كما بين لنا هذا الفيلسوف وبائع السمك الفنلندي، لقد دفعنا الطبيعة إلى حرب ونحن في غنى عنها، حرب من مصلحة البشرية كلها أن تنتهي بأكثر الأشكال سلماً. فربما قد حان الوقت للقيام بوقفة تأملية لمراجعة مفاهيم أصبحت ذات طابع قدسي كـ «التقدم» و«النمو»، وبالفعل نحن نتقدم وننمو، لكننا نتقدم إلى الهاوية وننمو لنصبح مسخا قبيحا يثير الشفقة والرعب في آن معا.

إن الأصوات التي تريد أن تروج للانحباس الحراري على أنه المشكل الأساسي الذي يهدد النظام الإيكولوجي هي نتيجة للتقليد العريق في الفكر المعاصر المتمثل في الخلط بين الأسباب والنتائج، فالانحباس الحراري ما هو إلا نتيجة للأنشطة البشرية المدمرة والتي هي بدورها ناتجة عن التزايد غير المسئول لعدد البشر ونمط حياتهم المستهتر. إن أي محاولة جدية للتعامل مع الأزمة الإيكولوجية لكوكبنا لابد أن تنطلق من إعادة النظر في ما سبق ذكره أي التزايد ونمط الحياة الهمجيين للساكنة البشرية، وذلك لن يحدث إلا إذا قررنا إن كنا نريد أن نعلن أنفسنا أعداء للمحيط البيئي وغيرنا من الكائنات ونعلن الحرب ضدها بما يعني ذلك من أن الطبيعة ستستمر في الدفاع عن نفسها وحتمية توقع أسلحة أقوى من الإنفلونزات والكوارث المتنوعة، أو أن نقرر أن نعيش ضمن الوسط الذي نعيش فيه ونعيش بفضله في تناغم مع بقية خلق الله، وهو لا شك الخيار الأكثر رشدا وتبصرا.

محمد العلواني
تطوان - المغرب