طالب الرفاعي سارق النار.. روايته «الثوب» نموذجا.. د. داليا فهمي

رواية الهوية بين العمامة والقبعة

الحملة الفرنسية على مصر وملابساتها والسياق الذي وقعت فيه وقائعها ليست بالسر وكل مصادرها برؤاها المختلفة متاحة لدى الجميع؛ لكن أن تكون «معدة كبيرة» «كمصر» التي هضمت كل الحضارات التي مرت عليها ثم أعادت اجترارها على طريقتها..؛ وأن تقرأ بين السطور وتقلب أفكارك وتراوحها بين المعنيين الظاهر والباطن، وتخرج برؤى جديدة تتوخى أكبر قدر من الموضوعية، ولا تجامل طرفا على حساب الآخر لتخرج بهجين صالح وليس مستنسخاً، يحمل قراءة جديدة فلابد أن يقوم بذلك كاتب في قامة«صنع الله إبراهيم»..؛ يمكنك أن تختلف معه لكن لابد أن روايته الجديدة ستكون إحدى ركائز القراءات الجديدة لهذه الحقبة من التاريخ.

يراهن صنع الله إبراهيم على شيء ما لأنه مازال يحتفي بالتفاصيل ويدقق فيها كإحدى الروافد المهمة في روايته الجديدة «العمامة والقبعة» وهي رواية إشكالية بحق ضمت مستويات متعددة للتلقي وضفافاً كثيرة للرسو..؛ ولعل وصف هذه الرواية بأنها «رواية حضارية»! يأتي غريباً وغير مسبوق.. لكن أليست إحدى تعريفات الحضارة «أنها فن العناية بالتفاصيل»..!

تفاصيل الحياة اليومية على كافة الصعد اجتماعياً وسياسياً واقتصاديا حتى في المنازل وحياة الإنسان المصري تتغير مداً وجزراً تحت وطأة المحتل مماليك كانوا أم أتراكاً لم يكن ينقصهم إلا قدوم الحملة الفرنسية بقيادة «ساري عسكر بونابرته» الذي دخل هو الآخر متذرعاً بدين الإسلام والتفويض الإلهي الممنوح له لرفع الظلم عن «بلاد المسلمين في مصر»، وإعادة حقوقهم المسلوبة إليهم وكيف لا وهو محب للحلة المحمدية يحترم شرائع دينها؟! (ما أشبه الليلة بالبارحة - كلهم يوحى إليهم!!)، وكالعادة يعضد هؤلاء ويقوي شوكتهم طبقة من التجار والعلماء، أو بالأحرى التجار العلماء الذين شكلوا طبقات إقطاعية وبورجوازية تغلغلت في كل شيء من«التزام الأراضي الزراعية - قرى بأكملها«إلى البضائع المستوردة..؛ وهم دائماً مع من غلب.. أول الفارين وأسرع المستفيدين (فئران السفينة)..؛ لا يشق لهم غبار في براعة التنقل والقفز من «حجر إلى حجر» لكل من تولى مقاليد الحكم واستبد بالسلطان.. دائماً كانوا في الخدمة وتحت الطلب دونما حياء يذكر.. «اليوم والبارحة».

غاص صنع الله إبراهيم في كل هذه التفاصيل حتى في الحياة اليومية.. أسعار السلع..؛ الصراع حول الغلمان والجواري.. ظهور البارات والمطاعم الأوربية..؛ تحول أصحاب الحرف والصناعات عن دورهم الحقيقي للعمل فيما أطلق عليه فيما بعد «صناعة السياحة والخدمات».. ليتحول الخراط البارع إلى بائع مأكولات وابنه ومساعده إلى مكاري يلهث جرياً طوال اليوم خلف الحمير والرهانات التي عشقها السادة الجدد من الفرنسيس ويدفعون فيها بسخاء.. لكي «يرمح» الشعب كله وراءهم ولم لا مادام هو الوحيد الذي يدفع الثمن؟!

من خلال تلميذ المؤرخ الشهير «الجبرتي» والذي تعمد «صنع الله إبراهيم» - من وجهة نظري بالطبع، فالاسقاط وظيفة المتلقي - أن يكون بلا اسم والذي يقوم أيضاً بوظيفة الراوي والمؤرخ للأحداث التي وقعت وقتئذ؛ نرحل معاً في الزمان والمكان في رحلة للوعي بالذات والهوية (والبحث عنهما) وأظن ذلك هو السبب في كونه مجهولاً فهذا التلميذ الغامض هو كل إنسان يدب على أرض الوطن ويشعر بالانتماء لهذه الحضارة بكل معانيها..؛ ومن خلال لقطات مؤسسة وكاشفة تحيلك إلى حوادث دالة أيضاً نجد أن السياق لم يتغير من الماضي إلى الحاضر وربما في المستقبل إلا في الشكل وليس المضمون..، وكالعادة التربة الشرقية مهيأة من خلال صراع الحكام المماليك، وانتهازية المشايخ والتجار أو بالأحرى (المشايخ التجار)..

تفاصيل وأحداث الحملة الفرنسية على مصر، والتي حملت معها ما يمكن أن نطلق عليه أو مشاريع الغزو الاستيطاني في العصر الحديث «وهي لم تتخل عن هذا الحلم لتحققه سنة 1830م في الجزائر»؛ كما حملت معها فكرة إقامة كيان يهودي في فلسطين..؛ فكرة شق قناة بين البحرين «المتوسط والأحمر» «قناة السويس»..، تمتلئ أرفف المكتبات بمصادر متعددة لها منها العربي ومنها الإفرنجي، وبالطبع الأحداث والتفاصيل واحدة لكن الرؤى مختلفة الأمر الذي يضع المؤلف في موقف صعب قد تتداخل فيه الرؤى إلى حد التشويش.. إلا أن «صنع الله» نجح في الخروج من المأزق ببراعة وحيادية موضوعية.. ليجعلنا نفكر معاً أن نحاول محاولة بناءة للوعي بالذات وبالهوية الأمر الذي لابد من أن يواكب اللحظات الغارقة ومواقف الفرز في حياة الأمم وهو ما يعيشه المصريون في هذا الوقت فضلاً عن المنطقة كلها فالجميع يتأرجح ما بين مفاهيم وأيديولوجيات تؤكد على الهوية الدينية أو القومية أو العرقية وكأن هذه المفاهيم لا يمكن أن تتلاقى أو تتلاقح بل يجب أن يسحق إحداها منافسيه.. «ولا فرق بين «عربي» و«هنتنجتوني» إلا في محل الإقامة والعوامل المؤصلة للهوس والتعصب»، ولا يستغرب أحد الفوز شبه الدائم للغرب على الشرق في القرون الأخيرة بعد أن فقدنا الذاكرة والقدرة على المثابرة والتعلم من أخطائنا.

رصد المؤلف بدقة من خلال أحداث الرواية وشخوصها «استفاقة المصريين على أنفسهم من خلال رحلة الوعي يكتشفون بعد رقاد طويل أنهم مصريون بعيداً عن الانتمائات العرقية والعقائدية.. استفاقوا على تجاوز الآخر لهم بدءاً من العلوم التطبيقية والنظرية..؛ وليس انتهاءً بالعلاقات البيولوجية التي صنف فيها علماء المسلمين ذات اليوم مؤلفات يشار لها بالبنان وتعد علمية بمعايير عصرها؛ في وقت كان الغرب سابحاً في غياهب الجهل والخرافة.. ولكن شتان ما بين عصور ازدهار وعصور الضعف والانحطاط المستمرة ربما إلى اليوم.

بدأ المصريون رحلة الوعي مع الصدمة التي أحدثتها آلات الحرب التي جلبها معهم الفرنسيس فضلاً عن الآلات العلمية إلخ.. هذا على وجه العموم أما على وجه الخصوص فقد كانت الجرعة «جرعة الدهشة» ومحاولة الوعي والإدراك مضاعفة «كفعل ورد فعل» مع كل من أحتك أكثر بالفرنسيس مثل بطل الرواية المجهول الاسم «عن عمد» وصديقه حنا وزميله المترجم إبراهيم الصباغ «على سبيل المثال لا الحصر».

كما أن تفاصيل علاقة البطل «بولين» حافلة بالدهشة بدءاً من سؤالها له هل هو تركي أم مملوك أو... ليجيبها بعد صمت على إثر المباغتة أنه «مصري» وكأنه يدرك ذلك لأول مرة..، كما أن الجانب «الأيروتيكي» لنص الرواية يشي بهذه الصدمة من خلال تفاصيل علاقة البطل «بولين» حبيبته الفرنسية؛ فحتى أبسط الحاجات الطبيعية للإنسان في السياق، الذي تدور فيه أحداث الرواية، أصبحت منبتة الصلة بما يحدث في أربعة أركان الأرض؛ وهنا لا يقيم المؤلف شكل تلك العلاقات حسب قياس معين «فالأمر متروك للمتلقي» لكن النص جاء «كاشفاً» لحالة انقطاع الصلات بالعالم الخارجي حتى في أبسط الحاجات الأساسية التي وضع فيها علماء المسلمين ذات يوم مصنفات علمية..؛ لينكشف لنا إلى أي حد كانت الهيمنة العثمانية قد تحولت إلى وبال على هذا الجزء من العالم الإسلامي.. «العربي منه خصوصاً».

راعى المؤلف توخي الموضوعية إلى حد بعيد، فكما بين لنا عمق الصدمة الحضارية وتأثيرها إلا أنه لم يقع فريسة للشعور بالدونية كما حدث لكثيرين ممن تعرضوا للحملة الفرنسية؛ فهو في مقابل عرضه لتفوقهم في شتى مناحي العلوم التطبيقية وغيرها من مناحي الحياة كالصحة أو البحث العلمي والترجمة إلخ..، لم يفوته عرض مثالبهم العامة والخاصة، وإذا كان الكثيرون يعرفون مثالبهم العامة..؛ فقلة هم الذين يعرفون المثالب الخاصة كاهتمامهم بنظافتهم الشخصية أو عدم اغتسالهم «بعد علاقة خاصة مثلاً»..؛ وهي ملاحظات أزعجت بطل الرواية بل وأبدى تأففه منها إلى حد أن من يظن نفسه السيد يضطر للتبرير والوقوف في موقع المدافع..؛ فها هي «بولين» تبرر له السبب في رائحة «عرقها النفاذة» وعدم اعتيادهم التعامل مع المياه كونهم اعتادوا الحياة في مناطق باردة تخلو من الآثار الجانبية للحرارة الشديدة؛ ثم تجد نفسها لابد أن تراعي الاحترام الواجب لأهل البلاد قديماً وحديثاً عندما تلحظ غضب البطل من استخدامها لأوصاف تخلو من احترام تاريخ البلاد أو أهل القرى الذين وصفتهم بالمتوحشين، حتى لو كانت المسألة مجرد زلة لسان فرد فعل بطل الرواية لم يكن مجرد عصبية لبني جلدته بقدر ما كان الأمر بداية للوعي بالذات والاعتداد بالنفس وإدراك الجوانب الإيجابية فيما ينتمي إليه مهما تضاءلت تلك الجوانب ومهما كان تفوق أولئك الغزاة مذهلاً.

كانت المحنة كالبوتقة التي صهرت البلاد والعباد ليطفو الخبث على السطح في أول الأمر..، أخرجت أسوأ ما في الناس وأنبل ما فيهم أيضاً، وما بين القبيح والحسي كانت كل ألوان الطيف الإنساني التي إن أعيد سبكها تحت هذا الضغط الرهيب أظهرت معدناً فريداً من نوعه ومتفرداً لا نقول عنه أروع المعادن ولا أردئها لكن المؤكد أنه يستطيع الصمود عبر الحقب وآلاف السنين بجدارة لم يتسن مثلها لأمم كثيرة لم تشهد«فجر الضمير».

استطاع صنع الله إبراهيم استنباط طريقة للسرد لعلها نتيجة لزيجة فردية ما بين الأصالة والمعاصرة، جمعت ما بين الطرق القديمة «الحقبة المملوكية المتأخرة والعثمانية» وحداثة صنع المتفردة، بما في ذلك اللغة الهجينة التي ساهمت في تفاعل المتلقي مع الحدث كأنه يعيشه.

كانت المفارقة أيضاً في توقيت بدء أحداث الرواية «الأحد 22 يوليو سنة 1798 ظهراً»؛ التي تحيل القارئ إلى ملاحظة طريفة وهي أن أحداثا كثيرة فارقة في تاريخ مصر جاءت عبر شهر يوليو لعل أشهرها وليس آخرها ثورة 23 يوليو سنة 1952.

وفضلاً عن تقنيات الكتابة الفريدة التي تميز أعمال صنع الله إبراهيم والتي أضاف إليها هذا العمل «العمامة والقبعة» ثراء جديداً..، فقد عكست الرواية روح المؤلف من خلال اللقطات الطريفة التي التقطها من سجلات الحياة اليومية آنئذ، ليعيد صياغتها داخل سياق روايته.. فها أنت ترى السيد عمر مكرم خارجاً من القلعة ومعه وجهاء البلاد، حاملاً بيرقه البالغ الضخامة الذي أطلق عليه البيرق النبوي!! ثم ينطلق عدد رهيب من العجزة والشحاذين والمسلولين والعميان والمجاذيب لينضموا إلى «إبراهيم بك» وعسكره لمحاربة الفرنسيس في مشهد درامي عبثي شديد الثراء..؛ ثم ننتقل إلى زوجة «إبراهيم بك» التي ضبطته يجامع إحدى إمائه فضربته «علقة ساخنة»؛ ومع ذلك يسكت عليها ذلك العاتي الجبار، الخصم اللدود «لمراد بك».. ولا يستطيع معها شيئاً «لأ، هي ذات مكانة عظيمة وكرامات ويأتيها الوحي من النبي»،.. هكذا تسيطر أفكار غيبية لا تخلو من الجهل والخرافة على أحد حكام مصر وقتئذ وأكثرهم «براجماتية» وطموحا متوحشا..؛ هنا يشخص «صنع الله» من خلال لقطاته الدالة حالة اجتماعية وسياسية واقتصادية أو بالأحرى العلل الحياتية المسيطرة والمتفشية، والتي لابد أن تقود للهزيمة؛ ومع ذلك لا تخلو رؤية المؤلف لتلك الحادثة وما يشبهها من خفة ظل وروح فكاهية مستمدة من سياق تلك الوقائع الطريفة.

و«جبرتي» «العمامة والقبعة. الذي يقدمه صنع الله رغم جديته وذكائه لكنه يركن إلى الدعة والحياة السهلة التي تساعده عليها وفاة أستاذه الشيخ «مرتضى الزبيدي» الذي كان يكلفه بتأدية عمل جاد ومضن؛ وكذلك وفاة أبيه الذي ورث عنه ثروة جيدة يمكن تنميتها خصوصاً مع مصانعة الحكام، والحفاظ على البقاء في بؤرة الأحداث، حتى لو كان أبطالها «الفرنسيس وجنرالات جيش بونابرته»؛ ولا بأس من العمل معهم في الديوانين العام والخاص مع المحافظة على علاقة تحتية وسرية مع المماليك الذين خرجوا من الصورة مع العثمانيين بعد فقدانهم حكم البلاد، وهو يغار من كل من يقترب من مناطق نفوذه الاقتصادي والعلمي إلخ.. لذا نجده يغار أو يكن كراهية لبعض مشايخ الأزهر من زملائه.. فمثلاً حين يقتحم الفرنسيس القاهرة يسرد الجبرتي لنا الموقف قائلاً «إن عمر مكرم وبقية الأعيان والعلماء غادروا المدينة. والشيخ السادات والشيخ الشرقاوي هرباً إلى المطرية»..؛ ووصفه للأخيرين بالهروب يشي بمكنون نفسه؛ فهؤلاء جميعاً أو معظمهم وعلى رأسهم الجبرتي كانت أفعالهم متشابهة تقريباً بما في ذلك مشاركتهم في المجلس الذي شكله بونابرته؛ فلماذا يكون لزاماً علينا تصديق التاريخ الذي كتبه هؤلاء أو واحد منهم على الأقل دون أن نحاول استخدام عقولنا في قراءة أو قراءات أخرى جديدة للتاريخ؛ ولم يكن تلميذ الجبرتي والبطل المركزي للرواية بمنأى عن هذا الضعف الإنساني الذي يعتري أستاذه تجاه الآخرين رغم أنه تلميذه المقرب وفي منزله الربيب.

وقد اجتهد «صنع الله» في تسليط الضوء على شخصيات ابتكرها مثل «عبد الظاهر» صديق البطل أو الراوي وهو شاب من أبناء البلد ذو أصول جنوبية وطني ومتحمس دينياً إلى حد التطرف أحيانا؛ وفي مقابلة «معادلة الموضوع» صديقه الآخر «حنا» المسيحي الجنوبي الوطني المتحمس دينياً، والذي رأى في «المعلم يعقوب» مخلصاً لكل المصريين لكنه رفض أن يخرج مع «الجنرال يعقوب كما أطلق عليه الفرنسيون» إلى المنفى عندما رحل الفرنسيس أو على الأقل لم يطلب إليه ذلك عندما خرج «يعقوب» وعائلته بصحبة الكثير من أتباعه..، لم يؤثر الحماس ولا اختلاف العقائد على هؤلاء الأصدقاء إلا قليلاً..؛ فقد كانت أخوة الوطن والمصير، وحتى العادات والعرف والأخلاق هي الرابط الحقيقي بين هؤلاء «الأضداد في الظاهر»؛ وعلى الرغم من ولع «حنا» «بزينب البكرية» ابنة السيد «السيد» خليل البكري نقيب الأشراف «تلك المتهتكة المنحلة كأبيها الذي تعاون مع «الفرنسيس» فوضعوه في محل نقيب الأشراف الشرعي السيد «عمر مكرم» ليمارس فحشه وفجوره مع جميع من حوله ويترك الحبل على الغارب لابنه مع «ساري عسكر وسائر قواد الفرنساوية» دون أدنى مراعاة لأي شيء وها نحن نرى «عبد الظاهر» متألماً لحال «حنا» الذي انكسر قلبه من أفعال «زينب البكرية» التي يندى لها الجبين.. رغم اعتراضه السابق على مجرد «الحب العذري» من قبل حنا لها؛ ولم يكن مستغرباً أن نرى أبيها يتبرأ منها عندما تأتي ساعة الحساب ويبارك كسر رقبتها بعد رحيل الفرنسيين.

الرواية تزخر بشخصيات مبتكرة سواء كانت من خيال المؤلف أو لها أصول تاريخية، لكنها ولا شك تحمل رؤية مغايرة هي مجموعة من الرؤى المتباينة التي شكل منها جميعاً المؤلف نسيج شخوصه الذين استخدمهم في هذا العمل..، علماء الحملة مونج، برتوليه، كفاريللي «أبو خشبة».. إلخ؛ مشايخ كالشرقاوي والسادات والفيومي والصاوي والسرس.. إلخ؛ والجوسقي المهيب المريب شيخ طائفة العميان..، مماليك كإبراهيم بك ومراد بك ومحمد بك الألفي.. إلخ؛ وكانت تواريخ هؤلاء ووقائعهم من خلال الأحداث قد تحيلك إلى تواريخ أقدم لأناس أثروا في حياة هذه الأمة، مثل «علي بك الكبير» على سبيل المثال لا الحصر..؛ ولم ينس صنع من خلال اهتمامه بأدق التفاصيل أن يلقي بومضة سريعة على سلاح النكتة والسخرية الدالة التي طالما استعملها المصريون لمآرب متعددة منها مقاومة الطغاة والمستعمرين. فها نحن نرى العالم الفرنسي «كفاريللي» ذا الساق الخشبية يتحول إلى «أبو خشبة»، التي تحيلك بدورها إلى ماض كان فيه «الأمير المملوكي بشتاك» «بشتاك فول مقشر» نسبة إلى لون «الفول السوداني الأبيض المصفر» كسخرية من أصوله العرفية، حيث ينتمي للمناطق الأسيوية المتاخمة للصين..؛ وكذلك نظيره المملوكي أيضاً «الأمير قرقماس.. حمص أخضر»..؛ وكلها أوصاف تحاول التقليل من قدر هؤلاء السادة الغرباء والنيل من هيبتهم..

أسهل وأغرب ما تطرحه الرواية هو موقف الشرق الإسلامي «بالمعنى الحضاري «من الغرب الصليبي «بالمعنى الحضاري والسياسي».. من آليات الهجوم والدفاع والصراع..؛ الاثنان في حالة صراع ومد وجزر منذ ما يقرب من عشرة قرون..؛ لكن اللافت للنظر أنه خلال الثلاثة قرون الأخيرة على أقل تقدير وهي التي أقسمت بهجوم غربي صليبي دائم؛ ودفاع مشرقي إسلامي مستديم..؛ إن آليات الغرب لم تتغير تقريباً في لغة الخطاب أو الوسائل، اللهم إلا من حيث التطور والتحديث.

كما أن لا مبالاة رءوس السلطتان الزمنية والروحية وعدم اكتراثهما إلا بمصالحهما لم تتغير هي الأخرى.

فها هم العلماء الذين حرصوا على القفز من السفينة الغارقة يعودون إلى مصانعة المستعمر والعمل في دواوينه.. في الوقت نفسه الذي تعاموا وتجاهلوا فيه استغاثة «محمد كريم» الذي طالب الفرنسيس بافتدائه بثلاثين ألف قطعة ذهبية أو إعدامه..؛ فلا يجد الرجل من يفتديه، اللهم إلا من محاولة بعض العامة؛ أما هؤلاء العلماء أصحاب الضياع والالتزامات والذين يمتلك أي منهم مثل هذا المبلغ بيسر.. يتركون الرجل لمصيره.

 

 

خالد سليمان






صنع الله إبراهيم