خيري الذهبي والشام في رباعية التحولات

خيري الذهبي والشام في رباعية التحولات

أطلق خيري الذهبي ما بين 1987و1997 ضمن مشروعه الروائي ثلاثة من أعماله (حسيبة وفيّاض وهشام) بعنوان مشترك (التحوّلات) جعلت الشام ساحتها التي تطرح فيها أسئلة الوجود الحضاري- السياسي، واتخذ الروائي عائلة في حي دمشقيّ عريق: ( القنوات) بؤرة انداحت في شبكة علاقات إنسانية تنامت أو تقاطعت مع أجيالها منذ عشرينيات القرن العشرين حتى السبعينيات فيه، لكنّ رواية (لو لم يكن اسمها فاطمة/2005) غيّرت الأعمدة الثلاثة لتكون- في رأينا- الرابعة ولتشكّل اكتمالاً وبلورة، وتشدّنا إلى الوحدات السردية ومحمولاتها، وترتفع بالترميز إلى ذروة لا تلبث أن ترسل إشاراتها لنقرأ المسارات السابقة بألوان كاشفة.

أسرار البنية السردية

امتلكت البنية السردية في الروايات الثلاث مرونة تجعلها تتقبّل الإضافة لتعميق الرؤية أو لفتح آفاق في الأمكنة والأزمنة خاصة عندما تشكّل نسقاً بدلالات مركبة، وبالرغم من اهتمامها الأساسي بشخصيات العائلة: صيّاح وابنته حسيبة وزوجها حمدان الجوقدار وأخته خالدية اللذين تربطهما قرابة بصياح والابنة زينب، وفيّاض الشيزري وصديقه إياد الجوقدار والابن هشام الشيزري، فهي أفردت مساحات لشخصيات مجاورة صاحبتها وكان لها فاعلية في الأحداث: روجيه الضابط الفرنسي وزوجته ماتيلد اللذين تبنّيا فياض ووداد ابنة الجارة مريم ولينا المرأة التي أعادت هشام إلى الحياة! وعدد ممن عايشوا الزوايا والمنعطفات الفاصلة: أولجا وناديا وبهجت وسمير وصلاح وغسّان. وهي لا تسلك مسارات خطيّة في متواليات من البدء إلى النهاية أو استرجاعية تعود من نقطة النهاية إلى البدايات في كل جزء، وإنما نجد أنفسنا أمام أزمنة تتداخل في مدّ وجزر لحركة استرجاعية أو استباقية، فنجد الجزء الأول (حسيبة) ينتهي وقد غادر فياض إلى فلسطين 1948 واختفى في عزلة لسنوات، وبلغ ابنه هشام مدارج الصبا، ويبدأ الجزء الثاني (فياض) مع روجيه وماتيلد وفياض قبل سفره إلى باريس للدراسة الجامعية، ثم يسترجع اللقاء الأول والتبني وتستأنف التطورات مع التوازي التاريخي لأسامة بن منقذ والصليبيين، ويبدأ الجزء الثالث (هشام أو الدوران في الأمكنة) مع أوبة هشام من سنوات المغامرة إلى دمشق، ونعاود مساراته قبل الهجرة - الهاربة، ونستأنف ماجدّ من وقائع زمن يبرأ من أثقال الماضي.

ومما يزيد إمكان الالتحام أن رواية (فاطمة)تشترك في دلالات إشارات لغوية مع الثلاث السابقة عليها، وأولاها كانت العنوان الذي يتصدّره الاسم العلم (حسيبة وفياض وهشام ثم فاطمة)، وهذا لافت ضمن عدد ينتظم عشرة من المؤلفات،وعند تأمّل عنوان (فخّ الأسماء) ندرك حساسية الأسماء عند خيري الذهبي واستشعاره بسحريتها ورغبته في توظيفها أمام المتلقيّ، ويبدو لنا إيقاعها الإشاري فعائلة زوج فاطمة هي البندقدار فتتجاوب مع الجوقدار ووظيفته هي التحصلدار التي كانت مقرونة بزوج خالدية (حسيبة) واسم غسّان المشرف على الفيلم المقترح وصاحب مخطوط: لو لم يكن اسمها فاطمة، وفي قصره غرفة امتلأت بلوحات تمثّلها يتكرر لأنه كان في(هشام) شخصية فنان له منحوتات ملأت الجدران صوَّرَ فيها لينا، وهذا ليس بعيداً عن تقنية سردية في الرباعية أعني النزوع إلى التناظر والثنائيات والترميز فيها.

بؤرة الوعي والوحدات السردية

يضاف إلى تلك الإشارات اللغوية مجموعة من الوحدات السردية تدور في الروايات وتؤكّد أنها من بؤرة لها أدواتها التعبيرية الفارقة باختيارها وانعكاسها في مرايا دائرية تجعل المتلقي يشعر باحتدامها مفسّراً رسالتها، خاصّة عندما تتصاعد محمولاتها باتساع الدوائر الأكبر لوحدات السرد، أي يلتقي الموقف في زاوية الرؤية وأسلوبية التقنية.

الأولى هي المزاوجة بين الحاضر والماضي- التاريخ وانبثاق رموز من خلال التوازي، كان ذلك في تماهي فياض بالأمير أسامة بن منقذ وكلّ منهما خرج من قلعة شيزر، ومثّلا عبر أزمنة متباعدة التفاعل - المواجهة مع الغرب ورجاله وعسكره، وجاءت النسخة التالية في شخصية هشام الذي أعاد إلى الأسماع والعيون سيرة ابن عرب شاه الدمشقي والمعاصر لغزو تيمورلنك، وكانت حياته الموزّعة بين مدينته والهجرة وما تركه من تأريخ ينعكس على تجربة هشام المعاصرة، ومثّلت المدن الأثرية الميّتة تناظراً مع الواقع الذي احتوى الأحداث والناس في (فاطمة)، وبرز التوازي يضم لينا المرأة المنذورة لوعد احترق دونه رجال حتّى أتى صاحب الرصد هشام وتلك الإلهة الأسطورية عشتار، وقد تماهت فاطمة مع لينا في تعدد العيون حولها والتجارب التي لم تبلغ كمالاً في صورته حلماّ وماهيةً عليا، وكذلك في ارتباطها بأسطورة لكنها عصرية رفعتها السينما ووسائط الإعلام الحديثة إنها جريتا جاربو الفاتنة الهوليودية والمعبّرة بأدائها عن أسطورة كامنة تتفجّر بدور جان دارك المناضلة والقدّيسة بلباس المعركة! وفي هذه النقطة يكون خيري الذهبي قد بلغ مدىً بعيداً لتغدو فاطمة الرمز والأيقونة، وتغادر فرديتها! متماهية مع الشام.

ومن حالات التوازي اجتماع مشهدين في عين حسيبة الأول كان فيه وهي بجواره صيّاح المسدّي أمام باب حمدان الجوقدار والثاني وقف فيه فيّاض الشيزري ومعه إياد أمام الباب نفسه وسوف تتّابعُ الأيام لنرى مصير مناضلَيْن في أتون صراع المادة والأهواء على برزخ الحرية والاستلاب.

واستخدم الذهبي المخطوط في ثلاث روايات جزءاً من الحدث ولكنه كان إشارة رمزية لمفهوم الرسالة والقضية، فقد عكف فياض في المدرسة البادرائية زاهداً إلاّ من عمل واحد هو تدوين تجربته ورؤيته في عالم السياسة والوطن والنضال والنفوس وتركً المخطوط لابنه وللجيل القادم، لقد أخفق في التلاؤم والانتصار لكنه رأى كشفاً قد ينبلج به يوماً شعاع فجر! ونصادف المخطوط أمام لينا كتبه صلاح ساكباً تجربة للوصول إلى ملكوتها وهي التي تماهت مع عشتار الإلهة الأسطورة، وهنا نشعر بما يكنّه تداول المخطوط في رواية فاطمة بحالات السارد المتعددة والزوايا المختلفة، وكان القارئ هو الابن سلمان البندقدار، وهكذا مع اقتران رمزية المخطوط وإشاراته إلى الوطن والتصاعد الرمزي المشتبكة فيه لينا وعشتار وجريتا جاربو وتعدد العلاقات مع هذا تتجلّى أكثر فاطمة أيقونة الرباعية الشامية.

ثمة وحدة سردية هي تقنية دأب خيري الذهبي على استحضارها في الروايات أقصد الغرائبي والعجائبي معبّراً عن سمات نفسية لشخصياته وتفسيرها للواقع بحسب الموروث الشعبي، كما لدى حسيبة وحمدان وخالدية مع حكايات شيخ البحرة ومن معه من كائنات يحضرون ليسكنوا الأمكنة في الليالي لا يراهم أحد ويمنحون رضا أو غضباً وغنى أو حاجة تعذب الجوانح، وكما رأينا في صراع يختلط الواقعي بالوهم المتجسّد والمطارد لهشام ولينا في البيت القديم، لقد بحث ابن الشيزري والجوقدار عن الكنز المرصود لكنها أشباح الأجداد ظلت تزحم أطراف الدار حتّى ينتصر اليومُ يضفره هشام ولينا بسحر قاهر هو التجربة والمعاناة في الروح وعلى أرض الشارع وفي منحنيات الإدارات وفي مواجهة الحقيقة الجارحة تسيل ألماً شافياً!!، واستمد الذهبي غرائبية قديمة جديدة في رواية فاطمة عندما كانت تتجلّى رؤى ساتيريكونية في عيني سلمان البندقدار، وهنا تتركّب المشاهد الكابوسية من طيّات الثقافة الأوربية الرومانية والتفسّخ الذي حلّ بها ومنجزات السينما العالمية وهي تكشف عصرنا المهدّد، ويأتي العنصر الثالث وهو من يملأ هذه المشاهد من روّاد الولائم النهمين الذين لا يتوقفون عن اجتياح كل ما أمامهم في أيام يعيشها سلمان، وإننا بهذا الكسر للواقع نجد متسعاً لخرق ما تراكم وشدّت أوتاده في عمق بعيد!

الدوائر ودلالات روائية

إنّ خيري الذهبي قدّم سرده الروائي بقدر كبير من الحمل المعرفي وبأدوات لغوية تذهب وراء التفاصيل والتعبير عن ملامح في الزوايا وتحت الشقوق، مثلما يتتبع المادة التاريخية في إطارها، فيعيدها معيشة تتوازى والحدث المعاصر أو الأقرب إلى أيّامنا.

قرّر خوض جولات عبر الفكر والفن والأدب يمدّ يده في تماهٍ مع الوطن وناسه بكل الألوان حتّى بلغ قاع الغربة، وتخيّل أنه يكوّن هشاماً آخر يحمل وجهاً أوربياً ولا يبقي شيئاً من هوّيته القديمة!

تبدو الصورة قاتمة تكاد تغلق الأبواب دون انفراج خاصّة عند تأمّل الطرف الآخر وما ينعم به كثيرون في مواقع عديدة، وهذا ما دعا الذهبي إلى إطلاق جولة يعود فيها هشام إلى دمشق وكما ارتبط السندباد بالخصب بعد رحلاته السبع فكوّن الأسرة وأرسل كلماته- التجربة إلى من حوله كذلك وجد العائد إلى داره في حيّ القنوات المرأةَ: لينا المتلبسة برمز عشتار، وقد صاغ خيري الذهبي العلاقة في إطار طقوسي يشعّ هالة نشعر بها بل نتحسس على البعد لفحها، فبعد اللقاء اختفى سنة في الدار الكبيرة لا يرى أحداً ولا يصل إليه طارق! ثمّ تناديه لينا- عشتار في ضميرها، فتراه قادماً.. إنها الولادة الجديدة والرؤية تعلو فتستشرف ويمتد الطريق، وهنا يظهر الدور المعمّق في رواية (فاطمة) فهذه المرأة - الرمز فاطمة مرآة نرى من خلالها كيف تلقت وعانت في مسار حياتها من ركني البندقدار وهو تحصلدار ثم مدير المال ومستثمر المراعي في البادية، إنه صورة لدوران في فلك بعيد يضعف أثره فلا يكاد يرى في حياتها الحقيقية المقاومة والابتكار، وكذلك أولئك الذين تحرّكوا في مؤسسات تحت مظلة المحتل الفرنسي، ثم آخرون في ألوان متداخلة في سنوات الاستقلال منهم معاوية، وأما علاقتها بالثوري فهي صلة التوحّد والتماهي لأنها صاحبة العصيان على الوجود الأجنبي وقد تسامعت الصحافة العربية والأجنبية به وكانت بدءاً له ما بعده لو لم تطفأ الشرارة، وإثرها يبعدون ليكونوا جيران المدن الميتة القصيّة.

الدائرة الأخرى الأكثر اتساعاً جاءت عرضاً لجوانب العلاقة بالآخر الغربي خاصة، وهي مركّبة فقد كان الأوربي مستعمراً بالقوة تزدوج لديه الرغبة في السيطرة والاستغلال وادعاءات نشر الحضارة الحديثة في الشام كما في مصر والأرجاء العربية، ورأينا مع فياض تجربة ملتبسة فقد تبنّاه روجيه وماتيلد تعويضاً عن العقم فيهما. وأراداه أن يكون فرنسياً بالرعاية والتعليم،لكنه عاد إلى دمشق ثورياً وتخلّى عن تلك السنوات معهما. فهل مردّ الإخفاق إلى روجيه الذي يؤمن بأنه حقّق ما لم يستطعه جدّه الأعلى غليام لوبلان في الحروب الصليبية؟ أم لأنه التقط الصبي من قلعة شيزر التي دمّر القرى من حولها وخضّبت دماؤها يديه؟ هل كانت لمحة إنسانية؟ أم استيلاء آخر على الإنسان في هذه الأرض؟ إن إخفاق التجربة الأخرى مع هشام يكمل الرؤية حول التفاعل الحضاري وشروط إنتاجه، فقد ظنّ هشام أنه يفتح صفحة بيضاء يرسم فيها حضوره الأوربي بعد صدمات مؤلمة خلّفته مهاجراً في ألمانيا، لكن إنجازاته الأدبية ودلالة تكوين الأسرة تبدّدت عندما اصطدمت ثقافته الكامنة التي حملها مع اليومي والأخلاقي فماتت ابنته ناديا خطأ على يده عندما رآها تصطحب شاباً إلى غرفتها، ولحقت بها أولجا زوجته، وهنا تبرز علاقة فاطمة بأوغستان قائد الفرقة الفرنسية الأجنبية ذي الأصل الإسباني الذي علّمها الرسم وفتح أمامها الثقافة، وتنقطع الصلة،بعد حادثة سقوطه عن فرس جامح تركه حطاماً، ولعل التناقض بين شراسة هذا القائد وولوغه الدموي وما أراده من تفتّح الفن في علاقة بامرأة من الشرق هو الذي أسقط المحاولة، ونشير إلى الخلفية التاريخية لعلاقة الشرق العربي بالغرب التي انتشرت في الروايات الثلاث في الحملات الصليبية والتتار، وكان النظير في فاطمة هو الوقوف عند المدن الميتة والحقبة الهلنستية في المشرق ودلالاتها.

وتبقى إشارة إلى الفن الذي وجد مساحة واسعة في الروايات الأربع، وهي دالة على الدور الحضاري له مع الأدب المقترن بعدد من الشخصيات التي كانت متناظرة ومتسلسلة.

 

 

فايز الداية 





خيري الذهبي