استفتاء الصحراء المغربية المشهد الأخير من أسطورة الحقائق الواضحة أبوالمعاطي أبوالنجا
هي قصة واحدة، لكن تنوع أبطالها وتعدد رواتها جعلا منها أحيانا لغزا أو أسطورة، وهي قصة بسيطة واضحة مثل الصحراء، لكن الرياح العاصفة التي هبت عليها من حدود قريبة وبعيدة، لفتها بألسنة الغبار حينا وبألسنة النار أحياناً، وكادت تخفي حقيقتها الواضحة. وفجأة تسكن الرياح من حولها لأسباب كثيرة، فتلوح الحقيقة من جديد في انتظار من يراها ومن ينطق بها، فهل يكون الاستفتاء الذي تنظمه الأمم المتحدة في الصحراء المغربية الشاهد على هذه الحقيقة والناطق بها؟.
في الوقت القصير الذي أتيح لنا في مدينة الرباط العاصمة السياسية للمغرب، فوجئنا بأن قضية الصحراء التي نستعد للسفر إليها في الجنوب تستقبلنا في الرباط، فلا تكاد تخلو صحيفة يومية من أي اتجاه، من حديث عن الاستفتاء المنتظر أو خبر يدور حوله، أو تصريح لمسئول في حزب أو في الحكومة عنه، حتى الناس الذين تحدثنا إليهم في الأسواق أو جلسنا معهم في المقاهي - التي لا يكاد يخلو منها شارع - كانوا يتحولون إلى شهود عيان في قضية يعتبرها كل واحد قضيته الشخصية. العائدون من معسكرات "تندوف" حيث توجد الكتلة الرئيسية من "البوليزاريو" يعقدون المؤتمرات الصحفية، ويدلون أيضًا بشهاداتهم للناس ويردون على أسئلة الصحفيين العرب والأجانب، ويتصادف في هذا الوقت القصير أن تأتي مناسبة مرور أربعين يومًا على وفاة المناضل المغربي "عبد الرحيم بوعبيد" ويلتقي في المناسبة بعض من رفاقه في الكفاح السياسي وتلاميذه، ومن خلال أحاديثهم عن دوره في حركة تحرير المغرب تتجلى صور من قضية الصحراء وكيف تأثرت بخصوصية هذه الحركة، وحين نزور ضريح الملك محمد الخامس، وهو تحفة معمارية نادرة، يشرح لنا حارس الضريح كيف شارك فنانون وصناع من فاس ومراكش وأكادير، بل ومن معظم بلاد المملكة في بناء هذا الضريح، وكيف أصبح الملك في موته كما كان في حياته رمزاً يلتف حوله الشعب المغربي من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب في الصحراء المغربية.
وشيئًا فشيئًا تتكشف لنا جوانب من الحقيقة التي ندرك دائما أنها نسبية وأنها تمنح الباحث عنها بقدر ما يمنحها من النزاهة والصدق والرغبة في المعرفة.
وكان علينا قبل أن نتجه إلى الصحراء المغربية في جنوب المملكة أن نعيد صياغة الأسئلة التي كانت لدينا في ضوء ما تكشف لنا من معلومات وانطباعات ومشاهد في الرباط العاصمة.
خصوصية الاستعمار وخصوصية المقاومة
للمغرب مع الاستعمار تجربة مختلفة، ففي المشرق كانت إنجلترا وحدها مثلا تحتل أكثر من دولة عربية في وقت واحد، وكذلك كانت فرنسا، أما المغرب فقد وجد نفسه في سنة 1912 يقع تحت سيطرة إسبانيا وفرنسا معًا، ويوقع معهما مرغما عقد الحماية، أكثر من ذلك كانت "طنجة" تعتبر منطقة دولية، تخضع لعدة دول، ومن المضحكات المبكيات أنه بعد تقاسم الإسبان والفرنسيين المغرب، كان الإسبان يقولون: إن فرنسا أخذت من المغرب الشحم. واللحم وتركت لنا العظام، فقد كان من نصيب إسبانيا جبال الريف في الشمال، والصحراء القاحلة في الجنوب، في حين احتلت فرنسا ما كان يسمى بالمغرب النافع وهي الأراضي التي تقع بين جبال الأطلس والسهول الخصبة الممتدة إلى المحيط. واستمر هذا الوضع حتى عام 1956 حين وقع المغرب مع فرنسا أولاً في شهر مارس من ذلك العام، ثم مع إسبانيا في شهر أبريل من العام نفسه اتفاقية لإلغاء معاهدة الحماية التي سبق توقيعها في سنة 1912، ولكي نعرف ماذا يعني خضوع المغرب لاستعمار دولتين لمدة تقترب من نصف قرن علينا أن نلقي بنظرة طائر على الخطوط العريضة لمجمل الأوضاع في الدولتين في هذه الفترة الزمنية، كانت إسبانيا في بداية تلك الفترة تنسحب من إمبراطوريتها الاستعمارية في أمريكا اللاتينية غربًا والفلبين شرقًا، ثم شهدت سقوط النظام الملكي فيها وإعلان الجمهورية، ثم فترة اضطراب كبيرة، وحروب أهلية، نجح "فرانكو" في نهايتها في أن يعود إلى إسبانيا، انطلاقًا من المغرب الذي كان وجوده فيه من قبل من أجل إخماد ثورة "عبد الكريم الخطابي" في الريف، ثم بقي في المغرب إلى أن جاءت الفرصة للوثوب إلى الشاطئ الآخر في إسبانيا، ودخل في مواجهات دامية مع النظام الجمهوري استمرت أربع سنوات حتى استقر له الأمر في إسبانيا والحرب العالمية الثانية على الأبواب. على الجانب الآخر كانت فرنسا قد استقرت منذ قرابة نصف قرن في الجزائر وكانت تطمح - وتملك في الوقت ذاته إمكانات هذا الطموح - إلى بسط هيمنتها على الشمال الإفريقي كله لتجعل منه الفناء الخلفي لفرنسا في إفريقيا، كانت المرحلة مرحلة المد الاستعماري للدول الأوربية القوية: إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، التي تسعى إلى أن ترث الإمبراطوريات الآفلة مثل إسبانيا.
وفي هذا الإطار بكل معطياته، ولدت ونمت وتطورت حركة المقاومة المغربية لهذا الاستعمار، وكان من الطبيعي أن تتجزأ هذه الحركة، بتجزؤ الوطن المحتل، وأن يتخذ كل جزء منها من أساليب المقاومة ما يتناسب مع ظروف الاستعمار في هذا الجزء، وأن يعرف العديد من حالات المد والجزر، والاتفاق والاختلاف، ويمكن القول بشكل عام - دون الوقوع في خطيئة التعميم - إن الخطة الاستراتيجية للمقاومة كانت تركز على أن تحارب فرنسا بقوة، وتهادن إسبانيا نوعًا، وشجعت على تبنى هذه الاستراتيجية الآمال التي لاحت لبعض الوقت في أن يكون للجمهوريين في إسبانيا إبان وجودهم في السلطة موقف مختلف مع المغرب، ثم الوعود التي كان يبذلها "فرانكو" للمغاربة أيام أن كان موجودًا في المغرب يتحين الفرصة لاسترداد السلطة في إسبانيا، والواقع فإن من أهم الدروس الثمينة التي تعلمتها حركة المقاومة الوطنية في المغرب عدم الثقة في المستعمر أيا كانت الشعارات التي يرفعها، فقد كان نصيبهم الخذلان أولا من الاشتراكيين في فرنسا، ثم الجمهوريين في إسبانيا، ثم من فرانكو نفسه الذي كان يستعين في جيوشه الزاحفة إلى إسبانيا ببعض الجنود والضباط المغاربة، وبشكل عام فإنه يمكن الخروج من كل تلك التجربة بالملاحظات التالية:
ملاحظات ووقائع أساسية لها معنى
بالرغم من التجزئة التي فرضت على حركة المقاومة الوطنية، وربما بسببها، كانت تحرص هذه الحركة دائمًا على الالتفاف حول رموز وحدتها وعلى التأكيد على معاني هذه الوحدة، خاصة وحدة التراب المغربي، ولقد برز هذا الالتفاف في أحداث وطنية كبيرة مثل حادث نفي الملك محمد الخامس 20 أغسطس سنة 1953، ومع أن الملك كان موجودًا حين وقع الحادث في الجزء الذي تحتله فرنسا، فقد انفجرت الثورة في كل أجزاء المغرب، وتكتل الشعب كله حول حزب الاستقلال، وقام الشيخ محمد الأخضف والقواد من بقية القبائل في الصحراء المغربية التي تخضع للحكم الإسباني بالامتناع عن دفع الضريبة للسلطات الإسبانية، وبالامتناع عن تسلم أوراق التعريف والحالة المدنية إلا إذا كانت ممهورة بخاتم محمد الخامس كوسيلة للضغط لإنهاء نفي الملك المناضل.
* قبل نفي الملك محمد الخامس وبالتحديد في سنة 1938 قدم حزب الإصلاح الوطني الموجود تحت ظل الاحتلال الإسباني مذكرة لهذه السلطات بالتزامن مع مذكرة تقدمت بها الحركة الوطنية (حزب الاستقلال) في الجنوب للسلطات الفرنسية، وقد جاء في مذكرة حزب الإصلاح "إننا مغاربة مسلمون، لغتنا الرسمية هي العربية، وإن المغرب بسائر مناطقه وحدة لا تتجزأ، وبصفتنا نمثل الكتلة الوطنية في الشمال، وحزب الإصلاح الوطني كلما دافعنا عن وحدة المغرب، أردنا أن يكون عملنا موحدًا ومشتركا مع كتلة العمل الوطني في الجنوب، لذلك اطلعنا على مطالب الشعب قبل تقديمها لجلالة السلطان وللحكومة الفرنسية، وأيدناها لأننا نريد أن يكون عملنا موحدًا في جميع جهات المغرب.
*جميع الأحزاب السياسية في المغرب في فترة الكفاح من أجل الاستقلال مدت جذورها إلى الصحراء المغربية، وفي هذا الإطار فإن "علال الفاسي" رئيس حزب الاستقلال قد أسس صحيفة خاصة اسمها "صحراء المغرب" كما أكد في العديد من كتبه تصوره الخاص لوحدة التراب المغربي حيث يقول: "منذ نشأن وأنا أومن بأن وطني يحد جنوبا بالسنغال، وشرقا بالجزائر وغربا بالمحيط الأطلسي، وشمالاً بالبحر الأبيض المتوسط، وأن "الساقية الحمراء ووادي الذهب"، و "سبته ومليلة"، كل ذلك أجزاء اقتطعها لاستعمار من بلادنا بالأسلوب نفسه الذي جزأ به طنجة وطرفاية، وآيت باعمران، وإيفني، وأن هذا العمل الاستعماري لا يغير شيئا من حقيقة الواقع المغربي، أي لا يجعل هذه الأماكن غير مغربية وسكانها غير مغاربة، آمنت بهذا لا عن دليل بحثت عنه، واقتنعت به، ولكن بالشعور نفسه الذي يجعل المرء يؤمن بأبيه وأمه، وفصيلته التي تؤويه، ومدينته التي ولد فيها".
* كانت واقعة نفى الملك محمد الخامس في عام 1953 تمثل من ناحية ذروة البطش الاستعماري، ومن ناحية أخرى كانت إيذانا بتطور جديد في حركة المقاومة المغربية، حيث تصاعدت وتيرة الكفاح المسلح متمثلة في جيش التحرير المغربي الذي ضم عناصر من كل مناطق المغرب ، وبرزت في هذا الكفاح وحدة التراب المغربي، وأدى هذا التصاعد إلى عودة الملك محمد الخامس من منفاه، وإلغاء عقد الحماية في سنة 1956.
*خلال عام 1957 نجح جيش التحرير المغربي في تحرير مناطق كثيرة في الجنوب الصحراوي مثل السمارة وطرفاية وطان طان وطرفة بوجدور، وانسحبت القوات إلى داخل مدينة إيفني.
* في عام 1958 كانت فرنسا بعد هزيمة السويس من ناحية، وانفجار الثورة الجزائرية بقوة متنامية من ناحية أخرى، والخوف الأعظم من أن يتلاحم جيش التحرير المغربي مع جيش التحرير الجزائري، في حاجة إلى عمل حاسم ليرفع هيبتها، وليسمح لها بتكريس جهدها في جبهة الجزائر الجديدة المتفجرة، فنسقت مع أسبانيا في عملية عسكرية شهيرة أطلق عليها اسم "ايكوفيون" ونجحت من خلالها في تشتيت وضرب قوة جيش التحرير المغربي، وأسفرت هذه المعركة عن وضع جديد يمثل نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، ففي الوقت الذي أعيد فيه إقليم "طرفاية" إلى المغرب تم إعلان "الساقية الحمراء ووادي الذهب" (الصحراء المغربية) الإقليم 51 في إمبراطورية فرانكو.
حصاد مرحلة
يمكن القول بأن هذه المرحلة التي امتدت إلى قرابة نصف قرن قد أنجبت - بما فيها من خصوصية في تجربة الاستعمار وخصوصية في تجربة المقاومة - دولة مستقلة استقلالا وليدا، بقيت أجزاء منها مقتطعة بالقوة الغاشمة هي في الشمال "سبتة ومليلة"، وفي الجنوب "إيفني" والصحراء المغربية، ولم يعد أمامها بعد تدمير جيش التحرير المغربي إلا اللجوء إلى الوسائل الدبلوماسية لاسترداد الأجزاء السلبية، والاستفادة من قوة التوجه العالمي الذي برز بعد الحرب العالمية الثانية في إطار الأمم المتحدة لتصفية الاستعمار، والاستفادة من الاعتراف المسبق المنصوص عليه في اتفاقية إلغاء الحماية مع إسبانيا بضرورة المحافظة على وحدة التراب المغربي، وقد نجحت هذه الدولة في استرداد إقليم "إيفني" في سنة 1969 من خلال الجهود الدبلوماسية، وهنا يجيء السؤال المهم: لماذا بقيت مشكلة الصحراء المغربية لأكثر من ثلاثين عاما جديدة تنتظر الحل؟ ولماذا أصبح هناك سؤال مطروح حول مغربية الصحراء، مع أنها شاركت لنصف قرن مع المغرب في تحمل تبعات الاستعمار وتبعات المقاومة؟
متغيرات في الستينيات
كانت المسيرة الخضراء التي استردت بها المملكة المغربية صحراءها المغربية عام 1975 هي أول خطوة سلمية عملية كبيرة تقوم بها المملكة من أجل تحقيق وحدة التراب المغربي منذ حصول المغرب على استقلاله سنة 1956، وقد قامت المملكة بهذه الخطوة استنادًا إلى الوقائع التاريخية والقانونية التي بينتها محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري (قدمت مجلة "العربي" استطلاعًا مصورًا، عن وقائع هذه المسيرة في العدد رقم 207 بتاريخ 1/ 1/ 1976) والذي تقرر فيه أن الصحراء لم تكن أرضًا بلا صاحب حين احتلتها إسبانيا وأنه كانت هناك روابط ولاء وبيعة بين القبائل التي تسكنها والسلطان في المغرب.
وكان من المفروض أن تكون المسيرة الخضراء نهاية لمشكلة الصحراء المغربية، فما الذي جعل هذه النهاية تبقى معلقة في انتظار استفتاء تجريه الأمم المتحدة، يقرر فيه الصحراويون ما إذا كانوا يريدون الاستقلال أم الارتباط بالمغرب؟
هنا يبرز دور المتغيرات التي حدثت في عقد الستينيات ومنتصف السبعينيات سواء في الإطار العربي أو الإفريقي أو العالمي:
- كانت الحرب الباردة التي طبعت علاقة المعسكرين الشرقي والغربي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في تزايد مستمر بلغ أوجه في الستينيات، وانعكس على الدول حديثة الاستقلال.
- كانت الجزائر قد حصلت على استقلالها عن فرنسا في عام 1962، ثم حدث اشتباك مسلح بين المغرب والجزائر في عام 1963 بسبب الخلاف على ترسيم الحدود بين الدولتين، وجدير بالذكر أن فرنسا كانت قد حاولت أن تجري اتفاقًا مع المغرب على هذه الحدود في أثناء احتلالها للجزائر، ولكن المغرب رفض أن يتم الاتفاق النهائي على الحدود في غيبة أصحاب الحق وأصحاب الأرض، ولأن فرنسا من ناحية أخرى كانت قد اقتطعت أجزاء من المغرب (إقليم تندوف) وضمتها للجزائر في وقت كانت ترى فيه أن الجزائر ستبقى دائما قطعة من فرنسا، ولأن الأجزاء التي اقتطعتها كانت غنية بالمعادن الإستراتيجية ومن أهمها الحديد.
- كان العديد من الأقطار العربية والإفريقية التي حصلت على استقلالها حديثا تمر بمرحلة البحث عن الذات والهوية، وعن أسلوب تراه مناسبا لتحقيق التنمية، ولدور إقليمي أو دولي، مما جعل العديد من هذه الدول يتأثر سلبا أو إيجابا بتيارات الحرب الباردة، ويفتح الباب لصراعات أيديولوجية.
- كانت التنبؤات التي أطلقها "ألبرتو أرتاخو" وزير خارجية إسبانيا في عام 1958 في بحث تحت عنوان (الصحراء سوق المستقبل) وتحدث فيه عن وجود مخزون هائل من الثروات المعدنية (مليارا طن من الفوسفات) تحت رمال الصحراء المغربية، هذه التنبؤات كانت قد بدأت تتحقق بشائرها في الستينيات بظهور الفوسفات في بوكراع بما يعنيه ذلك من إثارة وتجديد للمطامع.
- من أهم المتغيرات أنه كان هناك جيل جديد من الشباب ينشأ في الصحراء المغربية في تلك الفترة، يتنفس كل هذه المتغيرات، ويتأثر بها، وسط مناخ من العزلة عن المغرب كانت تؤكده إسبانيا، بينما كان الموقف في الماضي مختلفًا ركم وجود الاستعمار في المرحلتين، حيث كانت المشاركة قائمة بين الشمال والجنوب في تحمل تبعات الاستعمار وتبعات المقاومة.
ماذا يقول العائدون من البوليزاريو؟
- ماء العينين مربيه ربه مدير إذاعة البوليزاريو:
"كنت في الرابعة والعشرين من عمري حين انضممت إلى البوليزاريو سنة 1975، أنا مثل بقية الزملاء: أغلبنا درس في المغرب، مع أني ولدت في مدينة "الداخلة" في الصحراء، أغلبية آبائنا كانوا في جيش التحرير المغربي الذين حملوا السلاح في وجه الاستعمار الفرنسي والإسباني سنوات 56، 57، 58، بعد موقعة "أفيكون" هاجر بعضهم إلى الشمال.
"البيان الأول للبوليزاريو أخذ نمط الثورة الاشتراكية الجزائرية كمثال يقتدى به في مرحلة انتقالية، في البداية كانت هناك مظاهرات في "طان طان" سنة 1972 تطالب بالسلاح لتحرير الصحراء، هذه المظاهرات لم يكتب لها النجاح، ربما حدث ما جعل سلطات طان طان تمنع أو تقمع هذه المظاهرات، فتجمع هؤلاء الشباب مع مجموعات أخرى من الشباب الموريتاني المهمش في تندوف وبشار. ومن هذه التجمعات بدأت البوليزاريو بقيادة الولي مصطفي السعيد.
"المشاكل المغربية الكثيفة بعد الاستقلال مثل الافتقار إلى الأطر القادرة على تسيير الدولة والمجتمع، حالت دون استمرار الدولة في الإصرار على العمل بكل الوسائل لاسترداد بقية أجزاء الأرض المحتلة مثل إقليم إيفني والصحراء المغربية، لكن الشباب لم يصبر واستغلت الجزائر حماس الشباب لخلق فكرة الانفصال لأسباب كثيرة تتعلق بسياستها هي.
"جميع قبائل الصحراء المغربية تنحدر من أصولها في المغرب، وإثبات مغربية أهل الصحراء، قد يبدو مضحكا مثلما أقول لك تماما: أثبت أن بدو سيناء مصريون، ومع ذلك فدعني أذكر لك أن الشيخ محمد المأمون وهو من الصحراء المغربية شارك مع عبد الكريم الخطابي ومعه مئات من رجال الصحراء في حربه ضد الإسبان في الريف المغربي في الشمال وفي معركة أنوال المشهورة. المحاكم في الصحراء كانت في أثناء الاستعمار الإسباني تابعة لمحاكم تطوان، الظهائر التي كان شيوخ القبائل يحكمون بواسطتها من سلاطين المغرب لا تزال في حوزة هؤلاء الشيوخ.
"الوضع الآن في مخيمات البوليزاريو في تندوف سيئ، وتؤكد هذا أفواج النازحين، رغم صعوبة النزوح الشديدة، فالمخيمات محاصرة والتنقل من مخيم لآخر يحتاج لرخصة. العائلة لا تجتمع في مكان واحد، الأب في مخيم والابن في آخر والأم في ثالث، والمشاكل هناك كثيرة، بعضها يتعلق بالتغذية والآخر يتعلق بالصحة والعلاج، والمشكلة الأخطر تتعلق بالتلاميذ الذين جمعوهم من حيث كانوا يتابعون دراستهم في الجزائر وفي ليبيا وفي كوبا بحجة أن الاستفتاء سيكون في بداية هذا العام، ولكن الاستفتاء تأخر، أصبح عليهم أن يفكروا في إعداد برامج لشغل هؤلاء التلاميذ، كما أن انقطاع المعونات والمواد الغذائية التي كانت تأتي من الخارج سيؤدي إلى تفاقم هذه المشاكل.
- مصطفى البوه الملقب بالبرزاني عضو المكتب السياسي للجانب الأيديولوجي
"التحقت بالبوليزاريو في بداية عام 1973 وكان عمري 18 سنة، أسرتي كانت تقيم فيما بين شمال موريتانيا وجنوب الصحراء، العائلة من البدو الرحل، لم تكن الحدود تشكل عائقًا كبيرًا في التنقل، فحيث ينزل المطر يكون موطنك، دون حاجة إلى أوراق تثبت شيئًا، كنت من أول مجموعة التحقت وتدربت في الأراضي الجزائرية في منطقة اسمها "جنين بورزق" نواحي بشار، تخرجت محافظًا سياسيًا في أول وحدة عسكرية أنشأها البوليزاريو؟ وكان يقودها الرئيس الحالي للبوليزايو محمد عبد العزيز، وتدرجت في ناصب عديدة حتى وصلت إلى منصبي الأخير عضوا في المكتب السياسي.
"البوليزاريو كما هو معروف حركة ولدت في ظرف معين من التاريخ في أوائل السبعينيات، معظم من التحقوا بها كانوا في سن الشباب، وكانوا متأثرين بالأفكار اليسارية، خاصة الأفكار تلك التي كانت سائدة في فرنسا 1968، وفي هذا الوقت كان اليسار هو الموضة السياسية، وكان سائدا الحديث عن جيفارا كمثل أعلى.
"الولي مصطفي السعيد الرئيس الأول للبوليزاريو كانت عنده خلفية إسلامية، وتعلم في جامعة الرباط، واختلط بعناصر من اليسار المغربي، أستاذه كان "البارودي" وهو أستاذ مشهور من سوريا، بعض أساتذة الولي لا يزالون أعضاء في البرلمان المغربي، وبعضهم الآخر كان لهم نشاط سياسي في الجنوب المغربي.
في البدايات الأولى كانت الفكرة الأساسية مقاومة الاستعمار الإسباني، ولم يكن هناك تفكير في الانفصال، وربما لو اختلفت الظروف لكانت البوليزاريو مجرد امتداد للنشاط اليساري في المغرب، لكن الذي حدث هو أن قوى متعددة وجدت كل واحدة منها في هذه الحركة ما يمكن أن يحقق مصالحها، إسبانيا نفسها كانت تحاول أن تسيطر على الحركة وتخضعها من خلال الحزب الشيوعي الإسباني، وكانت قد حاولت من قبل من خلال إنشاء الحزب الوطني الصحراوي، كما كانت تعمل على تعميق القطيعة مع المغرب من خلال جهد إعلامي مكثف، ففي أثناء المسيرة الخضراء كانت تصور فيلما لا يظهر فيه سوى أقدام القادمين في المسيرة وتعلق عليه بأن المغاربة قادمون ليسحقوا الصحراويين بأقدامهم، الجزائر كانت - لأسباب كثيرة - من أنجح القوى في استقطاب حركة البوليزاريو، وكانت ليبيا تزيد عليها فتقول في مؤتمر عدم الانحياز إن الجزائر لا تقدم الدعم المناسب للبوليزاريو، فرنسا نفسها كانت لها مصلحة في وجود البوليزاريو، لأن أي فكر انفصالي سوف يوجد مشكلاً دائما يعوق النهوض.
"طبعًا .. هذا سؤال مهم، وكنا نناقشه كثيرا وطويلا، فمن ناحية كنا بدأنا نشعر بأن إنشاء دولة صغيرة الحجم لا تملك مقومات الدولة ستكون هدفا للمطامع، كما أن اعتبار الصحراء مبررا لخلق كيان خاص يمكن أن يؤدي مستقبلا إلى أن يفكر الصحراويون في الجزائر بالمنطق نفسه، وهذا ما كان يسعى إليه الاستعمار في الماضي من خلال ما كان يعرف بالظهير البربري لتقسيم دول شمال إفريقيا كلها إلى عرب في الشمال وبربر أو طوارق في الجنوب الصحراوي، ولكن هذا وضح لنا فيما بعد، فلم يكن من السهل أن ندرك في سنوات الشباب الباكر أن الجزائر نفسها لا تفكر في أنه من الممكن أن تكون هناك دولة صحراوية مستقلة استقلالا حقيقيًا، وربما كانت تفكر في مجرد دويلة تابعة أو في الأقل - وهذا هو الأرجح - في خلق مشكل دائم للمغرب، حتى لا يتطور إلى المطالبة بحقه التاريخي في تندوف وفي غيرها من الأقاليم الغنية بالبترول والمعادن والتي ضمتها فرنسا للجزائر أيام أن كانت تظن أنها ستبقى إلى الأبد جزءًا من فرنسا.
"هذا التفكير بدأ يظهر في بداية الثمانينيات، وبشكل عام يمكن القول بأنه ظهر تياران في قيادة البوليزاريو، تيار يجمع القادمين من الصحراء المغربية: سمارة والعيون والداخلة، وتيار يضم القادمين من موريتانيا وجنوبي الجزائر، التيار الأول يرى أن وجود دويلة صغيرة في عصر الكيانات الكبيرة، هو نوع من الانتحار السياسي، وأن المصلحة في دعم فكرة المغرب الكبير، وأن هذا يتحقق أولا من خلال الانضمام للمغرب الذي شهد تطورًا كبيرًا في الآونة الأخيرة، في النهاية وصلنا إلى الطلاق مع المجموعة الأخرى، فقد استقال عشرة أعضاء من المكتب السياسي الذي يضم 21 عضوًا واستقال معهم حوالي 50 من الأطر العاملة، مديرين جهويين ودبلوماسيين، ومديري شرطة، فنزل الجناح العسكري إلى المخيمات سنة 1988، وازدحمت السجون بالمعتقلين، وبدأ التشقق في القيادات، ماء العينين مربيه ربه عاد سنة 1989، ثم وصلت أنا أخيرًا من مالي، وكنت في رحلة مع محمد عبد العزيز، ومن هناك عدت إلى المغرب.
"لا. كانت المناقشات تتم داخل المكتب السياسي، كما يحدث في كل الأنظمة الشمولية، على طريقة النقد والنقد الذاتي.. إلخ.
"باستثناء الجزائر لم تعترف دولة عربية بالبوليزاريو، حتى ليبيا التي كانت تدعم البوليزاريو لم تعترف بالجمهورية الصحراوية، والذين اعترفوا بها من الدول الإفريقية إنما فعلوا ذلك تحت ضغط من الجزائر، ونشاط الدبلوماسية الجزائرية القوي".
- بن طالب الحسين: منسق إحصائيات
"التحقت بالبوليزاريو سنة 1975، كنت في الرابعة والعشرين من عمري، عملت وأنا طالب موظفا في الحكومة الاستعمارية، وأتممت دراستي الجامعية في برشلونة، وكلفت بمتابعة إحصائيات السكان في منطقة جنوب تندوف، وبقيت في هذا العمل حتى سنة 1988، وفي الوقت نفسه كنت أعمل كمنسق مع اللجنة الأممية المكلفة بمشروع الاستفتاء الخاص بالصحراء المغربية.
"كان لتجربة التحاقنا بالبوليزاريو وجهها الإيجابي ووجهها السلبي، فقبل التحاقنا بالبوليزاريو كنا واقعين تحت الضغط الإسباني، وكان الإسبان يصورون لنا المغرب في صورة عدو كاره لنا، نجحت هذه الصورة نوعا في ظل عملية تجهيل كاملة بتاريخ المغرب، فقد كنت في مراحل التعليم أدرس كل شيء عن إسبانيا، تاريخها وجغرافيتها وما فيها من أنهار وجبال، ولكني لا أكاد أعرف شيئا عن المغرب أو تاريخ الأقطار العربية، ولكن عندما التحقنا بالبوليزاريو بدأنا نقرأ التاريخ بأقلام عربية، وبدأنا ندرك من تلقاء أنفسنا أن علاقة الصحراء بالمغرب كانت دائما موصولة، وأن الاستعمار كان هو الذي يعمل على توهين هذه الصلة، وأن إقامة دويلة صغيرة غير قادرة على حماية ذاتها، ولا تملك مقومات الدولة سيجعلها تقع مرة أخرى فريسة للاستعمار الإسباني الذي يرى أن وجوده في الصحراء هو تأمين لوجوده في جزر كناريا المقابلة للصحراء في المحيط الأطلسي.
"صحيح أنني حفظت القرآن في طفولتي، ولكن أبي استشهد في حرب التحرير، فلم أجد من يحدثني عن تاريخ بلده، لا في البيت ولا في المدرسة.
"الخليط الموجود الآن في معسكرات "تندوف" حوالي 45 ألف نسمة، منهم حوالي 20 ألف نسمة نزحوا من العيون وسمارة والداخلة ومعظم هؤلاء أخذوا قسرا، أما الباقون فهم من شمال موريتانيا ومن جنوب الجزائر".
- صديق معنينو: مدير الإعلام بوزارة الإعلام
"من أهم أسباب تأجيل الاستفتاء أن الأمم المتحدة وضعت جدولا زمنيًا يبدأ في يوم محدد، وينتهي في يوم محدد، وبين اليومين مجموعة من الإجراءات والعمليات التي لابد أن تتم لكي يبدأ الاستفتاء في موعده، لكن الانطلاقة وقع فيها تأخير لأن الروتين الإداري لم يتصور أن العملية بهذه الضخامة، فمثلا كانت هناك لجنة خاصة لضبط الصحراويين الذين سيصوتون في الاستفتاء، هذه اللجنة تعتمد وفق قرارات الأمم المتحدة على شيئين: أولا، على قائمة إحصاء سنة 1974 التي أعدتها إسبانيا كمنطلق، وبعد ذلك تضيف إليهم كل الناس الذين لا يوجدون في اللائحة".
*على أساس أي معيار تتم الإضافة؟
"أولا: بالنسبة لإحصائية 1974 فإنها تضم أناسًا ماتوا وهؤلاء يجب حذفهم، وأناسًا كان عندهم 5 سنوات مثلاً والآن عندهم أكثر من عشرين سنة، وهؤلاء يجب أن يسجلوا، ثم هناك من هاجروا من الصحراء في أثناء موقعة "أفيكون" سنة 1958 مع أنهم صحراويون، وهؤلاء يجب أن يضافوا أيضا، لكن من يحدد شخصيات هؤلاء ويبرهن أنهم من الصحراء المغربية؟
شيوخ القبائل هم من يحكمون، ومن المفروض أن يأتي هؤلاء الشيوخ أمام لجنة من الأمم المتحدة ليقرروا أن صاحب هذا الاسم هو ابن فلان حقا لأن القبيلة هي نواة المجتمع الصحراوي.
وقد كان من المفروض أن تتكون هذه اللجنة قبل 16 أسبوعًا من موعد 6 سبتمبر 1991 إلا أن هذه اللجنة لم تجتمع حتى الآن.
وهكذا بالنسبة للجان أخري ومهام أخرى....
"العيون" عاصمة الصحراء
من نافذة الطائرة المروحية الصغيرة التي قطعت بنا ما يزيد على ألف كيلو متر من مطار الدار البيضاء كانت تلوح لنا مدينة "العيون" مثل كل المدن الصحراوية، صغيرة حين تراها من علو كبير، كبيرة حين تدنو منها .. فهي تمتد بحريتها في كل اتجاه، بناياتها لا تتجاوز كثيرًا ثلاثة أو أربعة طوابق، ولماذا الهروب إلى فوق ما دامت أرض الله واسعة، وشوارعها الفسيحة تقسمها إلى مجموعات من الأحياء يكاد كل واحد منها يتميز بطراز معماري خاص، بيوت ذات قباب وأخرى ذات أسقف مثلثة، وأخيرة ذات أسطح عادية. في المطار قال لنا مستقبلنا "اليدالي محمد" وهو شاب حول الثلاثين ذكرتني ملامحه الصحراوية وطريقته في اللقاء والتحية بأحد أقاربي في ريف من مصر الذي لم أره منذ سنين، قبل أن أقول له شيئًا مما في نفسي، قال لنا: قبل أن نذهب إلى الفندق سنمر على بيت ممثل جلالة الملك في الإقليم للتحية والسلام السيد/ صالح زمراك، ومع أنني ورفيقي المصور كنا في غاية الإرهاق لأسباب كثيرة، فقد مضيت مع مستقبلنا في سيارة نصف باص كانت معه، وفي بيت فسيح ظليل عل الطراز العربي، تقدم إلينا شيخ مهيب جليل، شعره الأشيب لا يزال كثيفًا متهدلاً على جانبي رأسه، حيانا تحية عربية، ولم ندرك سر الورقة التي كانت في يده اليسرى إلا بعد أن بسطها على صينية أمامنا كانت تحمل بعض الحلوى، كانت الورقة تحتوي على خريطة كبيرة كاملة للمملكة المغربية تظهر عليها بوضوح الجبال والأنهار والمدن والطرق، وراح الرجل بحماس رسولي يروي لنا قصة الاستعمار الأوربي للمغرب من بداية القرن حتى نهايته، كان الرجل نفسه جزءًا من القصة التي يرويها، المعارك التي خاضها، المفاوضات التي شارك فيها، المواقف والمواقع والوثائق التي تثبت مغربية الصحراء منذ أن نبي الأدارسة دولتهم فوق هذه الأرض، ومنذ أن حمل شيوخ القبائل في الصحراء ظهائر الملوك العلويين، ووجدتني أستمع إلى الرجل لا لكي أعرف القصة، بل لكي أعيشها. حين انتهى من حديثه لم أكن أدرك كم مضى من الوقت، كنت قد نسيت التعب والوقت، وربما أكون قد نسيت أجزاء من حديث الرجل نفسه، ولكن الذي لا أشك فيه هو أنني لن أنسى هذا الرجل أبدا في حياتي كلها.
16 سنة تنمية
"اليدالي محمد" كان كريما معنا جدا، قال لنا بعد أن تناولنا الغداء في الفندق: "يمكنكم أن تستريحوا نصف ساعة لنبدأ جولتنا بزيارة مصنع "تنقية الفوسفات" والميناء التجاري الجديد قبل الغروب، فهما متقاربان، ويبعدان عن هنا حوالى 25 كيلو مترا".
"كان قد قدم لي على الغداء ورقة فيها برنامج مقترح منه لزيارة كل ما يهم في مدينة العيون، وقال بلطف: يمكنكم أن تعدلوا فيه بالزيادة أو الحذف كما ترون".
ولم أجد ما يمكن أن أعترض عليه، فالبرنامج كان شاملا يتلاقى مع ما قرأته عن خطة تنمية شاملة للصحراء المغربية بدأت مع المسيرة الخضراء سنة 1975 تركز على المدن الثلاث الكبرى "العيون" و "سمارة" و "الداخلة" ثم تتسلل إلى بقية البلاد الصغيرة وفق خطة شاملة تهدف من ناحية إلى توطين البدو، وجعل الأهالي عنصرًا فاعلاً في خطة التنمية، فلا يتوقف الأمر على مجرد تقديم الخدمات الحكومية في التعليم أو الصحة أو الثقافة أو الرياضة أو تنمية المهن التي تلبي احتياجات البيئة، أو توفير البنية الأساسية في مجالات مد الطرق وتوفير المياه والطاقة، والإسكان، بل كانت البداية الحقيقية هي اشتراك الأهالي في اتخاذ القرارات التي تعنيهم على مستوى الوطن أو على مستوى الأقاليم الصحراوية من خلال مشاركتهم كأعضاء منتخبين في البرلمان أو في المجلس الملكي الاستشاري للأقاليم الصحراوية، ويقول جلالة الملك عن هذا المجلس الأخير: " لقد أوجدنا هذا "الميكانيزم" المرن ليمكننا من سرعة الإنجاز في الأعمال غير البرلمانية" ويتكون هذا المجلس من ممثلي الجمعيات النسوية والاجتماعية والثقافية.
وكانوا قد قالوا لنا في الرباط: "عندما تذهبون إلى العيون، اسألوا عن مدينة العيون القديمة التي كانت موجودة أيام الإسبان، وبعد أن تروها، فكل شيء آخر هو ما تم إنجازه بعد المسيرة الخضراء.
وعندما سألت "اليدالي محمد" ونحن في الطريق إلى مصنع الفوسفات عن العيون القديمة قال لي: لم يبق منها سوى بعض المباني القديمة التي كان يسكنها الإسبان أنفسهم، وقد تحول بعضها إلى فنادق ودور حكومية، وبعض معسكرات الجيش الإسباني، وهذه يحتلها الجيش المغربي الآن، أما الأهالي في أيام الإسبان فقد كانوا يعيشون في مدن من الصفيح، وقد أزيلت كلها وبنيت مكانها أحياء جديدة هي التي نمر بها الآن، سألته عن فلسفتهم في بناء بيوت ذات قباب، قال إن هذا الطراز يناسب الجو الحار في الصحراء، ففي هذه القباب فتحات للتهوية، كما أنها تسمح بانزلاق الأتربة التي تأتي بها العواصف الرملية في شهور الصيف، واستطرد اليدالي: أما هذه البيوت الأخرى التي تضم أفنية خلفية فقد بنيت لتلائم البدو الذين يعيشون الآن في المدينة ويتعلم أولادهم في مدارسها، ولكنهم لا يزالون يحتفظون بقطعانهم من الشياه والجمال التي تخرج للرعي في الصحراء، ثم تعود لتنام تحت عيون أصحابها.
طريق الفوسفات
من بعيد تراءى لنا مصنع الفوسفات، أشار اليدالي محمد إلى الشريط القادم من قلب الصحراء على مدى البصر. وقال:
"على هذا الشريط المتحرك يأتي الفوسفات الخام من مناجم "بوكراع" التي تبعد مسافة مائة كيلو متر إلى الجنوب من هذا المصنع. وفي المصنع يستكمل المهندس ماء العينين (كل من يحمل اسم ماء العينين هو من قبيلة الشيخ ماء العينين، وهم يقدمون لقب القبيلة في التعريف بأشخاصهم). أنشئ هذا المصنع في عام 1970، أنشأه الإسبان، وبعد المسيرة الخضراء، واسترجاع الصحراء المغربية، أصبح المكتب الشريف الوطني للفوسفات، وهو الذي يعنى بالفوسفات على مستوى الدولة، يمتلك 65% من هذا المصنع والباقي للإسبان.
جميع العاملين الآن في هذا المصنع من المغاربة سواء على مستوى المهندسين أو الفنيين أو المحاسبين، بعضهم من العيون وبعضهم من مدن المغرب الأخرى.
العملية الأساسية التي يقوم بها هذا المصنع هي معالجة الفوسفات الخام بطحنه وغسله وعصره وتجفيفه، ولكن لكي تتم هذه العملية، تم إنشاء ثلاث وحدات لتحلية مياه البحر بطاقة 6000 متر مكعب يوميا من المياه المحلاة لإتمام عملية غسل الفوسفات ولتزويد المحطة الخاصة بتوليد الكهرباء للمصنع بالمياه اللازمة لعملية توليد الطاقة الكهربائية للمصنع ككل.
كان المصنع في حالة بدائية حين تسلمناه من الإسبان، وكل هذه التطورات حدثت بعد 1975، ومن الإضافات التي قمنا بها أيضا شراء شاحنات لحمل الفوسفات للغربلة الأولى في المنجم.
بعد الوصول بالفوسفات إلى الدرجة المطلوبة في التنقية، يتم نقله على عربات عبر هذا الجسر الممتد في المحيط إلى العمق المناسب حيث تقف السفن الخاصة بنقله إلى موانئ التصدير في مختلف بقاع العالم التي تحتاج إلى الفوسفات، وبالمناسبة هذا الميناء خاص بالفوسفات، وعلى مسافة قريبة من هنا يوجد الميناء التجاري الذي تتوجهون إليه الآن".
الميناء مجرد بداية
ونحن في طريقنا إلى الميناء عاد اليدالي محمد يؤكد لنا أن ما سنراه بعد قليل هو مجرد جزء من مخطط طموح يرمي إلى إنشاء ميناء كل 200 كم، ومنطقة الجنوب تشكل مرحلة أساسية لتطبيق المخطط الذي تقرر في إطاره وحتى سنة 2000 إنجاز ستة موانئ على ساحل الأقاليم الصحراوية وحدها وهي طرفاية والعيون وبوجدور والداخلة والعركوب والكويره.
عند الميناء التجاري الذي يجري فيه الإنجاز استقبلنا وفد من الأهالي بملابسهم التقليدية الزرقاء الجميلة هم السيد بيدت محمد سالم الرئيس والشيهب إبراهيم نائب الرئيس، وطالب أحمد العبدعضو الجمعية، قالوا لنا:
بدأ العمل في هذا الميناء سنة 1982، تم تشييد 1982 مترا من الحواجز المائية و755 مترا من الأرصفة و74 هكتارا من الأراضي المسطحة، وحوض لجر السفن، وستمكن هذه التجهيزات في مرحلة أولى من استقبال 50 ألف طن من السمك و.300 ألف طن من البضائع المتنوعة كل سنة، وفي نهاية جميع المراحل سيتوافر في ميناء العيون: 3200 متر من الحواجز و1800 متر من الأرصفة، و 150 هكتارا من الأراضي المسطحة وحوض لجر السفن، ومنشآت لإصلاح السفن ومستودعات للتبريد، ومحطة لتحلية مياه البحر، وتجهيزات قادرة على إيواء منطقة صناعية. وقد صممت هذه المنشآت لاستقبال سفن شحن المعادن التي تبلغ حمولتها 40 ألف طن، فضلاً عن البواخر التجارية وقوارب الصيد. ومن المتوقع أن تصل كميات الفوسفات المصدرة عن طريقه إلى عثرة ملايين طن سنويًا.
من خدمات الدولة
أجمل ما في برنامج اليدالي محمد أنه كان يجمع المواقع المتجاورة في وقت متقارب، نخرج من هنا وندخل هناك دون لحظات لالتقاط الأنفاس.
في صباح اليوم التالي استقبلنا بن داود محمد فاضل مدير مدرسة محمد الخامس الثانوية، في فناء المدرسة، لم يكن بالمدرسة مكتب فخم لحضرة الناظر، أو غرفة للاجتماعات، تجول بنا على الفور داخل الفصول وبين الساحات، وهو يتحدث وكأنه يعرف سلفا ما نريد أن نسأل عنه "أنشئت المدرسة في سنة 1988 تضم 776 تلميذًا وتلميذة، الأولاد والبنات معًا في فصل واحد وهم في سن المراهقة، ويؤكد الناظر أنه لا مشاكل، الأولاد والبنات أحرار في ملابسهم فلا يوجد زي موحد بالمدرسة، وحين سألته عن عدد البنات بالتحديد قال: 350 تلميذة، كما يوجد بالمدرسة 55 أستاذا و10 مدرسات، وأن من بينهم 7 مدرسين ن أبناء العيون ذاتها، ثم أضاف: توجد 7 مدارس ثانوية بمنطقة الصحراء كلها، ثلاث منها في العيون، و13 مدرسة إعدادية في المنطقة 7 منها في العيون، ثم استدرك قائلاً: أتعرف كم كان عدد التلاميذ أيام الإسبان في جميع الأقاليم الصحراوية؟ 920 تلميذا فقط.
خرجنا من ثانوية محمد الخامس لندخل إلى المستشفى المركزي بالعيون، قابلنا الدكتور ماء العينين محمد - هو الذي شرح لي قصة لقب ماء العينين حين أبديت دهشتي - تجول بنا في أنحاء المستشفى، قال:
"المستشفى يضم 250 سريرا، ويعمل به 31 طبيبا، منهم 20 إخصائيا و11 ممارسا عاما ويخدم 300 ألف مواطن من العيون وما حولها. يوجد في مدينة العيون وحدها خمسة مستوصفات و6 مستوصفات في القرى والمدن الصغيرة المحيطة بالعيون، والنسب نفسها تقريبًا في "سمارة" و"الداخلة".
بتوقيت "اليدالي محمد" كان الوقت لا يزال يسمح في هذا الصباح بزيارة معهد التكنولوجيا التطبيقية الذي يقع على بعد خطوات من المستشفى، ويستقبلنا السيد الهريش محمد في فناء المعهد أيضًا ويطوف بنا بين القاعات والمختبرات وهو يحدثنا عن الشعب الدراسية بالمعهد ونظام الدراسة.
أنشئ المعهد عام 85/1986 وهو يتبع وزارة الأشغال والدراسة به لمدة سنتين في المجالات الدراسية التالية:
- الكتابة الإدارية (السكرتارية).
- المحاسبة والكمبيوتر.
- الأوراش (قطاع صناعي) وتشمل الحدادة، ميكانيكا السيارات، الكهرباء، التبريد والتكييف.
ويضم 180 طالبًا وطالبة ويعمل به 40 مدرسا و20 مدربا، وتقع مهمة وضع البرامج الدراسية على عاتق اللجنة الإقليمية للتكوين المهني التي تراعي في اتخاذ قراراتها البنية الاجتماعية والاقتصادية للمنطقة.
دور للقطاع الخاص
حين ذهبنا في فترة ما بعد الظهيرة لزيارة شركة إنعاش المغرب العربي الجنوبي، وهي تمثل وجها مهما من نشاط وإسهام القطاع الخاص في جهود التنمية في الصحراء المغربية، وجدنا في انتظارنا على رأس المسئولين عن الشركة السيد "بن داود" ناظر مدرسة محمد الخامس الذي قابلناه في الصباح، كان هو الذي يقدم لنا أعضاء المكتب المسير لإدارة الشركة، ابريه سيدي محمود، الخريف أحمد الحاج بشير عقداد، الحاج محمد سالك سيدي، الشيخ ماء العينين سلم البلان. وأوضح ما توقع أن يكون سؤالا "كل الإخوان أعضاء المكتب لديهم بالطبع أعمال أخرى، لكننا جميعًا نشترك في إدارة هذا المشروع لخدمة خطط التنمية بالمنطقة من خلال الجهود الأهلية".
إن الشركة لديها هذه المزرعة لتربية الدواجن وتنتج 36 ألف بيضة في اليوم، كما أن لديها فروعا لإنتاج الحليب، ولتحويل الحديد، وتصدير الرمال، وأسطولا لنقل الإنتاج يغطي المنطقة الجنوبية كلها بما فيها طنطان والسمارة والداخلة وبوجدور والعيون.
يعمل بها 35 عاملاً بصفة دائمة كلهم من أبناء المنطقة عدا العمالة الموسمية، ويشرف عليهم طبيب بيطري.
دعوة على الغداء
ليدالي محمد هو الذي خرج على البرنامج هذه المرة قال لي: "السيد أحمد عصمان رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار ورئيس مجلس النواب حضر مع وفد كبير لزيارة العيون اليوم في إطار الاستعدادات للاستفتاء، وسوف يتناول طعام الغداء في منزل السيد خطري ولد سيدي سعيد الحباني وبعثة "العربي" مدعوة، وهي فرصة لمقابلة الرجل والتحدث إليه، ثم حضور المهرجان الخطابي الذي سيتحدث فيه إلى أهالي المنطقة في قصر المؤتمرات الذي يعتبر من أحدث الإنجازات الثقافية في العيون". في منزل السيد خطري اكتشفت أنني لست الصحفي الوحيد المدعو، وأنه يوجد إلى جوار الصحفيين العرب صحفيون أجانب، وأن الحديث الهادئ الذي حلمت به شبه مستحيل - في زحمة الزوار والمتحدثين - ومع ذلك فقد كان الرجل كريماً وودودا مع "العربي"، قدمت إليه ثلاثة أسئلة هي:
*كيف ترى تأثير المتغيرات الراهنة العربية والدولية على مجرى قضية الصحراء؟
*كيف تقدرون معنى قبول مبدأ الاستفتاء حول جزء من التراب الوطني؟
* هل أصبح الأمر كله الآن في يد الأمم المتحدة، ورهنا بنتائج الاستفتاء، أم لا يزال هناك دور للجهود الدبلوماسية، خاصة العربية ومع الدول المعنية مثل الجزائر؟.
قال الأستاذ أحمد عصمان: في الخطاب الذي سألقيه بعد قليل سأتعرض للكثير مما جاء في أسئلتك، ومع ذلك فدعني أقل لك بإيجاز هذه الخلاصة:
"هل يسأل الإنسان في أرضه عن هويته؟ وكأنه يسأل عن يده أو رأسه وحقيقة وقوع قلبه داخل صدره؟!
إن الاستفتاء لا يعني مطلقا أي شك في انتماء أبناء الصحراء الأوفياء إلى وطنهم، قبول الاستفتاء ليس موجها إلينا بل إلى غيرنا، نبطل به حجة هذا الغير، نتحداه ونصر على أن نصل إلى حقوقنا من خلال الشرعية الدولية دون أن يكون في ذلك مس بكرامتنا وشخصيتنا المغربية المتأصلة.
أما بالنسبة للمتغيرات الدولية والعربية فدعني أقل لك إن اختيارنا لمواقفنا المبدئية من القبول بمبدأ الاستفتاء قد كان قبل حدوث هذه المتغيرات، فإذا جاءت هذه المتغيرات لتؤكد صحة اختياراتنا وسلامة رؤيتنا فهذا ما نعتز به، وعلى كل حال فمن حقنا على شقيقتنا الجزائر أن تلتزم بروح اتفاقية مراكش ومعاهدة اتحاد المغرب العربي، وتقدر حتمية المصير الواحد المشترك، لقد كنا نعتقد أن البلدين تخلصا من رواسب الماضي بدخولهما مرحلة متطورة تضع في مقدمة اعتباراتها تطلعات الشمال الإفريقي، وتسعى إلى بناء كيانات أقطارها في مواجهة التحولات والتحديات المختلفة، وعلى كل حال نحن نرجو للشعب الجزائري الشقيق أن يتجاوز أزماته الراهنة بسلام لننصرف معا إلى تصحيح اختياراتنا الديمقراطية، وتعميق الإحساس بالحريات الفردية والجماعية. إن التاريخ لا يرحم وقد يحاسبنا حسابا عسيرًا إذا لم نعمل بسرعة قصد الوصول إلى الأهداف المشتركة، وتحقيق مطامح الشعبين الشقيقين".
عودة الابن الضال
يلوح لي أن " اليدالي محمد" استمرأ فكرة تحطيم البرنامج، فقد فهمت من البرنامج أننا سنلتقي ببعض المسئولين عن المخيمات التي تنتشر بالمئات في ضواحي مدينة العيون والتي تضم الآلاف من أهالي الصحراء القدامى الذين نزحوا عنها عندما وقعت معركة "أفيكون" سنة 1958 وعادوا الآن ليكونوا على مقربة للمشاركة في الاستفتاء، كنت أتصور أننا سنلتقي بعدد من هؤلاء المسئولين لنتحدث معهم في إحدى هذه الخيام، ولكني فجأة وجدت نفسي مع زميلي المصور ندخل إلى خيمة فسيحة تضم المئات بل الآلاف من الأهالي، الرجال الصحراويون في جانب والنساء الصحراويات في جانب آخر. استقبلنا رؤساء هذه الحشود في البداية وأجلسونا في منتصف الخيمة. وتتابع الخطباء من الرجال الصحراويين والنساء الصحراويات.
في البداية كنت مأخوذا بالمشهد، وربما لم أكن أفهم اللهجة الحسانية، ولكني بدأت أدرك أن هذه اللهجة عربية صرفة، ولم أكن في حاجة أبدا إلى أن أفهم معنى كل كلمة. كان هناك معنى كبير يتجاوز دلالات الألفاظ، معنى كان يتجسد في نبرة الصوت، في ملامح الوجه، في الدموع والصرخات، كان هذا المعنى يؤكد أن هؤلاء الرجال والنساء هم أبناء هذه الأرض الطيبة، وأنهم لا يريدون أكثر من أن تعود إليهم ويعودوا إليها، وأن شباب البوليزاريو هم أبناؤهم وأنهم ينتظرون عودتهم كما ينتظر الأب عودة الابن الضال. بعد هذا اللقاء الذي كنا فيه مجرد قطرة في بحر لم أعد أهتم كثيرًا بسؤال اليدالي محمد عن البرنامج. تركته يخرقه عامدًا متعمدًا ويذهب بنا في جولات حرة إلى المناطق الشعبية. تركت الكاميرا تستكمل البرنامج.