الطبقة الوسطى في العالم العربي

الطبقة الوسطى في العالم العربي

ليس كتاب د.عبدالمالك التميمي: «الطبقة الوسطى في العالم العربي 2009» كتابا تاريخيا يهتم بأحداث الماضي فقط، وإنما هو محاولة جريئة لاستقراء الحاضر واستشراف آفاق المستقبل. وليس غرضنا من هذه القراءة الوقوف عند المعطيات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية على أهميتها، بل الوقوف عند الجوانب المعرفية والمنهجية التي تميز - في تقديرنا - هذا الكتاب، وتجعل منه مرجعا أساسيا في الدراسات التاريخية المعاصرة، وبخاصة في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

إن د. عبدالمالك التميمي باعتباره مؤرخا وناقدا اعتمد على ثلاث قواعد أساسية هي: الانتقال من النظرية إلى الواقع، ومن العام إلى الخاص، ومن التحليل والمقارنة إلى التعليق والنقد. وهذا ما يلمسه القارئ في فصول الكتاب السبعة وهي كالآتي: مفهوم الطبقة الوسطى، الطبقة الوسطى في العالم، الطبقة الوسطى في العالم العربي، الطبقة الوسطى والبطالة والفقر في العالم العربي، قيم الطبقة الوسطى المدينية، تدمير الطبقة الوسطى، مستقبل الطبقة الوسطى.

يبدأ المؤلف بتقديم الأسباب الموجبة لمعالجة موضوع الطبقة الوسطى، ويلخصها في أربعة أسباب متصلة بدور هذه الطبقة وما لحق بها من تحولات اجتماعية واقتصادية تعود بشكل أساسي إلى دور التعليم وأثره الكبير في مصير هذه الطبقة. ثم يطرح بعد ذلك إشكاليته المتمثلة في جملة من الأسئلة المتمحورة حول حجم هذه الطبقة ومشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية كالبطالة والتهميش، وعلاقتها ببقية طبقات المجتمع، وذلك بغرض تجلية دورها التاريخي في عملية التنمية الشاملة في العالم العربي.

وحرصا منه على الطرح العلمي الموضوعي، فإنه يسارع إلى تنبيه قارئه إلى أن دراسته «محاولة لإثارة الحوار حول أوضاع هذه الطبقة، وتلمس مشكلاتها وتوجيه الاهتمام نحوها» (ص11). ولا شك أن هذا طرح علمي يقوم على مبدأ مؤداه أن الحقيقة العلمية نسبية، وأن البحث العلمي عملية دائمة ومتواصلة، وأن الوسيلة المثلى في ذلك هي البحث والنقاش والحوار والسؤال، وتقديم الآراء والحجج حول موضوع علمي شائك لا يمكن أن تكون فيه الكلمة الفيصل، أو التعريف الجامع المانع، كما يقول المناطقة، وإنما القصد هو تقديم مقاربة مناسبة تراعي الموضوعي والذاتي، وتفتح آفاقا للبحث والاستكشاف.

تعريف المفهوم

ولأن البحث عن الحقيقة يحتاج إلى منطلقات محددة تؤدي إلى نتائج معلومة ضمن منظور ورؤية شاملة، فإن د.عبدالمالك التميمي، كما سبقت الإشارة إلى ذلك ينطلق من النظرية نحو التطبيق، ومن العام إلى الخاص، ومن التحليل والمقارنة إلى النقد والتعليق، وهكذا قدم المؤلف في الفصل الأول تعريفا لمفهوم الطبقة الوسطى، وتساءل عن العامل المحدد لهذه الطبقة: هل هو الاقتصاد أم الوعي؟ مشيرا في السياق ذاته إلى أننا «نعيش اليوم إشكالية المصطلح في ثقافتنا وفكرنا المعاصر» (ص20). ولذا نجده لا يتردد في طرح هذا السؤال: هل هنالك مفهوم عربي للطبقة الوسطى؟ وكان جوابه واضحا ومحددا وجليا وهو: لا يمكن إلباس الطبقة الوسطى عباءة عربية كما يفعل الكثير من مثقفي العالم العربي «المغرمين بتوطين وتعريب وأسلمة المصطلحات والمفاهيم» (ص32)، وإنما الطبقة الوسطى «تتكون من فئات لها أوضاع اقتصادية واجتماعية شأنها شأن الفئات الأخرى في المجتمعات غير العربية. وأنها تتميز وتتحدد اجتماعيا واقتصاديا... وأن دخلها الأساسي ناجم عن العمل الذي يغلب عليه الطابع الذهني والتقني» (ص21). وبهذا المعنى فإن الطبقة الوسطى تغطي شرائح اجتماعية عديدة ومتنوعة يصل حجمها إلى حدود 30 بالمائة من مجموع السكان في العالم العربي، حيث يلعب التعليم دورا محددا في تكوينها.

وبعد تحليل لوضعية الطبقة الوسطى في العالم عموما في الفصل الثاني، وذلك من خلال دراسة تطورها التاريخي، خص المؤرخ د.عبدالمالك التميمي الطبقة الوسطى في العالم الثالث بتحليل بعض وجوهها، وبخاصة ما يتعلق بصلتها بالانقلابات العسكرية، ودورها في عملية التنيمة بعد الاستقلال، ومشاركتها في العملية الديمقراطية لكونها تتكون من شرائح تسعى دائما إلى الديمقراطية، وبخاصة عند فئة المثقفين. وبنظرة المؤرخ الناقد فإن د. عبدالمالك التميمي يرى أن: «المثقفين من أبناء الطبقة الوسطى لم يستغلوا الفرص التاريخية لممارسة الحرية. فقد أتيحت لهم فرصة الاستفادة من تقدم أوربا لكنهم لم ينقلوا إيجابياتها ويوائموها مع واقع بلدانهم، فلا الموروث فسح المجال لممارسة الحريات، ولا الوافد من الخارج وظف كما يجب في هذا المجال، ومجال الحرية أساس التحرر والتقدم والديمقراطية». (ص 76).

أما الفصل الثالث فكان موضوعه: الطبقة الوسطى في العالم العربي: «من ص 87 إلى ص 228»، وقد عالجه د.عبد المالك التميمي باعتباره فصلا محوريا في الكتاب، وبخاصة من حيث المعطيات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لهذه الطبقة. وهو فصل يعد بلا شك أهم إسهام قدمه المؤرخ الكويتي حول هذه الطبقة، لأنه يبين من جهة التشكل التاريخي لهذه الطبقة مبينا الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى ظهورها، والاتجاهات الفكرية والسياسة الأساسية لهذه الطبقة، وهي: الليبرالية التحديثية، والتوجه القومي العربي، والاتجاه اليساري الماركسي، والاتجاه الديني الإسلامي السياسي، وعلاقة القوى السياسية العربية بالطبقة الوسطى قبل الاستقلال وبعد الاستقلال مع أمثلة تاريخية عن الطبقة الوسطى في العالم العربي شملت مصر «ص127-144» واليمن «ص144-149» والعراق وسورية «ص 149-154» والجزائر «ص 154-162» والأردن وتونس والمغرب ولبنان وفلسطين «ص163-172» والخليج العربي «ص172- 188» وأخيرا الطبقة الوسطى في الكويت «ص 188-198».

وبعد هذه العملية الوصفية والتحليلية الشاملة توقف المؤرخ عبد المالك التميمي عند بعض المظاهر المميزة للطبقة الوسطى، وبخاصة دورها في بناء الدولة الوطنية وعلاقتها، بالهجرة وزيادة النمو السكاني ودور المرأة في هذه الطبقة حيث أشار إلى الدور الذي لعبته الطبقة الوسطى في تحرير المرأة، مقارنة بالقوى المحافظة أو المتزمتة وفقا لعبارته، ليخلص من ثم إلى تقييم عام لدور الطبقة الوسطى في العالم العربي بين حدي الفشل والنجاح، حيث بيّن بعض مظاهر النجاح المتمثلة في وصول بعض الفئات من الطبقة الوسطى إلى الحكم سواء عن طريق الثورات أو الانقلابات العسكرية، ولتفرض بعد ذلك نظما سياسية استبدادية. كما ساهمت في تشكيل الأحزاب السياسية وفي دعم الممارسة الديمقراطية. وأما مظاهر الفشل فتظهر في سيطرة العسكر وثقافة الاستبداد، وتحويل السلطة إلى هدف وغاية، وليس إلى وسيلة لتحقيق سياسات ديمقراطية وعادلة، كما غلبت الانتهازية على قياداتها إلى أن «خسروا في النهاية مواقعهم وخسر المجتمع دورهم المأمول منهم» (ص228).

ويظهر هذا الجانب السلبي أو الفاشل للطبقة الوسطى أكثر ما يظهر في الفصل الرابع الذي خصه المؤلف للطبقة الوسطى والبطالة والفقر «229-313»، وسوء توزيع الدخل القومي، ومستوى دخل الفرد في الطبقة الوسطى مشيرا إلى الصعوبات التي يواجهها الباحث في هذا الموضوع، والمتمثلة في نقص المعلومات وعدم دقتها وقدمها.

وقد عالج المؤلف في الفصل الخامس قيم الطبقة الوسطى التي تعكس الجانب الثقافي والفكري والسياسي لهذه الطبقة، أو ما يصطلح عليه بالوعي الطبقي. ومن أهم هذه القيم التي حللها نشير إلى قيم الريف والبادية وقيم المدينة، والقيم الموروثة والمكتسبة، والقيم الفردية والجماعية. ومن بين أهم القيم التي توقف عندها بالتحليل والدراسة قيمة الحرية وأهميتها في الثقافة العربية المعاصرة، مبينا أنه لما «كانت الطبقات الوسطى ضعيفة في مجتمعاتنا ومضطهدة مع الطبقات الفقيرة والكادحة كان همها وشعارها وقضيتها الحرية، وبخاصة حرية الرأي وحرية الكسب وحرية العمل والاعتقاد» (ص299). كما تعتبر قيمة العمل من أهم القيم عند الطبقة الوسطى، وذلك لأن هذه الطبقة تسعى دائما للحصول على مؤهل علمي بغية الحصول على عمل وظيفي يوفر لها دخلا محترما. ومن هنا ارتبطت هذه الطبقة بظاهرة الهجرة بحثا عن العمل والوظيفة المناسبة. كما تتميز هذ الطبقة بمطلب العدالة الاجتماعية الذي يعتبر بالنسبة لها مطلباً حيوياً، إلا أن المؤرخ التميمي يلاحظ أمرا في غاية الأهمية وهو: أن بعض فئات هذه الطبقة الوسطى ما إن يتحسن وضعها الطبقي حتى تتنكر لقيمة العدالة الاجتماعية. كما يلفت نظر قارئه إلى قيمة أساسية أخرى هي قيمة الإبداع، وبخاصة عند فئة المثقفين.

تدمير الطبقة الوسطى

وفي محاولته لتشخيص وضع الطبقة الوسطى فإن د. عبدالمالك التميمي قام بتحليل ما اصطلح عليه في الفصل السادس بـ«تدمير الطبقة الوسطى»، وذلك بسبب ما تواجهه من صراع مع النظام الرأسمالي وتحولاته العالمية المجسدة في العولمة بمظاهرها الأساسية المتمثلة في التقدم التكنولوجي وتطور التعليم ومخرجاته وعدم استغلال الطبقة الوسطى لما يسميه المؤرخ التميمي بالفرص التاريخية الضائعة، ودخولها في صراعات أيديولوجية هامشية أضعفت من قدرتها على مسايرة الواقع، وأدى بها إلى التخلف الذي يظهر في علامات أساسية متصلة بالدور السلبي لبعض قيمها وغياب علاقة تحالفية مع غيرها من الطبقات والآثار السلبية للنظم السياسية، وبخاصة النظم الاستبدادية التي دمرت الطبقة الوسطى في بعض البلدان العربية.

ومع أن المؤرخ والكاتب د.عبدالمالك التميمي يعزي للعامل السياسي في تدهور الطبقة الوسطى أهمية أساسية، واصفا ذلك على هذا النحو: «وجود أنظمة حكم ديكتاتورية قمعية تنكرت لطبقتها، وأغرتها السلطة فانحرفت وتسلطت، وكونت طبقة طفيلية حولها لجأت إلى ضرب الطبقة الوسطى» (ص324)، إلا إنه يرى أن للعامل الذاتي الدور المحدد والمقرر في تدهور هذه الطبقة، والذي يتمثل بشكل خاص في صراع شرائحها وفئاتها. (ص333). كما أن المثقف بوصفه عنصرا من الطبقة الوسطى في أغلب المجتمعات العربية لم يقم بدوره المطلوب، وذلك نظرا لانفصاله عن الواقع وعدم قدرته على توظيف فكره، وبالتالي فَقَدَ «قوة الضغط أو سلطة التأثير». (ص341).

لكل ذلك يطرح المؤرخ عبد المالك التميمي سؤالا يمثل خاتمة لكتابه، وهو: ما مستقبل الطبقة الوسطى في ظل هذه الظروف؟ ويجيب عن ذلك وفقا لمنهجه القائم على تصور لعلم التاريخ بما هو دراسة لوقائع الماضي المستمرة في الحاضر والمؤثرة في المستقبل، أو كما قال: «عندما نحلل ونقيم أوضاع الطبقة الوسطى في العالم العربي في الماضي القريب فنحن نقيم جزءا كبيرا من مشكلاتها في الحاضر، وسيكون من دون شك لهذه الأوضاع القائمة تأثير على المستقبل» (355). وعملا على استشراف مستقبل هذه الطبقة فإن المؤرخ والكاتب د.عبدالمالك التميمي يرى أن التوجه العام للوضع الطبقي يسير باتجاه التقسيم الحاد للمجتمع إلى طبقتين غنية وفقيرة، وذلك نظرا للدور الذي تمارسه العولمة في عملية هذا التقسيم. ومما سبق يتضح لنا أن كتاب: «الطبقة الوسطى في العالم العربي» معالجة شاملة لإشكالية هذه الطبقة باعتبارها قضية أساسية لفهم طبيعة وحاضر ومستقبل المجتمعات العربية الحديثة، وذلك نظرا للدور المحوري الذي تقوم به هذه الطبقة في المجتمع، ونظرا لارتباطها بشكل أساسي بمجالي التعليم والعمل، وهو ما يجعلها أساس وعماد نمو المجتمع وتقدمه وازدهاره. وما أضفى على هذا الكتاب من أهمية علمية هو المنهجية التي اعتمدها، والمقاربة التاريخية النقدية التي طبقها في معالجة موضوع الطبقة الوسطى في العالم العربي، والقيم الإنسانية والتنويرية التي بثها في ثنايا نصه، والتي تحمل رسالة مفادها: «أن الطبقة الوسطى مهمة وأساسية في المجتمع، وأن الاهتمام بها عامل أساسي في إحداث التطور والتقدم في مجتمعاتنا» (ص10). لكل ذلك نرى، أن هذا الكتاب: «الطبقة الوسطى في العالم العربي» يشكل مساهمة متميزة في حقل الدراسات الإنسانية والاجتماعية عموما، وفي الكتابة التاريخية العربية المعاصرة بوجه خاص، وهو بلا شك إضافة جديدة في المسار العلمي للمؤرخ د.عبدالمالك التميمي الذي ارتبطت كتاباته التاريخية بموضوعات تاريخية وآنية ومستقبلية في الوقت نفسه، وهذا ما يظهر بشكل واضح وجلي في كتابيه: «المياه العربية: التحدي والاستجابة»، و: «تاريخ الناس في منطقة الخليج العربي».

--------------------------------------
ومنذ أنْ كنَّا صغاراً، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطل المطر،
وكلَّ عام حين يعشب الثرى نجوعْ
ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ.
مــــــــــــطـــــــــــــــــــــــــر...
مــــــــــــطـــــــــــــــــــــــــر...
مــــــــــــطـــــــــــــــــــــــــر...

بدر شاكر السياب

 

 

عبدالمالك التميمي
اعلانات