هدير المدافع.. بريطانيا وألمانيا والسيطرة على البحار

هدير المدافع.. بريطانيا وألمانيا والسيطرة على البحار

عند الساعة السادسة والربع مساء، من اليوم الحادي والثلاثين من مايو 1916، اتخذ الأدميرال السير جون جيلكوه، قرارا بأول إشارة قيادية للحرب العالمية الأولى، وقد أعطيت الإشارة إلى الأسطول البحري البريطاني الكبير كي ينتشر على ستة محاور، متقدما صوب الجنوب الشرقي في خط واحد يمتد من الشرق إلى الغرب، وعُرفت هذه المناورة في الأدبيات العسكرية البحرية بـ «العبور T» حيث ستصبح سفن جيلكوه، هي الجزء العلوي من حرف T «الخط الأفقي»، بينما تلتقي الأسطول الألماني عند اقترابه من الأسطول الإنجليزي بمدافع البحرية، في حين أن الألمان سيكونون قادرين على الدخول فقط، إنها لحظة للبحرية الملكية التي كانت متحفزة ومنتظرة على ما يربو على الحولين، استغرقت هذه المناورة عشرين دقيقة، حشد الأسطول الإنجليزي الضخم مائة وخمسين من أساطيل السفن التي أرفأت في ذلك الصباح، بهذه اللحظة التاريخية يبدأ روبرت ماسي كتابه هدير المدافع في محاولة لرصد مرحلة مهمة من تاريخ الصراع البريطاني - الألماني للسيطرة على البحار. ويمضي ليسرد الوقائع مشيرا إلى أنه سرعان ما أصدر جيلكوه أمره، وكان قرارا متعذرا إلغاءه، وحالما أصدر أوامره، بات الجزء العلوي من حرف الـ T نافذا، شقت السفن البريطانية، أمواج البحر المتلاطمة، متدثرة تحت ستار من أقواس النيران، في نطاق يصل مرماه إلى 1.8 كم، وكانت السفن كثيرة العدة والعتاد، وتتفوق بالقياس على ما حدث في معركة تسوشيما.

معركة تسوشيما

ينتقل المؤلف إلى مرحلة أخرى من الصراع، لكنها في هذه المرة اندلعت بين روسيا واليابان، فيما بين الثامن من فبراير 1904، والثامن والعشرين من مايو 1905، أي أنها استمرت إلى 444 يوما؟! ويُعزى ذلك للأطماع الاستعمارية للدولتين، فقد كانت مطامع روسيا القيصرية، وطموحات اليابان، تتمحور حول استعمار منشوريا وكوريا، وقد كان التغلغل الروسي في هذين البلدين، ورفضها التفاوض مع اليابان لاقتسام النفوذ بينهما، سببًا لليابان للمسارعة بالهجوم على بورت آرثر، الميناء الذي يربض فيه الأسطول الروسي، وانتزعت هذا الميناء من أيدي الروس، بل وألحقت به هزيمة في مكدن عام 1905، بينما تمثلت الضربة الثالثة في تحطيم الأسطول الروسي في معركة تسوشيما، وساور القلق الولايات المتحدة، لما لها من مصالح في تلك المنطقة، فشرعت بالتدخل في محاولة للصلح بين الطرفين، وأبرم الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت صلح بورتسموث، وبمقتضاه انتهت الحرب بين الدولتين، بتعهد روسي بالجلاء عن جنوب منشوريا، كما حصلت روسيا على حق الامتياز باستئجار شبه جزيرة لياوتونج، بينما حصلت اليابان على مركز متميز في كوريا، والنصف الجنوبي من جزيرة سخالين، وكان اسما القائدين الياباني هيوشيرو، والروسي الأدميرال رينوف روزتفنسكي قد لمعا بسبب تلك الحرب التي أسفرت عن خسائر يابانية قدرت بمائة وسبعة عشر قتيلا، 583 جريحاً بينما دمرت ثلاثة قوارب طوربيد - أما الجانب الروسي فقد بلغت خسائره 4380 قتيلا، 5917 أسيرا، 71 سفينة تم إغراقها بالإضافة إلى وقوع 70 سفينة في أسر اليابانيين كما تم تجريد ست سفن أخرى من أسلحتها.

معركة جتلاند

ويمضي ماسي، مشيرا إلى تقهقر الألمان، وهم يلعقون جراحهم - وكان قرارا استراتيجيا، أما على الجانب الآخر فقد كان البريطانيون على أهبة القتال مرة أخرى في جتلاند، حيث دارت رحى هذه الحرب في الحادي والثلاثين من مايو 1916، بين الأسطولين البريطاني بقيادة الأدميرال البحري السير جون جيلكوه، والسير دافيد بيتي، والأسطول الألماني بقيادة رينهارد شير، وفرانز هيبر، وكانت أرض المعركة على مبعدة سبعة وتسعين كيلومترا من غربي ساحل جتلاند، وهي شبه جزيرة في شمال أوربا، تتضمن بعض أجزاء من الدنمرك ومقاطعة شلزويج، ويحدها غرباً بحر الشمال، وشرقا مضيق ستاجراك.

وعلى الرغم من براعة الأسطول الألماني في القتال الليلي تحت جنح الظلام، وبالرغم من خسائره التي قدرت بـ 2551 قتيلا، 507 جرحى وواحدة من طرادات القتال، وخمسة من الطرادات النهارية، بالإضافة إلى ست سفن حربية وغواصة واحدة، بالرغم من ذلك فقد مني الأسطول البريطاني بنيران مكثفة خسر على أثرها 6094 جنديا لقوا حتفهم، 510 جرحى، 177 أسيرا وثلاثة من طرادات القتال وثلاثة من الطرادات المصفحة وثمانية من السفن الحربية.

وقد كانت تجربة مريرة للطرفين، وعلى الرغم من تفوق الأسطول الألماني لكنه آثر الانسحاب تحت جنح الظلام مستغلا غلالة الضباب التي سببتها المعارك، منسلا إلى قواعده بل إنه ظل كسيحا لأعوام كثيرة لاحقة.

يقدم هذا الكتاب رصداً تاريخياً لتاريخ المعارك البحرية وبالأساس تاريخ الأسطول البريطاني، وقد برع المؤلف في رصد كل التفاصيل الخاصة بالمعدات الحربية البحرية، وبأسلوب يمزج بين السرد الروائي والتوثيق، كما أنه تناول الشخصيات بأسلوب يستفيد من السرد، وكما أبدى إعجابه بقادة المعارك أثناء القتال فقد وجّه نقداً لاذعاً لبعض القادة السياسيين وبينهم «تشرشل» الذي كان يمارس قيادة معركة بحرية ضخمة وهو جالس على كرسي القيادة في لندن، على حد قول ماسي.

الكتاب ربما يفتقد الإشارة إلى بعض الكتب التاريخية المهمة التي تناولت هذا الموضوع، لكنه في النهاية يناسب القارئ العادي ويقدم تاريخاً مهماً لأهم الأساطيل البحرية في القرن العشرين.

المؤلف

× روبرت كي.ماسي Massie، ولد في ليكسنجتون، ولاية كنتاكي، احتفل بعيد ميلاده الثمانين في الأول من يناير هذا العام 2009، درس التاريخ في جامعة ييل Yale، وتاريخ أوربا المعاصر في جامعة إكسفورد بإنجلترا، عمل صحافيا بمجلة نيوزويك ما بين سنوات 1959 - 1964، وتقلد منصبا رفيعا في صحيفة Saturday Evening Post - غادر وأسرته إلى فرنسا وكتب سِفْرا ضخما حول حياة قيصر روسيا، نيقولاي إليكسندروف رومانوف، والمعروف بنيقولا الثاني، الذي ولد في 18 / 5 / 1868، وقتل في 17 / 7 / 1918م وتولى العرش في أول نوفمبر 1894، وقد قتل في مطبخ قصره عن خمسين عاما مع زوجته وابنه وأربع من بناته، وثلاثة من خدمهم وطبيبهم، ثم أحرق البلاشفة جثته لاحقا، ومن العجيب أن سبب كتابة ماسي لتأريخ هذا القيصر، تُعزى إلى أن ابن ماسي «روبرت»، كان مريضا بنفس مرض ابن القيصر الوحيد «إليكسي»، وهو الناعورية Hemophilia «وهو ترف وراثي وأي جرح للمصاب يؤدي إلى نزيف مميت»، حصل على جائزة بولتيزر للسيرة عام 1981، يعيش الآن مع زوجته ديبورا كارل، وثلاثة من الأطفال وكلبين.

 

 

تأليف: روبرت كي. ماسي