جزار أمرستار

جزار أمرستار

زارت الملكة إليزابيث - ملكة إنجلترا - الهند عام 1997، لتحتفل باليوبيل الذهبي لاستقلالها عن بريطانيا عام 1947، وعندما وطئت أقدام دوق أدنبرة - زوجها - ثرى تلك البلاد، رأى بأم عينيه لوحة منقوشا عليها «اختلطت الدماء الزكية التي سفحت على ثرى الهند، لما يربو على ألفين من الهندوس،السيخ والمسلمين الأبرياء الذين أطلقت عليهم النيران في صبيحة الثالث عشر من أبريل عام 1919».

بينما واكبت الزيارة العديد من الاحتجاجات بمدينة دلهي من قبل منظمات السيخ، كما ألغيت مأدبة رسمية كان من المزمع إقامتها.

وكما يحدث في العادة، فقد أخذ الدوق موقفا مغايرا وأعلن عدم دقة تلك الأرقام، وصرح بأن عدد القتلى لم يتجاوز حوالي 379، مؤكدا أن رقم الألفين ينضوي على التباس إلى كثرة الجرحى.

يشير المؤلف نيجيل كوليت إلى هذه الواقعة ليقول: إن مذبحة جالينوالا باغ Jallianwala Bagh التي تمت بأوامر من الجنرال ريجنالد ديور «9 / 10 / 1864 - 23 / 7 / 1927» تظل واحدة من أكثر المذابح إثارة للجدل إبان حكم الإنجليز للهند طيلة القرن العشرين، وهذه الكارثة كانت واضحة المعالم على الأغلب بتفردها وخصوصيتها، ولم تحقق شيئا ذا بال أكثر من أنها قوّضت التراث البريطاني الأخلاقي في الهند، وأثارت انتفاضة سرعان ما سرت مسرى النار في الهشيم للحركة الوطنية.

في تأريخ سيرة الجنرال ديور، كتب المؤلف نيجيل كوليت Nigel Collet زاعما أن الأحداث التي واكبت زيارة الملكة في أمرستار أماطت اللثام كثيرا حول شخصية الرجل أكثر مما فعلت الإمبراطورية، ومن خلال دراسة شخصيته، نستطيع أن نفهم المغزى التاريخي.

وبالرغم من قلة طموح هذا الكتاب على مستوى الاستعانة بالأرشيف والوثائق لكنه يظل كتابا دقيقا وشاملا. يشير الكاتب أن ديور كغيره من أبطال الإمبراطورية البريطانية - لم تكن له دراية ببريطانيا - حيث ترعرع في سيملا Simlla، وكان والداه من المستعمرين البيض الواقعيين، ولم يفتأ والده أن يعيد على مسامعه قصة حدثت أثناء إحدى سفرياته والتي تتلخص في أنه بينما كان يشعل سيجارته من فتاة بورمية، صرخت زوجته غاضبة: «هذا نوع من الانحلال يتمخض عنه أن الثلاثين ألفاً من أهالي سيملا باتوا يتحدرون من أصول أورو آسيوية».

التحق ديور بجيش الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، وانخرط في العديد من الحروب الصغيرة في الشمال الغربي لبورما وبلوخستان، وسرعان ما اكتسب سمعة سيئة لبطشه، وضيق صدره وعدم إطاعته لأوامر رؤسائه.

وفي كلية الأركان لاحظ رفاقه أنه ليس لديه القدرة على نطق أسماء الأماكن باللغة الإنجليزية، وقد أخبر أحد رفاق سلاحه ضابطه الآمر: «عندما كنا نتحدث إلى ديور كان يغمغم في الكلام، ولم يكن يعي ما يقول، ينظر إلى من يطرح عليه السؤال وعيناه كانتا زائغتين وكأنه على ما يبدو لا يدري بما يدور حوله.

كان يضمر مقتا للقادة السياسيين، حتى لو صادقوا على معاهدة كارثية مع قبيلة من بلوخستان خلافا للمشورة الرسمية، حتى ولو كانوا سيتبرأون منها فيما بعد. يرى كوليت: إن هذه كانت دلائل خداع النفس المضلل التي أساءت لسمعته إلى حد كبير، وعلى الرغم من كل هذا فقد سارت ترقياته على نحو منتظم. وما إن وضعت الحرب العالمية أوزارها إلا وقد حدث اضطراب سياسي خطير في شمال الهند، لاحت إرهاصات الرقابة والاحتجاز والاعتقال في الأفق، والتي كانت تتم من دون محاكمة كإجراء احترازي مناوئ للعمليات الإرهابية التي تؤجج التظاهرات العامة، وعلى إثرها تقوضت أسلاك البرق وخرجت عربات البضائع عن مساراتها.

وأدرك ديور بأن المسألة باتت جد خطيرة، وأوجس خيفة من تكرار تمرد 1857، الذي بدأت نذره تلوح في أفق البنجاب. تولى أمر وإمرة القيادة في أمرستار من سلطاتها المدنية في ظروف يكتنفها الريبة وتلفها الشكوك، وعزم على أنه لا محيص من تلقين المتمردين درسا، وبعد استعراض عسكري قصير، أعلن أن المجالس التشريعية لم يعد لها وجود، وتقدم مخترقا قلب المدينة المطوقة بمعية من الجيركا والباثان Gurkha & Pathan, وتحاشى متعمدا جلب الجنود الإنجليز مخافة أن تجابه أوامره بالتحدي، وبدأ يصب نيرانه على نطاق واسع في اتجاه حشود عزّل دونما تحذير، واستمر في هذا ما يقرب من عشر إلى خمس عشرة دقيقة.

وأصدر ديور إلى جنوده الأمر بأن يطلقوا النيران في اتجاه الأماكن الأكثر كثافة والمكتظة بالسكان، وترك الجرحى ينزفون دونما أدنى عناية، حتى جنّ الليل نتيجة لإعلانه حظر التجوال، وخلال الأيام اللاحقة، اندفع ديور إلى أمرستار وهو يقود دراجة بخارية، آمراً القبض على أي إنسان يغفل عن تحيته! وتمادى في قسوته لدرجة أن كثيراً من النساء تعرضن للأذى بسببه وأوسعن ضرباً، بل إن بعض السيدات الهنديات - بغض النظر عن أعمارهن - أجبرن بالرقود على بطونهن وهن يحبون مثل الزواحف.

اعتقد الزعيم المهاتما غاندي أن هذا الإذلال العرقي أسوأ وبالا من المذبحة، بيد أنه من اللافت للانتباه أن بعض الناشطين في العمل السياسي زحفوا على بطونهم تزلفا من أجل إدخال السرور على ديور! حتى أن أحدهم تم إيقافه بعد أن ظل يزحف مارا به ثلاث مرات. كانت عاقبة تلك الأفعال أن تبرأت الحكومة البريطانية من هذا لكنه صار بطلا في نظر البريطانيين الموجودين بالهند وفي دوائر الحزب المحافظ في البرلمان الإنجليزي.

وقد آزر مؤيدوه ذلك «الضابط الشجاع» بالرغم من إدانته وتجريمه لما اقترفه أثناء تأديته واجبه المناط به. لاحظ القائد العام في الهند أن هذا الإنجليزي الأصلي المولد، المتواضع التعليم، اعتقد أن الرحمة ليست إلا دليلاً على الضعف، وأنه كان يعتقد أن تسعة وتسعين في المائة من المواطنين الهنود أطفال ويجب أن يعاملوا معاملة الأطفال. وكتب أسقف مدينة سملا الكاثوليكي: «إن مسلك ديور أنقذ البنجاب، وفي رأي الكثرة أنه أنقذ الهند» وعندما توفي ديور عن ثلاثة وستين عاما، أقيمت له جنازة شبه رسمية في لندن.

أظهر كوليت في كتابه عن أسفه لهذا «البطل» الذي عد واحدا من غلاة الإمبرياليين، لأنه كان شرسا، وأحمق وغير أمين.

وعندما خضع للاستجواب حول وقائع المذبحة التي اقترفها، قال للجنة التحقيق إنه عقد العزم على إطلاق النار على حشود حتى قبل أن يصل إلى المدينة: «اعتقدت أنني قد فعلت شيئا عظيما وأنهم سوف يدركون أن عليهم ألا يضمروا شرا».

وهذا المنطق الأبله، دافع عنه سيروليام جونسون - هيكس Sir Williem Joynson - Hicks، أحد أعضاء حزب العمال والذي افترض أن ديور لا يمكن إلقاء اللوم عليه لما قاله في التحقيق حيث إنه تم استجوابه وتعذيبه من قبل ثلاثة من أمهر مواطنيه، وقال متعجبا: إنه في غضون العقود الثلاثة التالية كان هؤلاء المحامين هم الذين يحكمون الهند.

وقد انبرى للدفاع عن ديور، الشاعر الإنجليزي ر. كابلنج Rudyard Kipling، قائلا: «لقد أدى مهامه وفقاً لرؤيته لكيفية القيام بها».

 

 

نيجيل كوليت