إيران: بوابة آسيا تفتح قلبها محمد المنسي قنديل

تفتح آسيا بوابات قلبها وتبسط أمامنا سجادة عجمية قديمة .. تتداخل فيها خيوط الألوان مع لحظات الزمن. وتضاريس الأرض الوعرة مع ملامح البشر. أنامل النساء والأطفال الدقيقة لا تتوقف عن عقد الخيوط. تخرج من خلالها جحافل الفرس لتخترق حاجز الزمن. وتزهو الطواويس بألوانها. ويقدم الأكاسرة القرابين الحية للنار المقدسة في أطلال "برسوبولس" ثم يدوي صوت الأذان في الفلوت الشائعة. إيقاع من الحزن الغامر يتصاعد من زمن كربلاء دون أن يهدأ لحظة .. لم يكف الشهداء عن السقوط. ولم يغادر القلوب الحلم بعودة إمام الزمان الغائب. ذلك الذي سيملأ الأرض عدلا بعد أن امتلأت جورًا..

تتدفق مياه الينابيع من أعلى الجبال عبر شوارع كل المدن مثل شرايين الدم البارد. وتردد الوديان والوُهاد والجبال أشعار الوجد الحزينة، صبوات الخيام، وتبتل سعدي، وأساطير الفردوسي. ويتطوح الدراويش على إيقاع مولاي جلال الدين الرومي. وعلى عتبات الأئمة تنفجر مكامن الحزن والندم، عمائم سود، وعباءات سود، ورايات سوداء، شواهد لعصور طويلة من التمرد على الحكام، والتقية ضد كل غدر. ميراث طويل من شهادات المستضعفين في الأرض منذ أن غاب الإمام الثاني عشر. اختفى ظله ولم ينقطع ذكره. توقف الحلم وطالت حالة الانتظار وتواصلت طقوس الندم ومازالت أصابع النساء والأطفال تواصل عقد الخيوط..

نعبر من بوابة لأخرى .. كل بوابة تحمل وجهًا جديدا لتلك الأرض التي لم تغب عنها شمس التاريخ لحظة واحدة. وكل واحدة تسلمنا إلى أخرى .. بوابة للسياسة .. وبوابة للتاريخ .. وبوابة للعشق .. وبوابة للدين .. تؤدي كلها إلى بيت واحد اسمه إيران..

طهران.. بوابة للسياسة

ترتجف الشوارع تحت المطر. ويبدو اسم المدينة مكتوبا على لافتة زرقاء "طهران" هكذا تكتب وتنطق. تنطلق بنا السيارة وسط صفوف من أشجار الصنوبر المتساقطة الأوراق .. المدينة ليست بعيدة، والمطار يبدو كأنه داخل حي من أحيائها. تستقبلنا ساحة انقلاب أو ساحة الثورة بالنصب الحجري المرتفع الذي يعتبر رمزاً للمدينة، قال لي مرافقي وهو يشير إليه: كان هذا هو آخر ما شيده شاه إيران تخليدًا لعرشه، وكان يطلق عليه نصب "الشاهيار"، تحته يوجد متحف يستعرض تاريخ إيران، ثم يقودك مصعد إلى أعلى حيث ترى المدينة كلها نائمة وممتدة مثل حيوان آسيوي خارج من الأساطير.. أطرافه تغيب وسط الجبال التي تحيط بالمدينة دون أن يوجد رأس يحدد اتجاهه..

العاصمة طهران هي جزء من منطقة الري الشهيرة في التاريخ الإسلامي. وكانت هي المكافأة التي وعد بها الخليفة الأموي قاتل الحسين. حكاية مازالت تحتل جزءا مهما من ميثولوجيا الفكر الإيراني..

ثم احتوتنا المدينة في أعماق أحشائها. ها نحن أخيرًا وسط أرض الفرس القديمة. أحد قطبي الحضارة في العصر القديم. أرض كسرى وقورش التي أهدت إلى الإسلام خمسة من أكبر الشعراء هم سعدي الشيرازي وحافظ وعمر الخيام والفردوسي والنظامي وعددا لا يحصى من العلماء والساسة والحكام. شوارع ممتدة يغلب عليها الطابع العصري، تخلصت من أسمائها القديمة. واكتسبت أسماء الثورة وشهدائها. ومازالت ترتوي مباشرة من مياه ينابيع الجبال التي تتدفق عبر القنوات الموجودة في كل شوارع المدينة كي تروي الأشجار ومساحات الخضرة بها. وتتحكم السدود الموجودة في أعلى الجبال في توجيه المياه إلى الشوارع المختلفة حتى تروي كل المدينة.

إنها مدينة باردة. ولكنها لا تعترف كثيرًا بهذا البرد. التلفزيون ممل إلى حد كبير. لذلك يندفع الناس جميعا إلى الشوارع. الرجال معظمهم بلحى سوداء وبدون أربطة عنق. والنساء جميعهن محجبات ولكنه حجاب لا يخفي تلك الوجوه الصبوحة التي تحمل سمات الجمال الآري. لقد خف قليلا جو التشدد الذي صاحب سنوات الثورة الأولى صعدت منه حدة الحرب. الآن بدأت طهران تأخذ أنفاسها الهادئة وتستعيد عافيتها .. اللون الأسود يغلب على ثياب النساء حتى الصغيرات منهن، امتدادا لميراث الحزن الطويل. لقد ألغي نظام "أخوات زينب" اللاتي كن يقفن في نواصي الشوارع يراقبن عملية التحجب ويسببن الرعب لبقية النساء. كذلك ألغيت اللجان الثورية التي كان أفرادها يقتحمون البيوت بدون استئذان في أي ساعة من النهار أو الليل بحثا عن الخمور أو الأفلام والمجلات الخليعة. خفت حدة الحالة الاستثنائية التي صنعتها الثورة.. وتركت المجال للدولة كي تضع تنظيمها الخاص.. والهادئ. حتى الآن يبدو أن الإمام الخميني لم يمت. صوره موجودة في كل مكان ذهبنا إليه في طهران وفي المقدمة دائًما. وفي المسجد الذي أقيم ليضم رفاته خارج المدينة يتوافد الآلاف إليه خاصة في المناسبات الدينية. وقد رأيت على باب المسجد سيدة عجوزا تحمل على كتفها سجادة ثقيلة تكاد تنوء تحتها وهي تسير بها في إصرار إلى مقام الإمام لتقدمها نذرًا له. لقد تحول إلى رمز لا يموت، يحيط به نوع من القدسية الدينية وسط شعب يجيد صنع هذه القداسات.. لقد حدد لإيران الدور الذي كانت تبحث عنه طويلا كما عبر عن ذلك الشيخ حسين الموسوى من مدينة قم: إن إيران من البلاد التي استقبلت الإسلام دون العروبة. وكان لها دائما دور متميز في التاريخ القديم منذ أيام الفرس. ولكنها فقدت هذا الدور القيادي منذ أن دخلت الإسلام. دائما كان مركز الثقل خارج أراضيها. وحاولت أن تلعب دورًا متميزًا أيام الدولة العباسية. ولكن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور قاد أبا مسلم الخراساني إلى فخ الموت.. وحاولت أن تلعب ذلك الدور أيام الدولة الصفوية حين دخلت في صراع مع الدولة العثمانية، ولم تستطع.. وحاول نظام الشاه الشيء نفسه عندما أقام من نفسه شرطيًا في المنطقة. وتحول غروره الشخصي إلى أخطاء قاتلة. ثم جاء الخميني كي يعطيها وجهها الإسلامي.. ويبعث من خلال المذهب الشيعي بذر ة التمرد القديمة التي جعلته باستمرار ثائرا على كل الطواغيت.. لقد كانت بجبالها المنيعة وبعدها عن مركز الحكم الإسلامي مركزا لكل المطاردين والهاربين .. وخلال هذا التاريخ زرعت داخل الفرد الإيراني العادي نزعة الاستشهاد والبحث عن العدل المطلق، تلك النزعة التي جعلته دائما على حافة التطرف في التعبير عن مشاعره..

وقد حضرت في طهران مناسبتين من نوعين مختلفين .. في كل واحدة كان الدافع مختلفا .. والمشاعر مختلفة ولكن التعبير عنهما كان بالدرجة نفسها من التطرف ..

المناسبة الأولى كانت حزينة. ستائر سوداء تغلف كل أبهاء المساجد، ومحلات مغلقة، وشوارع مقفرة من المارة، وتراتيل حزينة ترتفع من كل مكان وعقب كل صلاة، وموسيقى جنائزية في كل برامج التلفزيون .. إنها ذكرى وفاة فاطمة بنت الرسول عليه السلام. مناسبة من مناسبات عديدة للتفجع وإظهار الأسى. هناك في إيران 45 مناسبة دينية رسمية. وهم يحتفلون بكل الأئمة الاثني عشر.. ذكرى الميلاد.. وذكرى الموت.. في أعياد الميلاد تكتسي كل المساجد باللون الأبيض .. وتضاء كل الأنوار وتضوع فيها العطور. وفي كل ذكرى للموت لا يوجد إلا السواد والبكاء في حرقة. يجتمعون في "الحسينيات" وهي أماكن معدة خصيصًا لتلقي العزاء. يرددون فيها صرخات الحزن وهم يرفعون أذرعتهم بقبضات مضمومة ثم يهوون بها على صدورهم..

وكانت المناسبة الثانية مختلفة تماما. ليست دينية وليست حزينة. فقد صدر قرار من الأمم المتحدة باعتبار العراق مسئولا عن بدء الحرب. واعتبروا هذا إقرارًا بانتصارهم جاء متأخرا بعض الشيء، فقد انتهت الحرب دون حسم. وجاء يوم الانتصار أخيرًا، ليس هذا فقط، ولكنه اعتراف من العالم بأنه قد ظلمهم وأساء إليهم، ووقف طوال هذه السنوات بجانب المعتدي، أحسوا أن هناك من يراهم أخيرا وهم الذين عاشوا تاريخهم الطويل يعانون من نفي الآخر لوجودهم. هبطوا جميعا إلى الشوارع يعانق بعضهم بعضا، ويتبادلون التمر وقطع الحلوى، وطلبت منهم وسائل الإعلام أن يصعدوا جميعا بعد صلاة العشاء إلى أسطح البيوت كي يرددوا التكبيرات .. ولأن قدرتهم على حشد الجماهير عالية جدًا فقد صعد الجميع وأخذت الهتافات ترج سماء العاصمة في وقت واحد..

ولصلاة الجمعة في إيران طابع مختلف.. ففي كل مدينة تقام صلاة واحدة للجمعة يؤمها إمام واحد. لقد حلت إيران على أي حال مشكلة هذه الصلاة التي مازالت تؤرق بقية فصائل الشيعة خارج إيران. فصلاة الجمعة يجب أن يؤديها الإمام .. ولأن الإمام لم يرجع بعد من غيبته الكبرى فإن بقية الشيعة يصلون الجمعة ظهرًا عاديًا من أربع ركعات، ولكن اجتهادات الفكر الشيعي في إيران حاولت أن تنهي حالة الانتظار التي طالت بإعلان ولاية الفقيه في أمور الدنيا والدين حتى يعود الإمام. وهكذا حلت كثيرًا من المشاكل المعلقة مثل تقسيم خمس الأموال.. وتصريف أمور المسلمين وترشيح من يؤم المسلمين لصلاة الجمعة.

وفي مدينة واسعة مثل طهران لا يوجد مسجد يمكن أن يستوعب كل هذه الأعداد من الناس لذا فإن الصلاة تقام عادة في الاستاد الرياضي. وتحولت من مجرد إقامة الشعائر إلى تجمع سياسي يتم فيه حشد الجماهير وترديد الهتافات والشعارات. ويظهر خط الدولة من خلال من يرشحه الإمام كل أسبوع. هل يسود الخط المتشدد.. أم المعتدل.

على رأس الخط الأول تقف جماعة من رجال الدين الذين يسيطرون على مجلس الشورى وبعض النقابات والمؤسسات الحكومية. وهم يرون أن شعار "تصدير الثورة" يجب أن يظل مرفوعًا، وعلى إيران أن تقطع علاقاتها مع كل الدول الرجعية والمتحالفة مع الصهيونية وكل الدول الداخلة في معسكر الشيطان الأكبر أمريكا.. باختصار: العالم كله! أما الخط الثاني المعتدل فيقف على رأسه "هاشمي رفسنجاني" رئيس الجمهورية الذي يريد أن ينتقل من حالة الثورة إلى حالة الدولة وأن يعيد جسور إيران المقطوعة مع العالم. وهو يقدم لذلك العديد من المبادرات، آخرها المساعدة في الإفراج عن الرهائن الغربيين في لبنان.. ويحاول أن يفتح صفحة جديدة مع دول الخليج العربي، وأولى خطواته التخلي عن شعار تصدير الثورة الذي أثار فزعهم. يرى أنه بعد كارثة حرب الخليج يجب أن يعاد ترتيب أمن المنطقة، ويجب ألا يتم استبعاد إيران من هذه الترتيبات.

في صلاة الجمعة يظهر هذا الصراع واضحًا. من الذي سيقود الصلاة ويلقي الخطبة ويوجه مشاعر الجماهير المفعمة.

متشددون ومعتدلون

ولكن مما لا شك فيه أن خط الثورة قد تراخى بعض الشيء. وعندما كان الإمام الخميني على قيد الحياة كان التقشف هو طابع الحكم. وقد ذهبت إلى البيت الذي كان يقيم فيه الإمام في منطقة "شمران" ولم يكن يتجاوز غرفتين غاية في التواضع .. واحدة لمعيشته، وأخرى يستقبل فيها زواره الذين كانوا لا ينقطعون. وهو ينام على الأرض. ويستقبل زواره وهم جلوس عليها وهذه من صفات التواضع عند علماء الشيعة. وكان على بقية الساسة والحكام أن يقلدوا الإمام في هذا التقشف. ولكن بعد موته تغير كل شيء. بدأ الحديث في شوارع طهران، عن المساكن والقصور الفخمة الموجودة في شمال العاصمة وهي منطقة بالغة الفخامة كان يسكنها أتباع الشاه ورموز نظامه. وبعد الثورة صودرت هذه الممتلكات هي والعديد من المشروعات الصناعية والزراعية، وأخذت تديرها مؤسسة الشهداء من أجل المحرومين والفقراء .. لقد تسربت هذه القصور والمساكن الفاخرة إلى رجال السلطة الجديدة في مقابل إيجار رمزي يثير الضحك بدأ التقشف الثوري في الذوبان وبيروقراطية الدولة في الطغيان في الوقت الذي تعاني فيه العاصمة من ارتفاع معدلات الغلاء إلى درجة غير معقولة، وتثار فضائح شركات المضاربة في الأموال.

وقد ثار الخلاف بين المتشددين والمعتدلين حول موضوعين أساسيين. فقد كان الخط المعتدل يرى أن تجربة مؤسسة الشهداء قد فشلت تماما في إدارة الأملاك المشروعات التي تركها أتباع الشاه، وبدلا من أن تحقق ربحًا تثاقلت بالديون، والحل هو إعادتها إلى أصحابها وإلغاء كل قرارات المصادرة. وثارت ضجة المتشددين.. كيف نعيد رموز الحكم السابق ونعيد لهم ثرواتهم وقوتهم ونفوذهم؟

وكانت القضية الثانية هي محاولة استعادة "الأدمغة" الإيرانية المهاجرة وكذلك عودة رءوس الأموال. ومرة أخرى ثارت الاعتراضات: كيف نعيد هؤلاء الذين "تغربوا" وتحولوا إلى جرثومة يمكن أن تفسد المجتمع الإسلامي؟.. ومازالت المعارك مستمرة بين التيارين دون أن تصل إلى حسم حقيقي.

ولكن شوارع طهران تضج بنوع غريب من الحيوية. في حديقة "اللاله" الواسعة يتجمع المسنون كي يلعبوا الشطرنج حتى في الليل. والشطرنج هو اللعبة الوحيدة المسموح بها لأنها تعتمد على إثارة الذهن وليس إثارة المقامرة. وفي شارع أمير العصر تتناثر المكتبات تحتوي على خلاصات الإبداع الإيراني وكذلك على ترجمات حديثة وراقية لكل معالم الفكر الإنساني المعاصر. إنها حركة واسعة لا تسجن نفسها خلف أي فلسفة أو اتجاه محدد. وفي متحف الفن الحديث تعرض مئات اللوحات من كل الاتجاهات الفنية. وعندما كنت أقوم بزيارته كان هناك جمهور كبير خاصة من النساء، وعندما حانت لحظة الإغلاق وبدأ المسئولون عن المتحف في إطفاء الأنوار ثاروا جميعا لأنهم كانوا يريدون وقتًا أطول للمشاهدة. إنها مدينة تتصل بالعالم رغم الحجاب. وتحاول أن تقدم حسن نواياها للجميع .. وتتعالى على جراح الحرب التي أدمتها طويلا..

أصفهان.. بوابة للتاريخ

هناك مدن كأنها نزوة بشرية. وليدة مخيلة لا نتيجة لواقع، فيها شيء من سحر التفرد وغموضه. أصفهان نزوة من نزوات التاريخ. أخذت من الجبال التي تحيط بها لون الفيروز. واختزلت على جدرانها كل خطوط الأنهار والغابات. كان هناك شاه صفوي حلم أن تكون أصفهان هي كل الدنيا، لذلك وضع فيها كل ما يرمز إلى الجهات الأربع، والفصول الأربعة. قال مرافقي والطائرة تحط بنا في مطارها:

- هناك مثل فارسي يقول "أصفهان نصف جيهان" ومعناه: أصفهان نصف الدنيا. إن فيها أجمل الآثار، ولهجة أصفهان هي اللهجة المحببة دائما في كل إيران، التاريخ هنا يأخذ بعده الآسر.. حضارة الفرس وقد كساها الإسلام شيئا من حيويته. جمال خالص لكل من يهوى الجمال، وسط المدينة يقع الحي القديم. وتترابط مجموعة من أجمل معالم العمارة في العالم الإسلامي. ميدان الإمام بما يحيط به من آثار. مساجد وقصور وأسواق تقليدية. مسجد الإمام.. أو مسجد الشاه كما كان يسمى سابقا. سوف يحتويك بهذا الاتساع الخرافي كأنه عالم قائم بذاته.. إنه واحد من أعظم المنشات التي تمت في عهد الشاه عباس الأكبر. أول ما يواجهك فيه تلك البوابة التي تقوم على جانبيها مئذنتان وفي وسطهما طاووس زاهي الألوان ثم يحتويك الصحن الواسع بما فيه من حوض مياه تقوم على جوانبه البواكي ذات العقود التي تبعث بالرهبة في النفس.

لا يوجد بيت وأحد للصلاة.. ولكن هناك أربعة إيوانات ضخمة.. نظام واحد في كل المساجد.. والإيوان الأوسط هو الذي توجد فيه القبلة. ولا توجد أعمدة ولكن أبهاء فسيحة تقوم سقوفها على عقود مدببة. والقبة زرقاء.. سامقة مغطاة بالقيشاني الأخضر الضارب إلى الزرقة.. نقوشها لا مثيل لها في فن الزخرفة الإسلامية. والأهم من ذلك هو كيف حلا المهندس القديم مشكلة الصوت بواسطة هذه القبة.. ففي مثل هذه المساحة مع عدم وجود مكبرات صوت وضع المهندس تصميمه بحيث إن أي صوت يصدر من تحت مركز هذه القبة - ولو كان بالغ الضآلة - يتجسد أضعافا مضاعفة بحيث يسمع في كل أجزاء المسجد.

لقد جربنا ذلك، وقفنا تحت مركز القبة وبدأنا نصدر الأصوات العالية أولا، ثم البالغة الانخفاض مثل احتكاك عود الثقاب أو رنين قطع العملة، وفي كل مرة كان الصدى يحمل الصوت إلى كل أجزاء المسجد المتسع..

السخاء نفسه في درجة الزخرفة نجده في مسجد لطف الله المغطى من أوله إلى آخره بالقيشاني المائل إلى اللون الوردي، تحفة معمارية لم يترك فيها الفنان شبرًا واحدًا دون أن يضع الزخارف عليها. ومع ذلك ففي مربع صغير بجوار القبلة لم ينس أن يكتب عليه أيضا "صنعة العبد الحقير الفقير المتهم بالتقصير الساعي إلى رحمة الله علي أكبر أصفهاني" يسوق كل هذا الجمال في تواضع الفنان الحق. والشيخ لطف الله الذي ينسب إليه المسجد ليس إيرانيا، ولكنه أحد كبار رجال الشيعة الذين وفدوا من جبل عامل في لبنان. ففي أحد أيام عام 1501 خرج الشاه إسماعيل الصفوي من قصره، وهو يحمل سيف الإمام الغائب، وأعلن من فوق منبر أحد مساجد تبريز أن المذهب الشيعي سوف يصبح من هذه اللحظة هو المذهب الرسمي في إيران. في ذلك الوقت كانت أغلبية البلاد من السنة. وحتى يوطد هذا المذهب فقد أرسل في استدعاء 120 من فقهاء الشيعة من جبل عامل في لبنان وكان على رأسهم الشيخ لطف الله.

البذرة الكامنة

ولعل الذي ساعد على تهيئة المناخ لتحول إيران هو ذلك الصراع الذي كان ضاريا في هذا الوقت بينهم وبين الدولة العثمانية السنية. ولعل بذرة التشيع كانت أيضا كامنة في أعماق الشخصية الإيرانية، ولم يفعل الشاه الصفوي أكثر من أنه أزاح عنها التراب. كانوا يشعرون دائما بأنهم لم يأخذوا حقهم الكامل من الخلفاء. وكان هناك امتزاج بين صورة الإمام علي رضى الله عنه وبين بطلهم رستم الذي تتحدث عنه الأساطير، كما أن إحساسهم كان عميقا بواقعة كربلاء التي استشهد فيها الإمام الحسين.

والتاريخ الإيراني المركب يبدو واضحًا في المسجد الجامع، أقدم مساجد إيران، لأن عمره يتجاوز إلى 900 عام. كان في الأصل معبدًا لنار المجوس، ثم تحول إلى مسجد بعد الفتح الإسلامي. وأعاد بناءه السلاجقة، ثم هدمه المغول، ثم أعاد الصفويون بناءه من جديد .. اعتراه الحذف والإضافة. ولكنه جمع كل فنون العمارة المختلفة التي تعبر عن شخصية الفنان الإيراني.

ولا تنتهي نزوات الملوك.. ففي الميدان نفسه يوجد قصر علي قابو، قصر مرتفع من ستة طوابق، جدرانه كلها مكسوة بالخشب بحيث تترك بينها وبين الصخر نوعًا من الفراغ. كان الشاه ومحظيته يجلسان في إحدى الغرف. وتجلس فرقة موسيقية في غرفة أخرى ويبدأ الغرف فتنساب الألحان وسط الفراغ الموجود كي تملأ كل جنبات القصر وتصل في رقة ونعومة إلى الأذن الملكية.. وحتى بعد أن تتوقف الفرقة عن العزف تبقى أصداء الصوت وهي تدور في كل الغرف لمدة ساعتين..

وتمتد نزوات الملك في جلساته على شاطئ نهر "زانيا دارود" الذي يشق قلب مدينة أصفهان. يمتد عبر عشرات المدن والقرى الصغيرة، دون أن يكف عن الانقسام والتوالد. وهذا هو معنى اسمه بالفارسية. على هذا النهر أقيم جسر "خاجا". تصميم معماري لا يوجد له مثيل في العالم الإسلامي، فالماء ينفذ من خلال منحنيات الجسر التي يبلغ عددها 33 قبوا ويستطيع أي إنسان أن يهبط مع الدرج الحجري ليلمس النهر في أي موضع. ولابد أن الشاه عباس كان يجلس فوق هذا الدرج، ويدلي بقدميه في المياه الباردة ويشعر أنه قد ملك نصف الدنيا إن لم يكن قد ملكها كلها..

يقول الدكتور معروف طهراني أستاذ التاريخ بجامعة طهران:

إن أصفهان هي عنوان استكمال إيران لشخصيتها السياسية وبداية دخولها إلى العصر الحديث. وقد ظلت هي عاصمة البلاد حتى نقلها أحد ملوك القاجار إلى طهران. لقد مرت على إيران دول كثيرة ساسانيون وأخمنيون قبل الإسلام.. وأتراك وسلاجقة ومغول بعد الإسلام ولكن طابعها المميز بدا واضحًا خلال الدولة الصفوية.

كانت إقامتنا في مدينة أصفهان في فندق عباس .. هو ليس فندقا، ولكنه متحف، بكل ما في هذه الكلمة من معنى.. فكل جزء منه هو تحفة معمارية سواء كانت الأبهاء .. أو الحديقة الملحقة به. لقد كان الفندق قبل ذلك هو قصر الشاه عباس الذي بلغت الدولة ذروتها في عهده، وتصدى لمحاربة البرتغاليين ومحاولة طردهم من مضيق هرمز ولكن عداءه للأتراك العثمانيين ذهب به بعيدًا فقد دفعه ذلك للتحالف مع الإنجليز، الأمر الذي أدخل في الجسد الإيراني جرثومة قاتلة لم تستطع أن تتخلص منها بسهولة.

شيراز.. بوابة للعشق

سوف تمر آلاف السنين

وسوف يبقى أريج العشق ينبعث من تربة سعدي.

أبيات من الشعر مكتوبة في مدخل مقبرة سعدي. ولابد أن هذا الأريج يملأ مدينة شيراز كلها. لقد اكتسبت المدينة سحرها من بلاغة الكلمات التي قيلت تحت سمائها، ولأن تربتها ضمت رفات أكبر شعراء الفارسية والأماكن التي عاشوا فيها والينابيع التي ارتووا منها.

كي ندخل شيراز يجب أن نمر من تحت بوابة القرآن.. إنها تعويذة تهبها المدينة لكل قادم إليها أو مغادر منها.. بوابة في قمتها نسخة قديمة مخطوطة من القرآن الكريم تزن حوالي 95 كيلو جراما. ولا يشعر أي مسافر بالأمان إلا إذ مر من تحتها.

ونتوقف قليلا أمام مزارع التبغ خارج المدينة. إنها أشهر مزارع للتبغ في العالم لا لجودة إنتاجها فقط ولكن للأزمة السياسية التي أحدثتها منذ قرن من الزمن.. فقد أعلنت هذه الأزمة عن وجود مؤسسة دينية قوية في إيران قادرة على تحدي الشاه، وهي التي وضعت بذور الثورة التي قادها رجال الدين بعد ذلك بقرن من الزمن.

في عام 1880 وقع شاه إيران القاجاري ناصر الدين اتفاقاً مع أحد العسكريين الإنجليز كي يستخدم تبغ إيران لمدة 50 عامًا في مقابل 150 ألف جنيه إسترلينى فقط ونسبة ضئيلة من ربح الشركة. وبدأت شركة " الميجور تالبوت" تمارس ضغوطها على الفلاحين الفقراء حتى تشتري منهم التبغ بأسعار بخسة وتصنعه ثم تبيعه بأعلى الأسعار. وثار أهل شيراز ومزقوا إعلانات الشركة، ومنعوا الموظفين من دخولها، ودعا رجال الدين إلى العصيان المدني، ولكن الحكومة لم تستجب بل واصلت ضغوطها على الناس وألقت القبض على رجال الدين.

وصل الأمر إلى مرجع الشيعة الأكبر في هذا الوقت آية الله الميرزا محمد حسن الشيرازي الذي أصدر أشهر فتوى في تاريخ إيران "التدخين حرام. ومن يقدم عليه فكأنه يحارب إمام الزمان الغائب" وكأنما كان الجميع في انتظار هذه الفتوى. فقد طبعت ووزعت في كل مكان بإيران. وجمعت النساء كل الغلايين وقام الرجال بإحراقها في الميادين العامة، وأغلقت كل المحلات التي تبيع التبغ وتوقفت كل السفن التي تشحنه. واستيقظ الشاه في صباح اليوم التالي وطلب من الخدم أن يحضروا له غليونه ليدخن .. وكانت المفاجأة عندما أخبره الخدم أنهم قد قاموا بتكسير كل الغلايين. وثار الشاه. كيف يفعلون هذا دون استشارته. ورد الخدم في برود: إن هذه فتوى الشريعة، ولا ضرورة للرجوع إلى السلطان فيما أفتى به الشرع..

شلت الشركة، وتكدس الدخان في مخازنها وفقد الشاه الأرض الصلبة التي كان يعتقد أنه يقف عليها واضطر إلى إلغاء الامتياز. لقد بدأت قوى جديدة في التبلور داخل الوجدان الإيراني.

أشعار العشق

ولكن .. قاتل الله السياسة .. لقد أخذتنا من حديث العشق ومن شوارع شيراز الرحبة القريبة جدًا من السماء. شيراز هي مهد فارس القديمة، وبها بقايا آثارها. ورغم احتفاظها باللغة الفارسية إلا أن الإسلام قد أكسبها مسحة من الروحانية الشفافة. وتحولت أشعار الغزل إلى نوع من السمو الروحي، ومحاولة الذوبان في سر الوجود ما زالت تتصاعد من قبر سعدي الشيرازي أدعية الدراويش.. وتمتلئ التكايا القديمة بظلال تطوحاتهم من فرط الوجد. وما زال نبع الماء الصافي الذي كان يشرب منه حافظ جاريا.

قبر "سعدي" مكون من قطعة واحدة من الرخام. محفور عليها بيت من أشعاره:

" لو دعوت لي ولو دعوة واحدة فسوف يتقبلها الله وتستريح روحي..".

تتناثر حوله أبيات من أشعاره من ديواني "البستان" و"الجلستان". وهي التي وضع فيها خبرة حياته الطويلة بكل ما فيها من سعادة ومرارة .. لقد نشأ يتيما.. وبدأ السفر مبكرًا.. من شيراز إلى بغداد .. ثم إلى كل عواصم العالم الإسلامي، 40 عامًا وهو يتجول من مكة إلى سوريا إلى فلسطين والقاهرة ثم الهند وباكستان. ولم تكن تجربته سهلة على طول الخط. فمن الحوادث البارزة في حياته أنه قد تعرض إلى أسر الصليبيين وأرغموه على أن يعمل أيامًا شاقة في حفر الخندق الموجود حول قلعة طرابلس.

ولكن كل هذه التجارب جعلته أكثر شعراء الفارسية دقة وبلاغة. فقد قدم لها أكبر تراث شعري. ورغم مرور 710 أعوام عليها فلا تزال أشعاره تمتلك الحيوية، لا تزال تغنى. ولا يزال الفنانون يرسمون اللوحات المستقاة منها كما أن أبياتها تغزل مع خيوط السجاد وترسم على وجه القيشاني الذي يغطي القصور.

والعاشق الآخر لشيراز هو الشيخ حافظ الذي عاش في المدينة نفسها بعد سعدي بمائة عام. كان صغيراً جدًا عندما حفظ القرآن. لذلك غلب عليه اسم "حافظ ". كان عصره مضطربا. شاهد أكثر من أربعة ملوك اغتيل منهم ثلاثة وهم يتوالون على مدينته. كتب 6000 قصيدة يصف فيها كل شيء في هذه المدينة التي لم يغادرها أبدًا ورفض الدعوات التي وجهت إليه من أمراء وملوك الدول الأخرى. لقد رحل بقلبه إلى كل هذه العوالم.

أطلال داريوس

ورغم متحف المدينة الذي يحتوي على الكثير من الآثار الفارسية القديمة.. إلا أننا كنا نريد أن نرى أطلال هذه الحضارة.. حركة الزمن التي لا تبقي ولا تذر ولا تخلف سوى الأثر. كانت السيارة تنهب بنا الطريق خارجة من شيراز على طريق ممتد متجهين إلى مدينة برسوبوليس القديمة، أو تخت جشميد كما يطلق عليه الاسم الفارسي. على الجانبين وقبل أن ندخل عصور الفرس القديمة. كنا نمر بمعالم الصناعة الإيرانية الحديثة. مصنع الحديد والصلب، سيارات، تجميع طائرات، كيماويات، صناعات بترولية. إنها منطقة جذب سكاني خاصة لسكان خوزستان الذين دمرتهم الحرب. وهم جزء من 4 ملايين من أصل عربي يعيشون في إيران وتختلط على ألسنتهم الكلمات العربية والفارسية.

الأطلال تلوح من بعيد. أعمدة ما زالت سامقة. ونقوش ناطقة. هناك كان قصر داريوس آخر ملوك الأخمنيين العظام قبل أن يقتحمها الإسكندر الأكبر ويدمرها. على الأعمدة صورة للملك العظيم وهو يصارع كل أعدائه. لقد جمعهم في حيوان واحد له رأس أسد ومخالب نسر وذيل عقرب. لقد حارب فيهم داريوس كل رموز الممالك القديمة.

الروايات الشعبية تربط بين داريوس والإسكندر برباط الدم .. تصورهما أخوين يجمعهما أب واحد تزوج من امرأة يونانية وأخرى فارسية. وجاء الولدان كي يكملا الصراع على العرش. لقد وحدت الأساطير بين القاتل والقتيل وخلقت قصة أخرى موازية للتاريخ..

كان المكان يكشف لنا عن لعبة التاريخ، دراما الصعود والهبوط حيث لا خلود. أسفل الأطلال هناك مجموعة منصوبة من الخيام الملونة. تحولت الآن إلى معسكر للشباب ولكنها قبل عشر سنوات كانت محط أنظار العالم وأحد أسباب قيام الثورة. في هذا المكان حاول شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي أن يبعث التاريخ وأن يثبت أمام العالم أن عرش الطاووس يعود إلى 2500 عام إلى الوراء. كان يريد أن يحتفل بمرور 26 عامًا على توليه العرش وأن يتوج نفسه بنفسه أمام أنظار 86 ملكا وأميراً ورئيس دولة وعدد لا يحصى من المدعوين، كانت الاحتفالات بالغة البذخ كأنها تحاول تجسيد كل الزهو العابر لإمبراطورية فارس. والتاج الذي وضعه الشاه على رأسه صنعه أشهر محل للجواهر في باريس ويحتوي على أكثر من ثلاثة آلاف ماسة. وتكلفت الاحتفالات التي لم تدم أكثر من ثلاثة أيام أكثر من 120 مليون دولار وكانت ثمنًا بخسًا للثورة التي اشتعلت في الصدور وأطاحت بعرشه.

ومن الغريب أن الشاه في لحظة هروبه الأخيرة إلى الخارج كان حريصًا على أن يأخذ معه هذا التاج. ولكنه كان في هذه اللحظة محفوظًا في الخزائن المحكمة أسفل البنك الإيراني الوطني. وظلت عربات الجيش المصفحة تخوض وسط أمواج المتظاهرين ثلاثة أيام لعلها تجد من يفتح لها هذه الخزائن دون جدوى فقد كان كل العاملين في البنك مضربين. وتشاءم الشاه وهو يغادر إيران دون أن يكون هذا التاج في صحبته ولم يقدر له أن يعود إليه أبداً.

" مشهد ".. بوابة للدين

كنا نبحث عن تذاكر للطائرة التي ستحملنا إلى "مشهد" ولكننا لم نجد مكانا فكل الطائرات كانت مشغولة لشهور قادمة. الحركة إلى مشهد لا تهدأ رغم البرد والثلوج التي تغطي جبالها. شعرنا بالأسف فهناك مثل يقول .. إن من زار إيران دون أن يشاهد "مشهد" فكأنه لم ير إيران .. ماذا كنا نفعل والزيارة على وشك الانتهاء وعلينا أن نستعد لتوديع مرافقينا. ذهبنا كي نحجز تاريخ العودة وهناك كانت المفاجأة في انتظارنا.. لقد وجدنا تذاكر إلى "مشهد". بعض المسافرين تخلقوا في اللحظة الأخيرة وشغرت أماكنهم.

هلل الجميع:

- الإمام الرضا سمح لنا بالزيارة.

كنا نغوص مرة أخرى في تاريخ الاستشهاد الطويل. نسعى إلى مرقد الإمام الثامن من بين الأئمة الاثني عشر الذين جاءوا ومروا على العالم دون أن يغيروه، وحملوا في قلوبهم حلم العدل دون أن يستطيعوا تحقيقه. طويل هو تاريخ الشهداء في إيران. مطاردة لم تهدأ حدتها من عصور الخلفاء القدامى حتى أيام الشاهنشاهات المحدثين. أيام الندم التي بدأت عندما سقط الإمام الثالث في كربلاء ولم تنته حتى الآن. تحتنا جبال متشابكة تغطيها الثلوج وتبدو بينها الوديان موحشة. هذه هي حدود خراسان. خرج منها أبو مسلم الخراساني يحمل رايات بني العباس فسار إلى فخ الموت. وإلى هنا هرب دعاة الشيعة وانتظروا طويلاً عودة الإمام. تلوح لنا القبة المذهبة والطائرة تدور حولها ببطء وجلال. تقودنا السيارة وسط مدينة ساكنة ووادعة. يسودها جو روحي يمنحها قدرًا، من السكينة والغموض. الحوانيت الصغيرة تبيع الزعفران الشهير وفصوص الفيروز الزرقاء. كل شيء يحملك بعيدًا عن زمننا إلى زمن الإمام الرضا. إمام غريب في زمن غريب، عاش مظلومًا ومات مقتولا شأنهم جميعا. ولكن الإمام الرضا لعب لعبة السياسة إلى حد ما، وافق أن يكون وليا لعهد الخليفة المأمون، رغم أن المأمون لم يختره إلا نكاية في أبناء عمومته من بني العباس.. وتأكيدًا لذلك فقد وهب له مقاطعة خراسان التي تتوسطها مدينة "مشهد". وما زالت المدينة موهوبة للإمام حتى الآن. ثم تقلب المأمون وكان يجب أن يتقلب. ومات الإمام مقتولا بالسم. ولكنه لم يفقد لقبه ولا سلطانه رغم الموت ورغم مرور هذه القرون الطويلة، فما زالت الألقاب السلطانية منقوشة على كل مكان بالحرم بالقيشاني الملون. وما زال حارس السلطان يقف على الباب وهو يمسك قضيبا من الفضة المنقوشة احترامًا وإجلالاً لمكانة السلطان. وهناك جوقة من الموسيقى تحمل الطبول والمزامير القديمة تعزف له في الفجر حتى يستيقظ وفي المساء قبل أن ينام. وزوار الإمام يعاملونه أيضًا معاملة السلاطين. يقبلون الأعتاب قبل أن يدخلوا إليه.. ويتلون مراسيم الزيارة في لهجة مليئة بالعذوبة. ويلمسون أسوار مقامه في صعوبة. ثم يتراجعون بظهورهم وهم يبالغون في الانحناء وما زالت أرض مشهد وقفًا عليه.. الأراضي ملكه، والبيوت والحوانيت يدفع قاطنوها الإيجار له. ولأن دخل الإمام كبير ما بين ريع أراض وإيجارات ونذور، فقد تكونت الأستان ة الرضوية المقدسة، أو بالأحرى الحكومة الحقيقية للسلطان. إنها مؤسسة تستثمر هذه الأموال وتوظفها من أجل الحفاظ على ذكر الإمام .. وهكذا تأسس مجمع البحوث الإسلامية الذي يعمل به ما يقارب 300 من العلماء والباحثين، وجامعة رضوية للعلوم الإنسانية، ومؤسسة للطباعة والنشر، ومتحف للقرآن الكريم فيه مجموعة من أنفس المخطوطات، ومتحف إسلامي يعد واحدًا من أكبر المتاحف في العالم. ولم ويتوقف استثمار أموال الإمام على المشروعات الثقافية فقط، بل امتد إلى مجال الزراعة حيث أنشئت المزارع النموذجية وأقيمت الحظائر لتربية المواشي والبساتين والسدود الترابية، والى مجال الصناعة فأنشئت شركات التعليب والتبريد والمعجنات والإسكان والتعمير والنسيج والسكر بل وهناك أيضًا شركة طبية متخصصة في إنتاج الأمصال.

قالوا لي:

هذه زيارتك الأولى للإمام .. ويمكنك أن تطلب منه ثلاثة طلبات. تماما مثلما تدخل وتطلب عطايا الملوك. الوفود إلى "مشهد" لا تنتهي. الأروقة تأخذ الألباب ببهائها واتساعها وأشكال القيشاني التي تكسو كل شبر فيها. وهناك سخاء بالغ في الزينة.. أبواب المقام مصنوعة من الذهب المطعم بالمينا، والسقوف مغطاة "بالكرستال"، والأهم من هذا الجمال المعماري هو ذلك التدافع البشري، وتلك الرغبة الحادة في التضرع ومحاولة التعلق بحلقات المقام والإجهاش بالبكاء الحارق على أعتابه. المؤمنون يسعون إليه من كل مكان في إيران وأفغانستان وبعض بلاد الخليج. ينامون في ساحات المسجد المفتوحة بعد أن يربطوا خيطًا بينهم وبين نافذة المقام لعله يتجلى لهم أن خلال الرؤيا.

وتزداد حدة الزحام إلى أقصاها في مطعم الإمام، فهو يقدم حوالي 2500 وجبة مجانية كل يوم، وجبة صغيرة تتكون من الأرز وبعض اللحم. ولكن الصراع يبلغ أشده بين المتزاحمين. إنهم ليسوا جوعى بالجسد، ولكنهم جوعى الروح.، فهم يقبلون من البلاد البعيدة ومن فجاج الجبال الوعرة. بعضهم مرضى ويرغبون أن تحمل لهم الوجبة الشفاء. وبعضهم أبناء جاءوا من أجل أمهاتهم وآبائهم العاجزين عن الحركة كي يحصلوا ولو على حفنة صغيرة من الأرز ويعودوا بها في سفرهم الطويل كأنها كنز من الكنوز.

إنها أحلام الفقراء والمستضعفين في كل مكان. ولا تتوقف رحلاتهم إلى مقامات الأئمة. ففوق جبال إيران تتناثر مقامات المئات من أبناء الأئمة والشهداء، وهناك أكثر من 100 احتفال بهم على مدار العام. وإذا كان أهل السنة من المسلمين يقدسون ثلاثة من البلدان هي مكة والمدينة المنورة والقدس، فإن الشيعة يضيفون لهذه المدن أربعا أخرى .. هي النجف التي دفن فيها الإمام علي رضي الله عنه، وكربلاء التي دفن فيها الإمام الحسين، ومشهد، وقم التي دفنت فيها فاطمة المعصومة أخت الإمام الرضا..

كان سكان قم من أشاعرة الكوفة. كلهم من أصل عربي. انتقلت بطونهم إلى هذه المدينة هربا من بطش الخلفاء. والسائر من طهران إلى قم يمر بمنطقة جبلية موحشة، ويمر أيضًا ببحيرة الموت البالغة الملوحة التي كان رجال "السافاك" يلقون فيها كل من يعارض حكم الشاه. ولابد أن هذا هو أيضًا الطريق الذي سلكته فاطمة المعصومة، وهي ذاهبة لزيارة أخيها الإمام الرضا. ولكن جماعة من قطاع الطرق خرجوا عليها وقتلوا كل أتباعها وتركوها وحيدة وسط الصحراء. وعندما علم أشاعرة قم بها حدث، هرعوا إليها وأخذوها إلى المدينة وهي في حالة سيئة، ولم تلبث أن فارقت الحياة. وبني لها المقام في المكان نفسه، وما لبث أن اتسع ونشأت بجانبه الحوزة العلمية التي خرج منها آيات الله الذين دكوا عرش الشاه. إنها مدينة موهوبة للعلم وهذا أفضل ما فيها. في كل ساحاتها يجلس الطلبة وهم يتذاكرون. وتتم الدروس الدينية باللغة العربية. وهناك ست درجات للطالب .. الأولى هي طالب العلم، والثانية بعد التخرج فيصبح مجتهدًا، ثم يبدأ خطوات الدعوة فيسمى "مبلغ رسالة"، ثم حجة الإسلام ويترقى بعد ذلك إلى آية الله. وعندما يصبح مرجعية "يعود إليها الجميع ويقدم بحثاً عالي القيمة يحصل على لقب "آية الله العظمى". وحسب تقاليد الحوزة العلمية في قم لا يوجد أكثر من خمس آيات عظمى في وقت واحد. ولا يجوز أن يقبض عليه أو يسجن. وهذا الحق يكفله له الدستور. وعندما قبض جنود السافاك على آية الله الخميني، وأوشك أن يودع في سجون الشاه، أسرع زملاؤه من آيات الله وقبلوا رسالته العلمية "تحرير الوسيلة" ومنحوه لقب آية الله العظمى، وبذلك أصبح من المستحيل القبض عليه والزج به في السجن. ولم يجد الشاه بدا من نفيه إلى الخارج.

كتابات على البوابة الأخيرة

كل حضارة كتبت تاريخها بطريقتها الخاصة، على الحجر أو ألواح الطين أو الخشب. ولكن إيران اختارت أن تغزل تاريخها على السجاد.

لقد أخذت اسمها من قوام الآريين الذين هاجروا إليها وامتزجوا بالعناصر الأصلية فيها. ومن خلال هذا التمازج بزغت شرارة الحضارة على الهضبة الفارسية. وفي كل منطقة من مناطقها عبرت عن نفسها بلون معين من السجاد. وهكذا كونت أنواع السجاد خريطة أخرى للأجناس البشرية بها.

في متحف السجاد وسط العاصمة طهران وقفنا مبهورين أمام تلك اللوحات التي غزلتها الأصابع وحولتها إلى صور فوتوغرافية حية لكل وقائع التاريخ. قال مرافقنا:

- حتى وقت قريب كان خروج السجاد النادر من إيران ممنوعًا. وكل ما ترونه حولكم هو سجاد مصادر من عمليات التهريب.

يا إله السموات. يامن ولّدت كل هذا الجمال من بين أصابع البشر. كيف تآلفت الخيوط كي تعيد بداية تكوين الخليقة. هذا آدم يستعد لأكل التفاحة، وإبراهيم يخطو فوق النار، والمسيح يسير على الماء، والوحي يستعد للنزول إلى الغار، والحسين يسير إلى الشهادة. عشاق الخيام، وتلاميذ النظامي، وأبطال الشاهنامه ينهضون. هؤلاء كل الشاهنشاهات الذين عبروا .. صفويون وقاجار وبهلويون، تحيط بهم زهور اللاله .. أشهر زهرة إيرانية حتى أنها أخذت مكانها على العلم. هذه هي الأرض والسهول ووجوه الصبايا. ها هو الجمال خالصًا وقد سكن ذات لحظة نادرة من الزمن وخلق لنفسه وجودًا لا تملك وأنت تراه إلا أن تحس بالرغبة في البكاء.

حدث لي هذا وأنا أشاهد السجاد الذي صنعه "حبيبيان" أشهر صانع للسجاد في العالم والذي يكفي أن توضع علامته فوق أي سجادة حتى تباع بآلاف الدولارات. كنت في شوق غامض لأن أراه. قالوا لي إنه مريض وإن طريقه بعيد ولكني سرت إليه. من طهران إلى أصفهان ثم إلى نائين، تلك البلدة التي تسكن وسط الجبال، سماء شاحبة. وسحب سوداء تنكسر فوق القمم، والبيوت لها لون الصخور. بلدته تشكو من ندرة المياه وتظل تخزنها طوال الشتاء في آبارها العميقة. تتشكل دروبها وطرقها تبعًا للجبل الذي يحاصرها وحتى البيوت لا أحد يدري إن كانت بيوتًا حقيقية أم مغارات داخل الجبل. المدينة لا تشتهر بالسجاد فقط، ولكنها تشتهر أيضًا بتلك العباءات الفاخرة المصنوعة من وبر الجمل. الأنوال التي تنسجها موجودة داخل تجاويف الجبال وسط ظروف قاسية ينكب عليها صناع مسنون عندهم صبر الرهبان وهم يغزلون وينعمون الصوف الخشن حتى يتحول إلى نسيج رقيق.

في كل بيوت نائين تتناثر صناعة السجاد، نساء وبنات صغيرات. في هذه البلدة عندما ينجب الأب بنتا فإنه يستبشر خيرًا، لأنها تمثل يدًا إضافية سوف تعمل في السجاد. تقودنا الدروب الضيقة إلى بيت حبيبيان، بيت كبير تحيط به حديقة مليئة بأشجار الرمان، وهو يجلس فوق أريكته مثل حكيم فارسي قديم. أبدع في الزمن وقال كل حكمته باللون والخط. قال.. لقد علمت الجميع دون أن يعلمني أحد. رأيت المساجد والأضرحة والتكايا فنقلت كل ما عليها من رسوم واستقيت ألوانى من مواد لا يعرف أسرارها غيري. ثم بدأ يفرد أمامنا آخر ما أنتجه من سجاد كأنما يبعث بحرًا زاخرًا ويستخرج كل ما في جوفه من محارات وأقمار وشموس غارقة. كان يعيد إجلاء كل الألوان الخفية. قلت له أليست هناك سجادة لم تفكر في بيعها.. قال لي في أسى: إنني مرغم على بيع هذا السجاد، ولو كان لي الخيار، ما بعت منها خيطا واحدًا.

هل فتحت لنا بوابة آسيا كل بواباتها.. هل أعطتنا بعضا من أسرارها؟

مما لاشك فيه أنها قد فتحت قلبها هذه المرة. لقد قدمت تجربة إسلامية عاشت طويلا ضحية للشك وسوء الفهم، وهي لا تريد من الجميع سوى أن يكفوا عن توجيه الاتهامات إليها، وأن يتمهلوا قليلاً حتى تنضج تجربتها الجديدة. هل هذا هو الوجه الحقيقي .. أم أنها ترتدي قناعًا آخر من تلك التي ارتدتها الشيعة عبر عصور "التقية" الطويلة؟

هذا هو ما سوف يكشف عنه الزمان.