هل يرتبط الإبداع بالمخدرات حقا؟

هل يرتبط الإبداع بالمخدرات حقا؟

في بعض الأوساط الأدبية العربية تروج دعوى أن الإبداع يمكن تحفيزه عن طريق المخدرات, وهي دعوى خطيرة في منطقة تكتوي بآثار المخدرات, لهذا وجبت المراجعة.

وهناك حكايات متواترة عن أن الشاعر الفرنسي (بودلير) قد كتب ديوانه الشهير (أزهار الشر) تحت تأثير المخدرات وخاصة الأفيون, وهناك شواهد كثيرة متواترة يذكرها (سنكلير) في كتابه عن (إدجار آلان بو) عن تلك الهلاوس والسلوكيات العنيفة, وفقدان الذاكرة, والأفكار والمشاعر العدمية, التي سيطرت على هذا الكاتب الأمريكي الشهير نتيجة لإسرافه في تعاطي الخمور. فما حقيقة هذه العلاقة المزعومة بين الإبداع وتعاطي المخدرات?

وفي كتابه (الإبداع والمرض) (عرضنا له في عدد شهر يناير 1993 من مجلة العربي) وفي الفصل الثامن هذا الكتاب يتحدث فليب ساند يلوم (وهو طبيب وجراح أمريكي شهير) عن الاستشارة المصطنعة للإبداع (وهنا يذكر أن العديد من الشعراء والفنانين التشكيليين والمؤلفين الموسيقيين قد تعاطوا الخمور بحثا عن إثارة ما للأفكار والانفعالات, وطلبا لراحة العقل من بعض انشغالاته المحدودة, وسعيا وراء التخفف من التوتر المستمر في الحياة, ومظاهر الكف أو الكبح النفسي التي تعوق المرء ـ كما اعتقدوا ـ عن أن يحيا الحياة عند أقصى حدودها العضوية, وحيث يمكن أن ينعم بالخيال والتلقائية والحرية والإلهام.

لكن الخمور كما يشير (ساند يلوم) قد تؤدي بمتعاطيها إلى أن يتحول إلى شخص شبيه بالمرضى الفصاميين حيث تسيطر عليهم الخداعات الإدراكية والهلاوس, واللغة المفككة, وتداخل حدود الزمان والمكان. لقد رسم (الرسام الفرنسي) أو تريللو (1883 ـ1955) العديد من لوحاته المتأنقة المتقنة عن باريس تحت تأثير الخمر, بظلال مرهفة من الأبيض والأخضر والرمادي, وقد قيل إن أقاربه كانوا يتركونه ومعه زجاجة خمر وقماشة رسم جديدة بيضاء ثم يعودون إليه بعد ذلك فيجدون زجاجة خمر فارغة, ورساما مخمورا, ولوحة جميلة صور فيها مشهدا من المونمارثر بجوها الباريسي النابض بالنشاط.

لكن مع تزايد اعتماد (أو تريللو) على الخمر ضعفت قواه ووهنت وسائله في التعبير وظهر التفكك والتعثر الواضح في لوحاته.

وخلال القرن التاسع عشر زاد الاعتماد على الأفيون, خاصة لدى الشعراء, اعتقادا منهم أنه يعمل على استثارة القدرة الإبداعية ويساعد كذلك على التخفف من التوترات النفسية والمشكلات الخارجية, وقد شاع استخدامه لدى شعراء رومانتيكيين أمثال كولردج الذي أطلق عليه اسم (حليب الفردوس) وزعم أنه رأى قصيدته (كوبلاخان) في الحلم, وأنها قد جاءت له بعد أن نام عقب تعاطيه للأفيون, وكذلك استخدم الشاعر كيتش هذا المخدر, ثم امتنع عنه بسبب آثاره المضللة المعتمة للعقل. وبرغم ما عرف عن الموسيقار (هيكتور برليوز) من أنه تعاطى بعض المخدرات للتخفف من آلام الأسنان الشديدة التي عانى منها, فإنه لم يعرف عنه على نحو يقيني أنه قام بتأليف الموسيقى تحت تأثير الأفيون, هذا رغم ما قاله البعض عنه من أنه ألف سمفونيته الخيالية الشهيرة تحت تأثير هذا المخدر, حيث يبدو فيها هذا اللجوء الخاص لقصة خاصة حول حلم ما يحدث لفنان ما تحت تأثير الأفيون, هذا المخدر الذي تتحول من خلاله عذابات هذا الفنان ومسراته إلى صور خيالية.

في كتابة (اعترافات آكل أفيون إنجليزي) يتحدث الكاتب (دي كوينسي) عن كيف أصبح عبدا للأفيون بحيث أصبح خاضعا له كسلطة وحيدة في حياته, وقد أشار إلى أنه لم يلجأ إليه (بحثا عن اللذة), ولكن (هروبا من الألم) وقد عرف عنه أنه كان يعاني من آلام شديدة في الوجه ناتجة عن حالة تسمى Trigeminal neurolgia تصيب العصب المثلثي في الوجه ويقال إن آلامها الشديدة قد تدفع بعض المرضى ضعاف الارادة إلى الانتحار.

وبرغم أن (دي كوينسي) قد تحدث عن الأفيون باعتباره العلاج الناجع لكل آلام البشر, وأنه سر السعادة الذي اختلف حوله الفلاسفة, فإن مسرات هذا العقار قصيرة بينما أحزانه وآلامه كثيرة, وقد حدثت لهذا الكاتب حالات كثيرة (من فقدان الشعور بالزمن ومن القلق العميق والحزن والكآبة الجنائزية).

من المتعاطين للأفيون أيضاً الشاعر والفنان الفرنسي (جان كوكتو) الذي استخدم هذا المخدر ـ كما قال ـ لاستعادة توازنه العقلي (أنا أفضل التوازن الاصطناعي على عدم التوازن على الإطلاق) وقد رسم كوكتو صورة شخصية لنفسه تحت تأثير الأفيون ظهر فيها وكأنه شبح كابوسي مفكك الأوصال يعاني من اكتئاب حاد ويفتقد السعادة بشكل كبير.

نادي الحشاشين والمهلوسين

إضافة إلى الخمور والأفيون اعتمد (أرثر رامبو) الشاعر وتيوفيل جوتييه (الشاعر والروائي) على الحشيش, بل كما يشير (ساند بلوم) أنهما أسسا (نادي الحشاشين) في منتصف القرن التاسع عشر) وقد اعتقدا أنهما بتعاطيهما لهذا المخدر يمكنهما سماع أصوات الألوان, أي النغمات الخضراء والحمراء والصفراء, وفيما يشبه ما سمي بعد ذلك في النقد الأدبي بتراسل الحواس أو التأليفية (أو التركيبية) Synesthesia حيث تمتزح أكثر من حاسة في تكوين الصورة الشعرية, وكما حددها الشاعر بودلير نفسه في حديثه عن معرض للرسم في باريس عرف باسم صالون 1846 (حين قال) أمام الظلال الزرقاء الكبيرة المباشرة تتابع حشود من نغمات الألوان البرتقالية, والزهور الواهنة التي تشبه الصدى البعيد الخافت للضوء.. ففي اللون هناك التناغم واللحن والمصاحبات الموسيقية). وفي حديث بودلير هذا عن (نغمات الألوان) وعن (أصداء الضوء).. إلخ تركيبات خاصة بصور تجمع بين أكثر من حاسة وهي صور يتكرر الحديث عنها في ظل تعاطي مخدرات مسببة للهلاوس كعقار L.S.D مثلا.

كذلك تحدث (جوتييه) عن تلك الحالة التي كان يشعر فيها بأنه قد تحلل فأصبح لا شيء (كنت غائبا ومتحررا من ذاتي. من ذلك المراقب المزعج الذي يطاردنا في كل مكان, ولأول مرة في حياتي استطعت أن أكون تصورا عن الملائكة والاروا, متحررا من ربقة الجسد).

وقد مر (بودلير) أيضاً بنفس الخبرة الخاصة بالحيوية الفائقة, والوصول إلى (الآفاق العليا) بعد تعاطي الحشيش, فخلال إحدى حالات الثمل أو التسمم الجسدي والنفسي بفعل الحشيش رسم صورة شخصية لنفسه عبر من خلالها من شعوره الهائل بالقوة والعظمة والتفوق, وعندما أفاق من تأثير المخدر شعر بالغثيان والرغبة في القيء على نحو شديد. لكنه مع ذلك لم يتوقف عن التعاطي لمثل هذه المخدرات.

حدث تغير غريب في التصورات الخاطئة حول المخدرات لدى المبدعين مع ظهور عقار (المسكالين) وهو من المخدرات المسببة للهلوسة. وقد اعتبر الكاتب الإنجليزي الدوس هكسلي استخدامه لهذا العقار أمرا حاسما في حياته, وشيئا قام بتغيير أفكاره حول الحياة الإنسانية كما قال (لقد رأيت خبرة تشبه المعجزة, لحظات من الوجود الصافي, أزهارا تنمو بألوان ناصعة تشع بضوئها الداخلي, (وذكر هكسلي أن خبراته قد أصبحت قوية بدرجة كبيرة, وقد (استعادت العين بعضا من البراءة الإدراكية للطفولة) وقال هكسلي أيضا إن (المكان والمسافة قد توقفا عن أن تكون لهما أهمية, .. فالعقل ليس منشغلا أساسا بالمقاييس والمواضيع بل بالوجود والمعنى, وليس هناك أدنى مبالاة لا بالمكان ولا بالزمان). وقد كان هكسلي يوافق على ما قاله (بودلير) من ضرورة الهروب من (ذلك الشعور المرعب بالزمن) وكان هكسلي في كتابة (أبواب الإدراك) يشبه المخدرات بالعكاكيز. (جمع عكاز) التي يتكىء عليها المرء عندما تضعف قدراته وقال عنها أيضاً إن تعاطيها يماثل رحلات قصيرة يقوم بها المرء عبر (باب في الحائط) مستعيرا تعبيرا من هـ. ج ويلز (وأن هذه الرحلات في رأيه ستجعل الفنان أكثر تفتحا وأكثر وعيا بما يدور في داخله وفي خارجه).

وأخيرا فقد زعم الشاعر (آلان جنزبرج) أنه رغم عدم تفضيله لتعاطي الحشيش خلال كتابته للشعر فهو قد وجد أنه بعد أن دخن (الماريجوانا) ذات مرة شعر ولأول مرة أنه (يفهم ويتذوق لوحات بول كلي وسيزان ورمبرانت, وأن هذه الإدراكات للمعنى عندما يتم الوصول إليها تحت تأثير المخدر, تظل موجودة وحية أيضا خلال حالات الوعي الطبيعي). لكنه أضاف أيضاً قوله أن (مثل هذه الخبرات ليست نادرة في حياة الإنسان وليست قاصرة على تعاطيه للمخدرات, فالخبرات الخاصة المرتبطة بالحب والموت يمكن أن تبعث داخل المبدع خبرات أعمق من تلك التي تحدثها المخدرات). ومع ذلك فقد استمر جنزبرج يدافع عن الأهمية الممكنة للمخدرات خاصة الماريجوانا في الإبداع ودلل على ذلك بأن العديد من الفنانين الإمريكيين والبريطانيين المعاصرين قد تعاطوها عدة سنوات. ولا يرى جينزبرج أن المخدرات ضرورية للإبداع, لكنه يرى أنهما ـ أي المخدرات والإبداع ـ ليسا أمرين متعارضين.. فهل هذا صحيح?.

التدمير

رغم دعاوى (تحرير العقل) وابتعات التلقائية) والتحرر من الآلام والقيود الجسدية والنفسية (والدخول في عوالم من المتعة غير المسبوقة).. إلخ, فإن هذه الفراديس المصطنعة غالبا ما تتحول إلى جحيم مقيم, فيه تجثم الاضطرابات والأمراض العقلية المختلفة.

ويمكننا تلخيص أهم ما توصلت إليه الدراسات العلمية في هذا الشأن على النحو التالي:

1ـ يحتاج الإبداع إلى قدر كبير من المرونة العقلية, وإلى المثابرة والدافعية العالية, وإلى قدرات كبيرة من الطموح, وإلى درجة متوسطة على الأقل من الذكاء, وإلى طلاقة الأفكار وأصالتها ومرونتها, وإلى حساسية خاصة للمشكلات, وإلى متابعة خاصة للأهداف, وإلى تفتح خاص على الخبرات الداخلية والخارجية, وإلى إرادة تقوم بالصياغة والتشكيل, وإلى خيال خصب قابل للتجديد, وإلى خروج عن المألوف بقصد العودة إلى المألوف, وإلى قيم خاصة تتجاوز الفرد إلى المجتمع, وتتجاوز المجتمع إلى الإنسانية عامة, وإلى إحساس خاص وعميق بالزمان والمكان والبشر, فهل يستطيع متعاطي المخدرات أن يفي بكل هذه المتطلبات? هل يستطيع أن يحافظ على ذاته دون أن تدمر وهو يدمرها عامدا?

2 ـ تعمل المخدرات على إحداث آثار جسمية سيئة كثيرة منها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ وخاصة في حالات سوء الاستخدام الزمن: اضطرابات القلب والرئتين وأجهزة الهضم وفقدان الوزن والضعف الجنسي والتهاب الكبد (في حالة التعاطي الزائد للأفيون) ومنها: أمراض القلب والسرطان (بالنسبة للحشيش) حيث يحتوي هذا المخدر على 50% من المواد المسرطنة (والمسببة للسرطان) أكثر مما هو موجود في التبغ, ومنها أمراض الكبد والجهاز الهضمي والجهاز العصبي والتنفسي والجهاز التناسلي (بالنسبة للخمور).

3ـ تحدث المخدرات اضطرابات واضحة في الإدراك, والذاكرة, والتعلم, والتفكير, والخيال, وهي القدرات الضرورية في التفكير والخيال وهي بدورها القدرات الضرورية للإبداع. فعلى سبيل المثال لا الحصر أظهرت الدراسات الحديثة مثلاً أن الحشيش يؤدي إلى اختلال في إدراك الفرد للزمن, فيدركه على أنه يمر ببطء, ويتم إدراك المسافات على أنها أطول, ويدرك الأحجام على أنها أكبر, ويرى الأشياء وكأنها تهتز, ويزداد نصوع الألوان, وغموض الأصوات, ويرتفع طنين الصوت في الأذنين, وتضعف الذاكرة, وتختلط الأفكار, وتزداد الاستكانة والسلبية, ويصبح الشخص متسرعا ومترددا في أحكامه, وشديد التقلب في حالاته الوجدانية, كما قد ينزلق المتعاطي للحشيش في الخيال, مع ازدياد الجرعة فيخطىء في تفسير مدركاته الحسية وقد تعتريه هلاوس بصرية سمعية وقد تحدث له هذاءات اضطهادية يشعر خلالها بوجود آخرين (غير موجودين في الواقع) يراقبونه ويضطهدونه وتظهر مظاهر هذا التفكك العقلي والوجداني في أعماله ـ إذا كان يقوم بالإبداع ـ فتبدو مترهلة مفتقرة إلى التماسك والدقة والتنظيم.

4ـ تأثيرات الكوكايين والأفيون أشد فتكا من تأثيرات الحشيش (رغم أضراره الهائلة أيضاً) فالكوكايين يؤثر على قشرة المخ .. التي تتحكم في القدرة العقلية على الاستدلال وتتحكم في الذاكرة أيضا, كما يؤثر على المخيخ الذي ينظم حركاتنا وتوازننا الحركي, ويؤثر كذلك على الهيبوثلاموس الذي يتحكم في الشهية للطعام و في النوم والانفعالات. أما الأفيون ومشتقاته فيؤدي إلى ضعف التركيز والكسل والميل إلى النوم والتشوش الذهني والاكتئاب والميول الانتحارية وضعف التركيز والهلاوس والموت في النهاية.

فهل يمكن أن نتوقع حدوث الإبداع ـ ذلك الذي يحتاج إلى الذاكرة والذكاء والتركيز والدافعية والتفاؤل والمثابرة والنظام العقلي ـ في ظل آثار جسمية ونفسية بهذه القسوة وهذه الشراسة وهذا التدمير؟

 

 

شاكر عبدالحميد