مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة

مغامرة التفكير الحر

جهود كبيرة وكثيرة حرثت وزرعت بإخلاص في حقول الثقافة العربية المختلفة ، وها هو بعض من حصاد عمرها، للحاضر والمستقبل

تدعوني مجلة (العربي) الغراء إلى كتابة مقال أو شهادة تكون أقرب إلى البوح الذاتي أقدم فيها ثمرة تجربتي التي هي حصاد السنوات الطويلة من التعامل مع الشأن الفكري, كما تطلب أن تكون هذه الشهادة في حدود خمس أو ست صفحات وأبدأ بأن أعلن أن الاستجابة إلى هذا المطلب على هذا النحو مستحيلة, ولو دخلت تجربة أو مغامرة الإجابة فربما اقتضى الأمر سنوات, ولذلك سمحت لنفسي بأن أختار جانبا من تجربتي, فأتناول بعض ملامح التطورات الثقافية والفكرية التي تعرضت لها أو تأثرت بها أو ساهمت في وقت ما بالمشاركة في صياغتها, وأقول (الملامح) لأني لا أستطيع أن أتناول التفاصيل التي تحتاج إلى مجلدات ومجلدات.

رياح الحرب والفكر

تكفي العناوين العامة لملامح رحلتي الثقافية والفكرية منذ كنت طالبا في الجامعة بكلية الحقوق في الأربعينيات حتى يومنا هذا ونحن نودع القرن العشرين لترتسم أمامنا خريطة للتطورات التي مرت بها ثقافتنا منذ الحرب العالمية الثانية, إذ كانت البداية بالنسبة لي والجامعة تموج بالمظاهرات وطلبة الأزهر يتقدمون مع طلبة جامعة فؤاد في شوارع القاهرة يهتفون (إلى الأمام يا روميل), القائد الألماني الذي ذاع صيته كثعلب الصحراء, وكان يطرق أبواب العلمين على بعد تسعين كيلو متراً من الإسكندرية بقوات الفيلق الإفريقي الذي أعده أدولف هتلر لغزو مصر, وقطع الطريق على الاتصالات البحرية بين الحلفاء والهند وجنوب إفريقيا.وكانت سيارات الجيش الإنجليزي تجوب شوارع القاهرة مسرعة, تحمل العتاد والأثاث مما كان يدل على أنهم شرعوا فعلا في الجلاء عن القاهرة.

ما هي ملامح أفكار شاب مراهق وسط هذه الأحداث التاريخية التي تقرر مصير العالم لعدة أجيال قادمة? كنت أشعر بفرحة لمظاهر انكسار الإنجليز الذين يحتلون بلادي منذ حوالي ستين عاما, لكنني لا أشعر بفرحة لتقدم روميل, بل ينتابني قلق شديد وهواجس أننا نستبدل غطرسته وجبروت ألمانيا, بالاحتلال الإنجليزي واستغلاله وسيطرته على حياتنا, وكان الشيء الواضح هو أن الأقوياء يحاربون في أرضنا ونحن بلا حول أو قوة, والقوة الألمانية أو الإنجليزية هي قوة عقول ونظام للحياة وحضارة نحاول في مدارسنا أن نتعلمها, درسنا اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية ونحلم مع الخديو إسماعيل بأن تكون بلادنا قطعة من أوربا, لكننا نريد أن نكون مثل أوربا بإرادتنا وبعقولنا وليس بالخضوع لقوة أوربية تفرض علينا التمدن, ولا وجه للمقارنة أو التفضيل بين ألمان وإنجليز, الكل سواء, أجانب يريدون السيطرة علينا.

لكن معارك الحرب فتحت الباب في الجامعة لهبوب تيارات فكرية أخرى, كانت تصل إلينا وتدعونا أن نتأملها أو ننجذب إليها ونشارك معها.

عرفت في كلية الحقوق لأول مرة الشباب الشيوعي, وكانت لهم طريقتهم الخاصة لتجنيد الشيوعيين, وهي الدخول في علاقات شخصية وصداقات حميمة ومناقشات مستمرة في جو لايخلو من المرح,ولقد عرفت شبابا من اليهود في الجامعة كانوا يروجون للأفكار الشيوعية من خلال حفلات الشاي والرحلات والرقص واختار شاب يهودي أن يعقد صلة معي بأن يساعدني على أن أتعلم اللغة الفرنسية بأن أشترك معه في ترجمة كتاب لأديب شيوعي, وهو رواية (أصبح الحديد صلبا) لأوستروفسكي.غير أن الشيوعية لم تنفرد وحدها بالعمل في الجامعة, فكان هناك تيار قوي آخر يرفع شعارات الإخوان المسلمين, وكان تياراً مشروعا ترحب به السراي وتراه يساندها ضد الأحزاب السياسية التي تتبادل الحكم, وكان مسموحا للشيخ حسن البنا المرشد العام للإخوان بأن يلقي محاضرات في قاعة الاحتفالات الكبرى تحت قبة الجامعة, ولقد استمعت إليه وهو يخطب في تلك القاعة قبل أن أستمع فيها لجمال عبدالناصر بعد 5 سنوات.

وبرغم أني تعرضت بقوة لكلا التيارين الإخواني والشيوعي فإنني لم أنجذب لهذا أو ذاك, وكان الإحساس الذي يغالبني هو أني لا أفهم بالضبط ماذا يريدون, وحفلات الشيوعيين لاتريحني وهتافات الحناجر والعروق النافرة للإخوان لاتدعو إلى الاطمئنان, ولعل الذي منحني حصانة من الانجذاب إلى أحد هذه التيارات, هو أني نشأت في بيت يهتم بالعلم, وكان يتردد عليه كبار الأدباء والمفكرين بينهم العقاد وطه حسين والسنهوري, وكان والدي مشغولا بتأليف كتاب عن (جان دارك) وتوفي بعد طبعه بعدة شهور عام 1936 وترك لي مكتبة كبيرة حاولت أن أشرع في مراجعتها وترتيبها على نحو أفهم منه موضوعاتها المختلفة, فكان لذلك تأثير لازمني يدفعني أن أراجع بعقلي كل ما أتعرض له من أفكار, وكانت هناك كتب في المكتبة تتحداني بينها كتب التراث الإسلامي وقد نبهني إليها منذ طفولتي أستاذي الأزهري الذي قرأت معه القرآن وأنا في الخامسة, ومن بين هذه الكتب (الفصل في الملل والنحل) للإمام بن حزم و(الملل والنحل) للإمام الشهرستاني وكتاب (تهافت الفلاسفة) للإمام الغزالي, وقد فوجئت بكتاب كبير مترجم بالإنجليزية عن الألمانية لفيلسوف التاريخ (أوزفلد شبنجلر) عنوانه (أفول الغرب) وكان يتكلم عن الحضارة العربية أو (السحرية) بين حضارات الفراعنة واليونان والغرب, وكان يذكر أسماء كبار المفكرين المسلمين كالغزالي وابن رشد والبيروني, ويتكلم عن نشأة الحضارات وازدهارها ثم شيخوختها وموتها ووجدت في هذه الحركة لأطوار الحياة ما يجيب عن عدة استفسارات كنت أكتمها في صدري عن أسباب أفول الخلافة الإسلامية والهزائم التي انتهت بسقوط الخلافة في تركيا على يد كمال أتاتورك.

النجاة في حرية التفكير

وشغلني أيضا كتاب للشيخ محمد عبده عن (التوحيد) نشره الشيخ رشيد رضا وذكر فيه أن ما جاء في الكتاب لايجوز ذكره أمام (العامة) وكان يتناول الإيمان وضرورة أن يكون عن طريق العقل ويسأل ماذا لو فكر الإنسان بعقله فلم يصل إلى اقتناع, هل يموت كافرا, وأجاب عن السؤال بأن الشك ليس كفرا, لأن عملية التفكير والشك هي الطريق إلى الإيمان الصحيح, فالكفر لايتحقق إلابالإنكار والنفي, وجاء في كتاب التوحيد عشرات الآيات من القرآن الكريم التي تدعو إلى التفكير والتدبر للوصول إلى يقين بوجود الله.

كانت لهذه المناقشات تأثيرها العميق في نفسي, وهي التي جعلتني لا أنجذب بسهولة إلى ما أسمعه سواء من شيوعيين أو إخوان, وكانوا يضيقون بي عندما أحاول أن أناقشهم بحرية ويتهمونني بأني شاب مرفه يتشدق بفلسفات وسفسطات ويذكر أسماء كتب ومفكرين لكنه لايعمل من أجل قضية وطنه, قضية العمال والفلاحين في نظر الشيوعيين, وقضية عودة أيام مجد الخلفاء الراشدين في نظر الإخوان.وساعدني في بحثي عن حرية العقل كوسيلة لفهم الحياة كتاب المؤرخ الإنجليزي المشهور لورد أكتون بعنوان (أبحاث ودراسات تاريخية) وقد شرح هذا المؤرخ الذي ينتمي إلى القرن التاسع عشر مفهوم الليبرالية وأجاب عن السؤال الذي كان يراودني, هل تصل الحرية إلى حد الفوضى, فقال إن لله قانونه الطبيعي أو ما يسمى بالعناية الإلهية التي تتكفل بإصلاح أي خلل يطرأ على الموازين, فالشر إذا طغى قابله الخير, والمرض إذا استشرى تصدت له عوامل المقاومة والشفاء, وقد أعجبتني هذه الإجابة, وأفادني حديث لورد أكتون عن الصلة بين الدين والليبرالية, في أن أتتبع بعد ذلك موقف التيارات الفكرية الحديثة من قضايا الدين ولاحظت أنها جميعا لها موقف تفاهم أو تفسير أو مصالحة مع الدين, وحتى (الحداثة) و(ما بعد الحداثة) في أيامنا هذه تقوم على تفسير مفاهيم الدين بالرؤية الجديدة للعلاقات المتشابكة والمراوغة في حياتنا المعاصرة.

وهكذا لم أنضم إلى خلية شيوعية مع أني حضرت جلسات لخلايا شيوعية, كما لم أنضم إلى الإخوان مع أني ذهبت إلى بيت المرشد العام الشيخ حسن البنا وجلست أستمع إليه وسألني عن اسمي مرحبا بي كطالب في الجامعة يدخل داره لأول مرة, وبهرني الاجتماع لكنه لم يصل إلى إقناع عقلي, حتى جاء بعض الأصدقاء يدعوني إلى اجتماع فإذا به دعوة إلى تكوين خلية إرهابية وقد جلست معهم أستمع, أحاول أن أفهم وأقتنع حتى كانت جلسة ثانية جاء فيها أحد أعضاء الخلية ومعه منشور مطبوع ا ستعدادا لتوزيعه, ووقف وهو طالب في الحقوق يناقش جدوى الاستمرار في المشروع ويرى أن الوقت غير مناسب والإمكانات غير متاحة, إلا إذا ارتبطنا بالآخرين أي الشيوعيين أو الإخوان, كان هذا الطالب هو (جمال العطيفي) الذي سوف يصبح وزيرا للثقافة والإرشاد في عهد الرئيس السادات, كنا كالسمك الصغير الذي توشك أن تبتلعه الأسماك الكبيرة, وكانت الحالة في مصر تدعو إلى الاختناق, حزب الوفد حكم مصر حتى خارت قواه, والملك فقد إحساسه بواجباته وانتشرت أخبار مغامراته ومغامرات أسرته, وفقد الجيش الولاء للملك أثناء حرب فلسطين عام 1948 واكتشاف صفقات أسلحة وذخائر فاسدة تورط فيها الملك ورجال حاشيته, وانقطعت الصلة بين الجماهير والملك الذي أصبح مكروها, وفي هذا المناخ جاء يوم 23 يوليو 1952 ليعلن عن حركة الجيش, وسرعان ما تخلى الملك عن عرشه وظهرت قيادة لحركة الجيش في جماعة الضباط الأحرار يقودهم اللواء محمد نجيب.

زمن الاستياء الثقافي

وجاء يوم 10 ديسمبر 1952 فألغت القيادة الدستور وقررت حل الأحزاب ما عدا الإخوان المسلمين, وهربت الأحزاب الشيوعية للعمل السري تحت الأرض بعد أن صدرت أحكام إعدام في إضراب للعمال بكفر الدوار, واختنقت الحياة الفكرية بسبب اضطرابات وعدم استقرار في الرأي بين الضباط الأحرار, بينهم الشيوعي والإخواني والفاشي والوطني البسيط, وتحدث بينهم احتكاكات تؤثر في المناخ الثقافي, كان من أوضحها أن الضباط لم يستقروا بعد على رأي حول إذا ما كانوا قاموا بحركة إصلاحية, أو تدخل عسكري مؤقت, أو ثورة سياسية, وكانت تعليمات الرقابة على الصحف تتغير من يوم إلى آخر, فلما جاء يناير 1954 قررت قيادة الضباط إيقاف أي نشاط فكري سياسي حتى بين حلفائها من الإخوان المسلمين فصدرت الأوامر باعتقال أربعمائة وخمسين من الإخوان, وكان لابد وأن تحدث موجة استياء بين المثقفين تطالب بالديمقراطية وإن اختلفت أسباب ودوافع المطالبة, وبدا أن الضباط الأحرار سوف يقبلون الانسحاب إلى ثكناتهم والإعلان عن انتخابات ديمقراطية, لكن الرقابة عادت فجأة يوم 28 مارس 1954 وصدر قرار بتأجيل الانتخابات, وتحركت مظاهرات يقودها ضباط الصف الثاني من الضباط الأحرار, هاجمت طه حسين في مكتبه بكلية الآداب وهاجمـت عبد الرزاق السنهوري في مكتبه كرئيس لمجلس الدولة, وصدر قرار بحل نقابة الصحفيين, وصدرت قوائم بأسماء كبار الصحفيين اتهمتهم قيادة الضباط بأنهم كانوا يتقاضون الرشاوى من زعماء العهود السياسية البائدة, وصدرت أحكام بالسجن عشر سنوات وخمسة عشر عاما على محمود أبو الفتح وأحمد أبوالفتح صاحبي جريدة (المصري) وسحبت رخصة إصدار الجريدة.

تستطيع أن تصف هذه الفترة بأنها كانت تمثل هجوما صريحا وبالغ الجسارة من الضباط الأحرار على المثقفين جميعا يكشف عن حالة نفسية من عدم الثقة وشكوك في أن الشيوعيين يرتبون للاستيلاء على السلطة والإخوان من جانبهم يعملون على الاستيلاء على السلطة ورجال الأحزاب القديمة يتحركون لنفس الغرض, وإذا كان هناك بعض المثقفين الذين لاينتمون إلى هؤلاء أو هؤلاء فقد تصرفوا على نحو يجعلهم غير جديرين بالثقة, مثل بعض أساتذة ومدرسي الجامعات حول تأييدهم للثورة إلى نفاق وطلب للمناصب بينما استطاعت المخابرات أن تجند بينهم كثيرين, وساد الاعتقاد بين ضباط الثورة أن المثقفين الذين عاشوا في أجواء الماضي والأحزاب والملكية لا أمل فيهم.

وكان لابد من البحث عن أفكار جديدة, وفي هذه المرحلة كانت فكرة القومية العربية هي التي نجت من الاتهامات, ولا أستطيع أن أقول إن الجماهيرالمصرية كانت بعيدة عن معنى العروبة والقومية العربية قبل ثورة 52 والدليل على ذلك أن جميع الأفلام المصرية ـ تقريبا بلا استثناء ـ التي أنتجت في مصر خلال الثلاثينيات والأربعينيات حتى قيام الثورة كانت تحرص على تقديم أغاني ورقصات ولهجات عربية وساهمت بشكل أقوى بكثير من كتب ساطع الحصري أو من النشاط الحزبي في تأكيد الهوية العربية لمصر, غير أن الظاهرة العامة كانت تكشف عن وجود فراغ فكري كان يشعر بوطأته الذين تبنوا أفكارا اعتمدوا عليها كالماركسية أو الإخوانية أو التمسك بالحزبية القديمة, وكنت على عكس هؤلاء أشعر أننا نواجه الواقع الذي نعيشه بغير أفكار مستوردة وأقنعة نستر بها فراغ رءوسنا, ومع الأسف الشديد مازالت قضيتنا الأولى في تقديري حتى يومنا هذا هي البحث عن العقل العربي الغائب أو المعطل, ولقد هرب البعض إلى فكر غربي وآخرون لجأوا إلى فكر شرقي, كما هرب البعض من العقل ورفضوا التفكير, تجنبوا مخاطره في انتظار المعجزة أو تصاريف القدر.

نظرية الضرورة

وطبيعي أن طلب التفكير الحر ليس مطلبا سهلا, فمن يستطيع أن يحرر أفكاره وكيف, ومن يستطيع أن يصدر قرارا بأن نستخدم عقولنا في تفكير سليم حر, وتجربتي مع محاولة التفكير الحر وصلت إلى مواقف لها دلالتها في الظروف التي كانت تعاني فيها (الثورة) من مجاعة حقيقية في الأفكار, وإليكم هذا المثل:

حدث في الخمسينيات والثورة تناقش قضية التنمية الاقتصادية وتخوض معركة الاستقلال مع الإنجليز أن ظهرت اتجاهات تنادي بالتخطيط وكان عبد اللطيف بغدادي هو وزير التخطيط مما قد نفهم منه أن هناك أفكارا مدروسة للتخطيط تقوم على فلسفة اجتماعية واقتصادية معينة, وحاولت أن أفهم ما هو المقصود (بالخطة) وكنت أكتب مقالات أشرح فيها الأفكار والكلمات السياسية التي يتداولها الساسة والمثقفون فيما بينهم, وقرأت عن تجارب في التخطيط في فرنسا وهولندا والاتحاد السوفييتي, فلاحظت أن كل مجتمع يتبنى التخطيط بفلسفة معينة ولتحقيق أهداف معينة, هولندا ضد الشيوعية وتتبنى التخطيط بفكر رأسمالي والسوفييت ضد الرأسمالية ويتبنون التخطيط بفكر ماركسي وفرنسا تتبع نظاما للتخطيط تجمع فيه بين الاشتراكية والديمقراطية والسوق الحر, وسألت نفسي ما هي فلسفة التخطيط وقد بدأوا يتحدثون عنها في مصر, كان السؤال هو محاولة للتفكير وبحثت عن دراسات أو مذكرات تفسيرية تشرح ما هو التخطيط بالمفهوم المصري فلم أعثر على شيء, عندئذ كتبت مقالا افتتاحيا في مجلة روز اليوسف قلت فيه إننا لجأنا إلى التخطيط تحت شعار (الضرورة)! هناك أزمة في تمويل المشروعات وأزمة في الخدمات وأزمة في الإدارة, وصيحات تطالب بضرورة معالجة هذه الأزمات, لذلك نستطيع أن نقول إن حديثنا عن التخطيط هو حديث (ضرورة)! إنه مطالبة بأن تتدخل الدولة لتعالج أزمة دون أن ترتبط بنظرية أو فلسفة, والشيء الوحيد الذي أفهمه ويبرر تبني أسلوب التخطيط هو نظرية (الضرورة)!

وكانت المفاجأة المذهلة أن يتصل بي وكيل وزارة التخطيط وهو الخبير العالمي الدكتور حلمي عبدالرحمن, وتقابلنا وسألني أن أنضم إلى لجنة يفكرون في تشكيلها لدراسة شئون التخطيط, واعتذرت لأني غير مختص بالأمر, لكني عرفت أن هناك مجاعة أفكار, والجميع مشغولون بالأشخاص والمناصب واللجان, كما عرفت أن كبار الخبراء لايفكرون ولايريدون الاستقلال برأي وأنهم حرصا على تأمين أنفسهم من مغامرة التفكير يكتفون بتشخيص الأزمة وتوضيح أبعادها بدقة لكنهم لايتدخلون برأي في العلاج في انتظار ما يراه القائد, خشية أن يقول أحدهم رأيا فيرى القائد رأيا آخر فتكون نهاية صاحب الرأي المرفوض.

وفي لقاء لي مع مدير مكتبة الكونجرس في مطعم بميدان سيدنا الحسين قال لي المؤرخ الأمريكي المعروف (دانيل بروتشتين) بلهجة سؤال: هل تستطيع أن تقول مثلنا أنا خالق هذا الشيء?

قلت له بسرعة: الخالق عندنا هو الله سبحانه وتعالى وقد نقول هذا من اختراعي وابتكاري واكتشافي, ولكننا لانقول هذا من خلقي!.

فقال لي: عالمنا المسيحي يرى أن الإنسان قد خلقه الله على صورته.

قلت له: ونحن نفهم ذلك في الإسلام.

فقال: لذلك من واجبنا أن نفعل كما يفعل الخالق.

وهذه صورة أخرى من ارتباط التفكير الحر بالدين, وهي ليست واضحة في أذهاننا منذ إغلاق أبواب الاجتهاد, فلم يعد المسلم يعرف متى يكون مسيرا ومتى يكون مخيرا.

وبحثت عن معنى كلمة حرية في القواميس العربية (أساس البلاغة) و (لسان العرب) فلم أجدها والمعنى الوحيد الذي اقترب من مفهومنا المعاصر للحرية جاء في نقيصه, فتقول (حر المملوك أي حرره مولاه وأعتقه)!

وعندما كنت رئيسا لتحرير صحيفة الجمهورية في عهد عبد الناصر طلبت من علي صبري أن يساعدني في الحصول على مذكرات المشير عامر عن سوريا فنظر إليّ كمجنون لأنه من المستحيل أن يقبل المشير (التفكير) فيما حدث بصورة علنية تفتح الباب للناس لأن تفكر في انفصال سوريا عن مصر وسقوط حلم الوحدة, ولو كان هذا الأمر في أي بلد آخر لخرجت مئات الكتب والدراسات تبحث وتحلل كل صغيرة وكبيرة تمس حدث الانفصال من قريب أو بعيد وكان المفروض أن يكون المشير عامر هو الشاهد الأول في رواية وتقويم الأحداث.

وحدث ذات مرة أن دخلت في مناقشة مع صديقي أحمد بهاء الدين حول مفهوم الاشتراكية في مصر بعد أن أعلن عبد الناصر عن المجتمع الاشتراكي وبعد قراءات مطولة وتفكير (حر) خرجت بمعنى واضح هو أن الاشتراكية هي (تدخل الدولة) وهنا اعترض بهاء على ما كتبته بهذا المعنى وقال لي بذكائه غير العادي إنه اعترض حتى لايشجع السلطات على التدخل في كل شئون حياتنا باسم الاشتراكية , هم لايفهمون شيئا عن الاشتراكية وسوف يتمسكون بكلمة (تدخل) ويفرحون بها!

الأدب أهم

الأمثلة كثيرة تفوق الحصر لتؤكد المجاعة الفكرية, وإنهاك المثقفين في تحصيل المعارف المستوردة من هنا وهناك دون أن يهتم أحد اهتماما جاد ا بمواجهة الواقع ورؤيته بوضوح ودقة والتفكير في هذا الواقع تفكيرا حرا وليس مجرد ترديد أفكار ونظريات لاصلة لها بالواقع ولكن لها صلة بإحداث تأثير مطلوب عند السلطات التي تصدر القرار, وتظل الحقيقة تائهة وأذكر في حسرة الشيخ محمد أبوزهرة عندما كان يحاضرنا في كلية الحقوق ويناقش اختلاف الفقهاء والفتاوى ويتساءل معنا هل نبحث عن الحقيقة عند الفرد حتى لو خالف الأغلبية وما ضمان أن ما عند الفرد هو الحقيقة, ثم قوله إن الصواب الذي نفرضه على الناس بالقهر سيكون ضرره أكبر من نفعه, ومن هنا كان الأفضل والأقرب إلى الحكمة أن نأخذ برأي ومشورة الأغلبية ونترك للزمن والتجربة كشف وتصحيح الخطأ ونتحمل مسئولية اختيارنا.لاشك أن مطلبي منذ البداية هو أن أكون مفكرا حرا, ولاشك أن الظروف السياسية والاجتماعية التي مررت بها ما كانت لتسمح بتنمية الفكر الحر الذي يحتاج إلى مناخ عام تسود فيه حرية الرأي على نحو مازالت قيود كثيرة تمنع تحقيق هذا المناخ, لكنني مارست الفكر الحر بكل حريتي في أعمالي الروائية, وهناك فرق بين أن ترى الشيء على حقيقته, وكما يستقر في نفسك بحرية كاملة على أنه الحقيقة , وبين أن الشيء متأثر بدعوة سياسية, ولقد مرت مصر بتجارب مريرة وخطيرة, حرب 67 وموت عبد الناصر واغتيال السادات بعد كامب ديفيد والأحداث لاتنقطع والذي يهمني أن أدرك أولا ما الذي يحدث دون أن أصوغه في ثوب سياسي أو أتورط في تبرير أو دفاع, المهم هو الفهم أولا, وأن أقدم الرؤية الصادقة كما استقرت في نفسي من خلال أعمالي الفنية, وأعلنت أن الأدب أهم وأشمل وأصدق من السياسة قبل أن يقول لي (موروبرجر) أستاذ الاجتماع في جامعة برنستون ونحن نتناول الغداء في القاهرة في أوائل السبعينيات أنه بصدد الانتهاء من كتاب يقرر فيه أن الأدب هو المصدر الرئيسي لفهم المجتمع قبل تقارير تصدر عن مخابرات ورجال أمن وجواسيس وغيرهم, ولقد تأكد هذا المعنى بعد أن طغى فن الإعلام وفن الإعلان على ما يقرأه ويسمعه الناس من أخبار وتعليقات عن أحوال مجتمعهم وتحولت الانتخابات في أكثر الدول ديمقراطية إلى حملات إعلان, ولاينقذ الإنسان أو المواطن غير رؤية فنية صادقة عن مجتمعه.

وهنا اختتم هذا الذي كتبته بصورة تلقائية وبغير مراجعة بكلمات لزعيم فريق البيتلز (جون لينون) بعد أن تسيد الفريق على أذواق الجماهير في أوربا وأمريكا وأماكن أخرى كثيرة من العالم, سألوه: ما هي رسالتكم? فأجاب بعد تفكير: رسالتنا أن نصور الواقع كما هو للناس, قدمنا لهم لهجاتهم الشعبية وهمومهم في العمل واحتفظنا بطبيعتنا كعمال شعبيين من ليفربول, وأكمل لينون قائلا: أظن أن الصدق في التعبير عن الواقع هو الرسالة الحقيقية.

واليوم والنظريات تنهار والتيارات الفكرية تتلاشى, والسياسة والإعلام والإعلان تختلط بالأحداث لتزييفها أشعر بأني لست نادما عى ما اخترته كطريق في الأدب والفن أو في السياسة, وأشعر بسعادة غامرة عندما أمتنع عن إصدار الأحكام بأن هذا صحيح وهذا فاسد لأني أقدم الواقع بكل ما أراه فيه من صدق ليصدر المتلقي حكمه بنفسه, وكلما تراجعت ككاتب في تواضع تقدم القارئ بشجاعة وأصدر بنفسه الحكم المطلوب, حرية الفكر ليست حكرا على إنسان مفكر يتبعه الآخرون, بل هي حرية الفكر التي يتلقاها كل فرد بحرية ويصدر فيها أحكامه الخاصة بحرية, وأقول دائما إن الله سبحانه وتعالى لم يصدر أحكاما نهائية على البشر وأجلها إلى نهاية الدنيا.

 

فتحي غانم

 
  




فتحي غانم





روميل





هتلر





الملك فاروق





جمال عبدالناصر





الشيخ محمد عبده





حسن البنا





عبداللطيف البغدادي





أحمد بهاء الدين