اللغة حياة.. صيغة «استَـفْـعَـلَ» مفتوحة المعاني

اللغة حياة.. صيغة «استَـفْـعَـلَ» مفتوحة المعاني

حين يتحدّث اللغويّون عن صيغة الاستفعال، لا يكادون يمنحونها إلاّ معنى واحداً، هو معنى طلبِ الفعل، ويلحقون به، تكرّماً، معنى الصيرورة أو التحوّل، مستشهدين بالمثل المشهور: استَنْوَقَ الجملُ؛ أي صار ناقة.

بهذين المعنيين كاد مجمع اللغة العربيّة يحصر الدلالة القياسيّة لهذه الصيغة؛ لكنّ المجمعيّ عباس حسن جعل لها دلالتين إحداهما تختلف عمّا قال به المجمع، وهي ما سمّاه النسبة، يعني نسبة صفة ما إلى الشيء، نحو: استقبحه، أي نسب إليه القبح؛ وسمّى زميلنا أميل يعقوب ذلك: الإصابةَ، أو اعتقاد صفة للشيء؛ وتسمية اعتقاد الصفة أفضل، عندنا، من تسميتي النسبة والإصابة - وينبغي أن نعرف لأميل أنّه ذكر تسع دلالات لصيغة «استَفْعَلَ» جديرة بالدرس، ولا ندري أكان سابقاً إليها، أم أنّه أخذها من غيره، أم جمعها من مراجع مختلفة.

- وبسبب غلبة تلك الحصريّة الثنائيّة، وجدنا أصحاب «قُلْ ولا تقلْ» يخطِّئون من يأتي بدلالة جديدة تخرج عن هاتين، ولا تثبتها المعاجم؛ ومن ذلك استعمال فعل «استهْدَفَ»، وهو عند القدماء فعل لازم يعني: انتصبَ أو ارتفعَ، لكنّ أبناء عصرنا جعلوه متعدّياً، ومنحوه معنى آخر هو: جعَلَ الشيءَ أو الشخصَ هدفاً.

ولا نعرف مسوّغ التخطئة؛ فالقدماء أخذوا بالمعنى العام للهدف، وهو الشيء المرتفع كالبناء أو الكثيب، كما عوّلوا على معنى الصيرورة، ليجعلوا للفعل معنى: صار منتصباً أو مرتفعاً؛ أمّا المعاصرون فقد اختاروا معنى جزئيّاً من معاني الهدف، هو معنى الغَرض الذي يُرمى، وضمّنوا الفعل معنى الرماية، فقالوا: استهدفَ فلانٌ فلاناً؛ أي جعله أو صيّره هدفاً يُرمى (بكلام ما أو بتهمة أو بما أشبه ذلك). ولهذا نظائر؛ فاستأصل يُستعمل لازماً فيقال، مثلاً: استأصَلَتْ الشجرةُ، بمعنى: ثبتت أصولُها؛ ويستعمل متعدّياً، نحو: استأصل فلانٌ القومَ، بمعنى: قطعَ أصلَهم. وقد يُستعمل بعض الأفعال في المعلوم والمجهول فيكون له معنيان مختلفان، وإن كان الأصل المعنويّ البعيد مشتركاً، نحو: استَجَنَّ، ومعناه: استتر؛ واستُجِنَّ، ومعناه: أصابه الجنون. قد يُعترض هنا على معنى التحويل أو التصيير، فهو ليس في الدلالتين اللتين أشار إليهما المجمع، ولا في ما أثبته حسن ويعقوب، وهنا بيت القصيد.

فأولاً، إنّ المجمع قد قرّر، ولو بعد حين، غالباً، أنّ لـ«استَفْعَلَ» معنى الجَعْل والاتّخاذ، وعدّ هذه الدلالة قياسيّة، وأقرّ بسبب ذلك استخدام فعل استهدف، بمعنى: جعله أو اتّخذه هدفاً (وجَعَلَ فعل تصيير).

وثانياً، لا يكاد فعل ثلاثيّ ينجو من صيغة «استَفْعَلَ»، إذ إنّ القدماء والمحدثين والمعاصرين قد أخضعوا عدداً ضخماً من الأفعال لها؛ وقد أحصينا في ما أورده أستاذنا المرحوم جبور عبد النور في معجمه العربيّ الفرنسيّ «المفصّل» المنظّم على الطريقة الأوربيّة، بحسب لفظ الكلمات لا بحسب جذورها، وعلى أنّ الزيادة جزء من الكلمة، نقول: أحصينا (834) فعلاً بصيغة «استَفْعَلَ»، ما بين قديم وحديث، وربّما ما بين فصيح وغير فصيح. وبحثنا في معاني تلك الأفعال فوجدنا تنوعّاً غريباً، وكأنّ للمستعمِل الحريّة في اختيار الدلالات، وألاّ يحصر استعماله باثنتين منها ولا بتسع.

ومعنى التحويل أو التصيير (أو الجَعْل والاتّخاذ، وفق مصطلح المجمع) ملحوظ في كثير جداً من الأفعال المصوغة على تلك الزنة؛ وقد أورد المجمع أمثلة منها تحتمل النقاش، ونذكر هنا أمثلة أخرى نعتقدها مناسبة، وهي: استأْخَذَ، أي جعل نفسه أخيذاً، أي أسيراً (وصار للفعل معنى: استكان)، ومثله فعل استأسَرَ؛ ومنه استبدله: جعله بَدلاً؛ واستبضعه: جعله بضاعة؛ واسترقّه: جعله رقيقاً؛ واستجدّه: جعله جديداً، الخ. وبذلك يكون القدماء قد عوّلوا، في «استهدف»، على معنى الصيرورة، وعوّل المعاصرون على معنى التصيير أو التحويل. ولعلّ بوسعنا أن نُلحق بأفعال التصيير والتحويل المعروفة كل فعل على صيغة «استَفْعَلَ» يحتمل هذه الدلالة.

وقد يكون لـ«استَفْعَلَ» دلالة «جَعَلَ» الأخرى التي بمعنى وضَعَ أو ما يقاربه، ومن ذلك فعل استَتَكَّ: أي جعل التِكّة (الرِباط) في السروال؛ واستَثْفَرَ: أي جعل الرجلُ إزارَه، أو الحيوانُ ذنبَه، بين فخذيه؛ واسترمثَ في ماله: أي جعل فيه بقيّة، الخ.

أمّا معنى النسبة أو اعتقاد الصفة، فنحن نقترح له تسمية أخرى هي الرؤية أو الحكم، فحين نقول: استحسن الناقد القصيدة أو استجادها، فمعنى ذلك أنّه وجدها، أي رآها أو عدّها، حسنة أو جيّدة، أو حكم عليها بالحسن أو الجودة. وحين نقول في أيّامنا: استلطف فلانٌ فلانة، فمعنى ذلك أنّه رآها لطيفة فمال إليها؛ وحين نقول استجهله، فمعنى ذلك أنّه رآه جاهلاً، أو حكم عليه بالجهل. وهذه الدلالة التي لم يجعلها المجمع بين الدلالات القياسيّة، هي من أشيع دلالات الاستفعال وأكثرِها استعمالاً، ونجد بعضها في المصطلحات الفقهية، نحو: استحسن، واستحبّ، واستحلّ، واستحرَم.

لكنّ المجمع أشار إلى دلالة أخرى لـ«استَفْعَلَ» هي الحينونة والدنو، على اعتبارهما طلباً مجازيّاً؛ وهو ممّا لم يسجله الزميل أميل؛ ويُريد المجمع نحو: استحْصَدَ الزرعُ، أي حان له أن يُحصد؛ وإن كان «اللسان» جعل هذا المعنى لفعل أحصَدَ، وجعل لفعل استحصد معنى: دعا إلى حصاده؛ واستَجَزَّ القمحُ، أي حان له أن يُجزّ، أي يُحصد؛ واسترمّ البناءُ، أي حان له أن يُرمّ ويُصلح؛ وإن كان ابن سيده جعل لفعل استرمَّ معنى: دعا إلى إصلاحه. فأصل المعنى هو الدعوة، أي الطلب، والمجاز هو الحينونة؛ لكن معنى الدعوة يبدو الأقرب، وهو أيضاً مجاز، في بعض العبارات، لأنّ مثل الزرع والحائط لا يدعو ولا يطلب.

وجعلوا لـ«استَفْعَلَ»، فوق ذلك، معنى المطاوعة، ومعنى صيغِ: فَعَل وتفعّلَ وأفعلَ؛ فالمطاوعة نحو: أدّبَه فاستأدب، ومعناه فتأدّب؛ ونحو: استقرّ وقرّ، ونحو: استكبر وتكبّر، واسترجع وترجّع؛ أي قال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون». وفي كل ذلك نظر؛ فليست المطاوعة واحدة، والأوزان لا يرادف بعضها بعضاً؛ فقد يكون للتعدية بالهمزة، مثلاً، معنى غير معنى التعدية بالتشديد؛ فعَظََّمَ، مثلاً، غير أَعْظَمَ؛ ونقول: صدَّق، في الصِدق، ولا نقول: أَصدقَ، إلاّ في صداق المرأة. ومعنى المَقَرّ: مكانُ الثبات، لكنّ المستقَرّ يعني محلّ الإقامة الطويلة فيه؛ وقد فسّر القرطبيّ العبارة القرآنيّة «عذاب مستقِرّ» بعذاب دائم في الدنيا والآخرة؛ ويُفهم من آية «إلى رَبِّكَ يَوْمَئذٍ المُسْتَقَرُّ» معنى المقرّ النهائيّ. وتكبّر الرجل: تكلّفَ، في كلامه وسلوكه، إظهار ما يدلّ على عظمته وعلوّ شأنه؛ واستكبرَ: عدَّ نفسَه الأكبر والأعظم. ويمكن إدخال صيغة استكبر في معنى الرؤية أو الحكم، لأنّ فيها حُكماً على الذات بالعظمة.

 

 

مصطفى الجوزو