جمال العربية

جمال العربية

جوزيف حرب
سفير الشعْرية اللبنانية إلى العالم

أمدٌ طويل طويل، والشعراء يسْطُون على كون الله ومخلوقاته من النبات والحيوان والطير، يخلعون عليها أخيلة يصفونها بأنها محلّقة، وينحتون منها لوحات وصورًا ومشاهد يثبتون بها أن التعبير بالصورة رسالة الشعر الأولى ودليل صحته وعبقريته. وتفاوتت المواهب في اقتناص الكائنات وإبداع اللوحات، لكنّ ما صنعوه ظلّ موسومًا بطابع المحاكاة والرغبة في التجميل والتزيين، وأحيانًا صُنع المقابل والمعادل، لما ارتوى منه البصر، وامتلأت به البصيرة، واختلجت به الأعماق رائية وشاهدة ومشاهدة.

لكن، لا أحد من هؤلاء الشعراء المبدعين الموهوبين، فكّر في أن يخرج على هذا الطقس الشعري مغادرًا منطقة الرتابة في التصوير أو حتى الحلول في هذه الكائنات والمخلوقات يُنْطقها أو يستنطقها. وبدلاً من أن يتكلم عنها يتكلم بها، وبدلاً من أن يصوّرها يصور بها، وبدلاً من أن يصنع لوحات شعرية تحاكى، يقوم بإبداعٍ حروفُه، الشجر والنهر والبحر، ومفرداته الغيم والشيح والورد والحَوْر، وسياقاتُه الريح والطير والبراري والطواحين، وفضاءاته الغمام والمطر والأنواء والأعاصير والبروق والرعود.

شاعر واحد، أمسك بحروف هذه اللغة، كائنات الله في كونه، وأدخلها دواوينه، وثبّتها بحبرٍ ذوّب فيه روحه ونَفَسهُ وصلواته وابتهالاته، فاتسعت محبرته للكون كلّه، واشتبكت فيها جدائل أيامه ولياليه، فأصبح جسد الكون نجومًا على ورق الليل، وكل ما فيه من كائنات ومخلوقات رفّات أغصان وهديل حمام وتفاعيل شعر منضبط الإيقاع والوزن، تتوهّج به قصائد ذات فم أخضر، ولغة حمراء.

هذا الشاعر هو جوزيف حرب، الذي منح الشعرية اللبنانية بفصحاه ومحكيّته أوْج سفارتها إلى وطن النجوم: لبنان، وإلى الوطن العربي كلّه، وإلى فضاءات العالم الذي يتعشق الشعر الحقيقي وينتظره ويهتزّ له ويطرب، وينفعل ويرقص ويغني ويثور، وهل الشعر إلا هذا كلّه؟. في كل دواوين جوزيف حرب التي تنهمر فيضًا رائقًا من ينابيع ليست متاحة لغيره، حتى الذين يجاورونه في الجنوب، وتنسكب لونًا ونغمًا وعطرًا في تنويعات لها من الغنى والوفرة والقدرة على الإدهاش ما يغرينا دومًا بانتظار المزيد، والمزيد يفجّر بدوره ظمأً إلى المزيد. ويبقى هذا الشعر المغاير والمختلف، يخترقنا ويجتاح الشرايين فينا، ويخترق الآفاق ويجتاحها حاملاً كما يقول صاحبه أغنيات وحنطة وسلامًا..

نبدأ من أين؟ من «مشهد الاسم» نبدأُ، محاولين قدْر الطاقة الإمساك بما لا يُمسك، والكشف عن بعض جماليات هذا الشعر:

أُدعى
رشاد البحر، شيخ موهن
القدمين،
مكفوف البصر
ولدِي:
عصًا، شمسٌ، دراهمُ
في يديَّ
يُدعى:
أبا ذرٍّ عُمر
والبيت
قرب السوق، أسمع فيه
أجراس البغال، سعال حرّاس الدكاكين،
الدعاء الأزرق الكلمات للمتسوّلين
ويجيء موزونًا، صراخُ الباعةِ،
الغرباءُ ينتشرون في اللهجات،
عتّالو كبار القومِ، أعرف حِمْلهم
من صوتهم:
هو راقص، حلو العبارة في الخضار،
ومتعبُ النبرات في كيس الطحينْ
وأُحبُّ
لو أني كما بالأمسِ كنتُ
مفتَّح العينينْ،
عتّالا،
وهذي السوق ملأى قادمينَ
مع القوافل مُتعبينَ
ومشترين،
وبائعين، وعسكرًا،
ومسافرين
لكنّ أيامي مضتْ
يا للسّنين!
أعمى، وأحملها،
وأجري أنني: لي ليلُها
ونهارها للآخرين!

ثم يقول جوزيف حرب:

صباحًا
وهي نازلة إلى الوادي
انحنت لمرورها الأشجارُ،
حيّتْها الصخورُ الزُّرْقُ،
لوّح بالغمام لها نسيمُ الأرضِ،
عصفوران من عشاقها رفعا معًا
أذيالها الصفراء عن شوك الطريقِ،
العشبُ أمضى الليل منتظرًا قدومَ
قوافلِ السجاد من شيراز،
ديْر الحور نادى كلَّ رهبان الجداولِ
كي يدقُّوا فيه أجراس المياهِ لها
المراعي عارياتٍ جئن يحملن الخرافَ
لكي تُبارك باليديْنِ...،
الزرع أهدى قلبها الذهبيَّ سيف القمحِ،
باسْم النّحلِ قدّمت الحقول إلى بياضِ
جبينها تاجَ البنفسج
إنها الشمسُ البهيةُ،
أمُّ هذا البحر، سيدة الثواني
وجهها،
يبدو لموتي الآن، خبزًا، وردةً،
خمرًا،
وستَّ شموع
وألمح راحتيْها، وهي نازلة إلى الوادي
لكثرة ما تعلّق من تراب البؤس
في جوفيْهما
حقلاً
به نبتتْ غصونٌ من دمِ،
ودموع
وطافت حول قبري، وهو منبوشٌ،
كأوسمةٍ قديمة
باركتْ يدُها الملاكيْنِ،
انحنت تبكي غروب دمي،
فهبّت نسمة من حافة الوادي،
وراحت أزهرٌ ستٌّ بغصْن أكاسيا
بيضاءُ، تهبط في هدوءٍ كالنعاسِ،
وقد تدلّت أعينٌ خضراءُ منها،
كي ترى قبري
وما إن لامست جسدي،
العيون تغلغلت في لحيتي،
وهي استقرَّت في جراحي
ظنّني العصفور بيت الفلِّ،
زنبقة رأتني بين هذين الملاكيْنِ،
اكتسْيتُ بأزهُرٍ
وندًى،
فظنَّتني وليمة
قالت الشمسُ:
الذي يُدعى إليها مرّةً في العمرِ

ليس يجوعْ!

ما الذي تفصح عنه هذه اللغة الشعرية في مقطعيْن اثنين من مقاطع هذه القصيدة البديعة؟

هناك أولاً هذا الجوّ الشفيف الذي يعبق بالطهر والنقاء والمسحة الروحية، متّسقًا مع طبيعة المشهدين. وهذه اللغة الرائقة، الشديدة التركيز والاقتصاد لا إسراف ولا حشْو ولا تخايل بقدرة على الاسترسال المفرط في السطحية والسّوقية وهذا الإيقاع الحادّ الباتر الذي يأخذنا من حال السكون والاسترخاء إلى حيث تتدافع قوافل السجّاد، وأجراس المياه، وعُريُ المراعي، وسيوف القمح، وتاج البنفسج. أيُّ عالمٍ هذا الغنيُّ بطيوبه وموسم خصوبته وعطاياه؟ وأيُّ نسيم رائق وديع، يمسح وجوهنا بعبق شذاه وعطر بيت الفل وزنابق الوادي وزهور أغصان الأكاسيا البيضاء؟

هذا هو جوزيف حرب، راهب الشعر المتجرد له، العاكف عليه، المصلّي دومًا في محرابه، والقائم عند مذبحه لا يُفارقه، ينضح جبينه وجلده وخلاياه ومسامّه، شعرًا، ويتنفس شعرًا ويقتاتُ والجوع يفترسه وينوشه شعرًا، كأنه أقباس من روحه، ومِزقٌ من لحمه ودمه وأعصابه:

عشتُ بين محابر الجمل البيضاء فيها
وكنتُ قبْلُ وحيدًا،
لا نبيذ معي ولا مطرٌ،
والشمس شاعرةٌ،
إذا غمست في البحر ريشتها لتكتبَ،
تمحوني،
وتكتب عشْبَ ساقيةٍ،
لا نومُ حقْلي عليه سُنبلةٌ،
ولا شقوق يدي لها ورقٌ،
وليس أزرق كالملوكِ
دمي
وتنكرُ الأرضُ،
أنني بشرٌ،
والخبرُ يجهل كيف شكل فمي
- وما صنَعْتَ لتخلق امرأةً،
وأنت مثلي ترتدي سنةً كُحْليَّة الشمسِ،
كلُّها رُقعٌ،
كأنَّ فيها يمام أضرحةٍ
- فتحْتُ كفَّيَّ،
كان فيهما مفتاح باب
الترابِ والأفُقِ البعيد
كان الترابُ إصبعَ قمحٍ،
قُرْبَهُ الأفق خاتمًا أزرق،
ألبسْتُ خاتم الأفق للتراب،
صارا حمامةً لونها أبيضٌ،
طارت بغصنِ زيتونة إلى يدي،
حيث صرتُ امرأةً أُقبّل الشمْعَ
في ضبابة نهديْها،
فتُولد لي قناديل حمراءُ،
أُعلّقها على باب ليل الأرضِ
أجعلْ
يديْك محْبرتَكْ
وافتحْهما
تلْق فيهما امرأتَكْ

وفي «مشهد الأرض» يقول جوزيف حرب:

قريةُ لوْز،
تكتبين الأبيض الكوفيَّ فيها،
وعلى كفَّيْكِ منديلُ نسيمٍ،
والمَسَا يأخذ عينيْك إلى الغابةِ
في نُزهةِ نوْمٍ،
يجمعانِ الكحْلَ منها،
ونُعاسَ الورق البرِّىِّ
يا
حبيبتي،
قليلةٌ أسماءُ زهر الأرض في
ذاكرتي،
والشجر الواقف كالراعي وحيدًا،
وصخور الوعْر ترعى ما رمى تمّوزُ
من ظلِّ الغماماتِ لها.
قليلةٌ
أسماءُ هذا الزرعِ، والعصفورِ،
والعشْب الذي تفرشهُ الأشهرُ
في بيت البراري
فأنا لم ألتفتْ إلاّ إلى ما فيكِ من عُريٍ
أمامَ الحِبْرِ
هذا
سهري المكتوبُ
كم عامًا سيمضي،
قبل أن أكتشفَ النَّوْمَ؟

إلى أن يقول:

ليس تكفيني عصورٌ كي أرى
بياضها
أُحبُّها لمَّا تعودُ
وهي منذ البدْءِ حتى الآنَ،
حتى آخر الدهرِ تعودُ،
لونها أبيضُ كالماضي
وكالماضي،
لآلئُ في سوارِ الريحِ
أو في خاتم الشمس
نَداها
وكلّما عادتْ
أظنُّ أنني للمرة الأولى أراها
فكيف أنتِ؟

***

قال
الترابْ:
- يا شجرات اللَّوْز،
أعطيتنّ هذي المرأة الأبيضَ من أغصانكنَّ
اتركْن شيئًا لي،
فهذا، لون قلبي
- إننا ننشرُ ديوان بياضكْ
قلتُ:
- وهبْتِ اللَّوْزَ كلَّ الأبيضِ المسكوبِ
من محبرة الروح عليك،
فا تركي شيئًا لأوراقي،
فهذا
لونُ قلبي
- إنّني
أنشرُ ديوانَ بياضك
مرّ الترابُ بي مساءً
فتحدثنا طويلاً
وشربنا قمرًا عتّقه في الموجِ
بحار قديم
ومضى قبل مشيب الليْلِ
مُلتفًّا بعُشبٍ،
تاركًا عنديَ حقْلاً
حاملاً مني دواةً،
فأفقْتِ الصبح قُرْبي
شجرة
وأفاق الشجرُ الأبيضُ
في الأرضِ امرأة!

هذا هو جوزيف حرب مُبدع الشعر الصافي في تجلياته الروحية والإنسانية والكونية بعيدًا عن اصطناع المناسبة وركوب موجة الموقف - وصوت الشعرية اللبنانية إلى العالم، وهذا هو «جمال العربية» الصاعدُ من قصائد له كالنجوم.

 

 

فاروق شوشة