الإطار النظري والتطور التاريخي

الإطار النظري والتطور التاريخي

ملف خاص

شأنه شأن كافة ما أبدعته قريحة البشر, لم يمكث مفهوم حقوق الإنسان جامداً, فلحقت به تطورات وأضيفت إليه توسعات.

كثر الحديث عن (حقوق الإنسان) في السنوات العشرين الأخيرة. ولعبت قضية حقوق الإنسان دوراً مهماً وحاسماً أثناء (الحرب الباردة) (1945 ـ 1990). وانطبق عليها في كثير من الأحيان القول المأثور عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه, بأنها (كلمة حق يراد بها باطل). فماذا يعني المصطلح؟ وماذا ينطوي عليه من دلالات مجتمعية وفردية وعالمية؟

يشير مصطلح (حقوق الإنسان) ببساطة إلى (الحقوق) التي يُعتقد أن كل البشر ينبغي أن يتمتعوا بها لكونهم (آدميين), وينطبق عليهم الشرط الإنساني. أي أن هذه الحقوق ليست منحة من أحد, ولا يؤذن فيها من الدولة. وهذه الأخيرة لا تمنحها ولا تمنعها. فبينما قد تختلف الأنظمة القانونية من دولة إلى أخرى, فإن الحقوق المرصودة والمقررة (للإنسان) هي (استحقاقات) لا لبس ولا غموض حولها في القانون الدولي. ومن ذلك على سبيل المثال حق الإنسان في محاكمة عادلة, وهو استحقاق معترف به في ظل (القانون العام) (Common Law) و(القانون المدني) (Civil Law) والقانون الروماني (Roman Law). أي أن كل دولة مطالبة بأن تكيف أنظمتها القانونية بحيث تستوعب, وتعكس, وتطبق, وتحترم مواد القانون الدولي الخاصة بحقوق الإنسان.

عالمية وشمولية

صدر (الاعلان العالمي لحقوق الإنسان) في 10/12/1949. وقد عدد الاعلان, بعد ديباجته القوية, حقوق الإنسان في الحياة, والحرية, والكرامة, والمساواة أمام القانون, والاجتماع, والحركة, والاعتقاد.. وهي كلها حقوق فردية, يطلب الإعلان من الدول احترامها وعدم خرقها أو الافتئات عليها. فالقاعدة هي أن هذه حقوق (طبيعية), وليست منحة من أي سلطة فردية (ملك أو رئيس) أو جماعية (حكومة أو دولة).. وكل افتئات أو تجريح أو انتهاك لهذه الحقوق الفردية للإنسان, يجب التنديد به, ومطالبة الدولة أو السلطة بالكف عنه فوراً وتعويض أصحاب الحق المنتهك. وينبغي التنويه هنا أن هذه الحقوق كما وردت في الإعلان العالمي هي حقوق فردية, وليست جماعية. فالحقوق الجماعية للشعوب تنص عليها وتنظمها مبادئ ومواثيق وإعلانات أخرى, مثل (حق تقرير المصير) للشعوب, والحق في احترام سيادة الدول, وما إلى ذلك.

ولأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يؤكد على (فردية) هذه الحقوق, فقد كان ولايزال هناك سجال متصل عما إذا كانت هذه الحقوق التي يقال عنها صراحة أو ضمنا أنها (عالمية) هي فعلا (عالمية) ـ أي هي حقوق طبيعية فطرية في كل المجتمعات والثقافات, أم هي نتاج وإفراز لتجربة شعوب ومجتمعات بعينها في الغرب؟ وإذا كان الأمر كذلك أو فيه شيء من ذلك, ألا يعتبر ذلك ترويجا وتكريسا للقيم والمعايير الغربية, ومحاولة فرضها على العوالم غير الغربية ـ من الصين, إلى الهند, إلى إفريقيا, والعالمين العربي والإسلامي؟

وقد اشتعلت هذه المساجلات في كل مرة جرت فيها محاولة تفصيل مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ـ مثلما حدث عام 1966 بمناسبة صدور (العهد الدولي لحقوق الإنسان). وبرغم أن معظم دول العالم أقرت الإعلان العالمي والعهد الدولي خلال العقود الأربعة التالية, فإن هذه المسألة ـ أي نسبية أو إطلاقية حقوق الإنسان ـ برزت واحتدم النقاش حولها مرة أخرى بمناسبة المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان, الذي انعقد في فيينا عام 1993. فإن هذه الاقلية من الدول حاولت إقناع الأغلبية بإسقاط مفهوم (عالمية) هذه الحقوق والإقرار بمبدأ (النسبية). ولكن الأغلبية, بما فيها أكثر من أربعين دولة حديثة العهد بعضوية الأمم المتحدة, لم تقتنع أو تصوت لمقولة (النسبية) هذه, والتي تبنتها في ذلك الوقت الصين الشعبية, وبعض دول شرق آسيا, وقلة قليلة من الدول الإسلامية. وقد فهم المراقبون والباحثون ذلك على أنه تمسك من معظم أبناء البشرية بمفهوم (عالمية) حقوق الإنسان على إطلاقها, حتى وهم يدركون أنها قد لا تحترم دائماً أو في كل مكان. ولكن وجودها والاقرار بعالميتها وشمولها وإطلاقها هو في حد ذاته إعلاء لما تنطوي عليه من معانٍ ومبادئ ومثل نبيلة, وهو سياج معنوي ساتر ضد الانتهاكات والجرائم التي ترتكب ضد البشرية.

ومع ذلك, فإن الإعلان الذي صدر عن مؤتمر فيينا, أقر بالاجماع في مادته الخامسة بالتعدد الثقافي والديني وبالنسبية الحضارية, ولكن ليس على حساب حقوق الإنسان. فجاء في مادته الخامسة تحديدا ما يلي:

(مع الإقرار بأهيمته بالخصوصيات القومية والإقليمية, وبالاختلافات التاريخية والثقافية, وبضرورة أخذها في الاعتبار, إلا أن واجب الدول, بصرف النظر عن أنظمتها السياسية والاقتصادية والثقافية أن تنمي وتحمي كل حقوق الإنسان والحريات الأساسية).

كما أن نفس إعلان مؤتمر فيينا لحقوق الإنسان أوضح في المادة 57, بما لا يترك مجالا للشك أو التلاعب أو التحايل (أن أي ترتيبات اقليمية خاصة بأي مجموعة من الدول لا ينبغي أن تنتقص من المعايير العالمية, بل ينبغي أن تدعمها).

تراكمية الإقرار بحقوق الإنسان

برغم أن (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) (1949) قد ركز على الحقوق المدنية والسياسية, فإنه من الخطأ الاعتقاد بأن هذه هي كل شيء. فهناك حقوق أخرى تم بلورتها والإقرار بها تباعا. ومن أهمها ما ورد في (العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية), وفي مقدمة تلك الحقوق الحق في الإسكان والتعليم. وكان الأمر كالعادة مثار جدل قبل إقرار العهد, وخاصة بين الدول الغربية المتقدمة والأغنى من ناحية, ودول الجنوب النامية والأفقر من ناحية أخرى. فقد كانت وجهة نظر الدول الغربية أن معظم ما ورد في مسودة هذا (العهد) ليست, ولا ينبغي أن يطلق عليها مصطلح (حقوق), لأنها لا تعدو أن تكون (أماني) أو (تطلعات). ومع ذلك فقد أقرت الدول الغربية هذا العهد.

وقد أصرت الدول النامية, لا فقط على إقرار (العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية), ولكن أيضا على تعيين لجنة دائمة في الأمم المتحدة لمتابعة التزام الدول الأعضاء باحترام وتطبيق المواد الواردة في ذلك (العهد). وقد نشطت لجنة المتابعة هذه, وفعلت الشيء الكثير نحو تطبيق واحترام مواد (العهد). واعترفت اللجنة مبكرا, بأنه وإن كان يصعب تحقيق كل أو حتى معظم ما ورد في (العهد) إلا أن منهج اللجنة سيكون متابعة وتسجيل درجة الجدية والتقدم التي تبذلها كل دولة في سبيل تحقيق ما تنطوي عليه مواد (العهد). أى أن اللجنة تعتبر إقرار أي دولة بهذا (العهد) هو بمثابة (تعهد) أن تبذل أقصى ما تستطيع من أجل بلوغ أهدافه, وأن العبرة هي ألا تتخلى أو تتقهقر الدولة عما كانت قد تعهدت به أو أنجزته في لحظة سابقة. كذلك وضعت اللجنة نصب عينيها لا فقط احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجميع, ولكن عدم التفرقة في شأن الوفاء بها. من ذلك, مثلاً, عدم (التفرقة) في توفير إسكان مدعوم من الدولة على أساس الجنس أو العنصر أو الدين لأى فرد أو فئة من مواطني تلك الدولة. وينطبق نفس الشيء على كل (ما يمكن التقاضي) (Justiciabilty) بشأنه ـ أي إثبات التفرقة من عدمها.

وأكثر من ذلك أوضحت اللجنة المكلفة بمتابعة تنفيذ العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, بأن عدم (إمكانية التقاضي) بشأن انتهاك بعض هذا الحقوق لا ينتقص من مبدأ استحقاق الوفاء بها. وكل ما هنالك أنه يتطلب من المجتمع الدولي ومن ذوي الاختصاص بذل المزيد من الجهد لبلورة آليات لتقنينها, ومن ثم لإمكانية التقاضي بشأنها مستقبلا.

هل يمكن أن تكون جماعية؟

من المسائل التي ظلت خلافية بشأن مواثيق حقوق الإنسان هي إمكانية شمولها (لجماعات) بأكملها. فالصياغات الحالية لمعظم هذه المواثيق, إن لم يكن لها جميعا, هي منطوقة لصالح الأفراد وليس لصالح الجماعات. بل إن أحدث هذه المواثيق الخاصة (بالأقليات), والذي صدر في ديسمبر 2991, يتحدث عن حقوق (الأفراد) المنتمين لأقليات لغوية أو دينية أو عنصرية أو قومية, وليس عن (حقوق جماعية) لهذه الاقليات أو لأى منها (كجماعة). من ذلك أن من حق (عضو هذه الأقليات أن يتعلم لغة جماعته وأن يتعبدفي حرية بدين هذه الجماعة. ولكن إعلان هذه الحقوق لا ينصرف إلى الجماعة ككل. والاستثناء الوحيد في أسرة هذه المواثيق هو (حق تقرير المصير) (Right to Self _ Determination), والذي ينتمي لمنظومة مختلفة تماما غير منظومة مواثيق حقوق الإنسان من حيث الصياغة, والاطراف المخاطبة, وآليات التنفيذ والتحقق من الوفاء والالتزام بهذه الحقوق.

فإعلان حق تقرير المصير يبدأ بعبارة (كل الناس) أو (كل الشعوب) (All Peoples). ولكن هذا الحق المهم يخرج عن إطار هذا المقال.

ومن وجهة النظر الغربية, يظل الاهتمام والتركيز على المستفيدين كأفراد من الضمانات الدولية لحقوق الإنسان, في مواجهة السلطات المحلية التي يعيش في كنفها هؤلاء الأفراد. ومع ذلك فهناك اهتمام أصيل من بعض الدوائر الغربية, وخاصة الدول الاسكندنافية, في توسيع نطاق مفهوم حقوق الإنسان ليشمل الجماعات والشعوب, ولو بالنسبة لحقوق بذاتها. وقد دعم هذا الاتجاه الأحداث التراجيدية في يوغوسلافيا السابقة, وممارسات (التطهير العرقي). ومن ذلك جعل (إبادة البشر) بسبب انتمائهم الديني أو العرقي جريمة ضد الإنسانية ومخالفة صريحة لحقوق الإنسان فرديا وجماعيا. فأولئك الذين يحاكمون في (لاهاي) لارتكاب جرائم جماعية في البوسنة, مثلا, يعتبرون منتهكين لحقوق جماعية. وبهذا المعنى, فإن محاكمات (لاهاي) في أواخر التسعينيات, تعتبر امتدادا لمحاكمات النازيين في (نورمبرج) في أواخر الأربعينيات. وربما كان عدم وجود سوابق أخرى مثل جرائم النازية لمدة خمسين سنة, هو الذي جعل مسألة الحقوق الجماعية غير مطروحة بشدة خلال الفترة الوسيطة.

أما وقد وقع ما وقع في البوسنة, ثم بعدها في رواندا, وبورندي, وزائير (الكونغو سابقا ولاحقا), فإن هناك تراكمية من الانتهاكات الجماعية خلال السنوات الخمس الأخيرة, والتي تجعل من تأكيد الحقوق الجماعية مسألة أكثر إلحاحا. ونتوقع بالفعل إما صدور إعلان جديد أو عهد جديد للحقوق الإنسانية الجماعية, أو إضافة مواد جديدة للمواثيق والعهود القائمة, والمقرة من أغلبية دول العالم, تنص على هذه الحقوق الجماعية, و(تجرم) انتهاكها بواسطة الأفراد أو الجماعات الأخرى أو مؤسسة الدولة نفسها.

كذلك يدخل في السجال الدائر خلال العقدين الأخيرين, الحديث عن الحاجة إلى (جيل ثالث) أو حتى (جيل رابع) من مواثيق حقوق الإنسان. فالإعلان العالمي يمثل وحده الجيل الأول, حيث إن العهود التالية صدرت بعده بعشرين سنة في أواخر الستينيات. ثم صدرت مجموعة ثالثة من المواثيق بعد ذلك خلال العقود الثلاثة التالية أي في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات ـ اعلان مناهضة التمييز بسبب النوع أو العنصر, وحقوق المرأة, وحقوق الطفل, وحقوق الأفراد المنتمين إلى (السكان الأصليين) (Indegenous People), وحقوق الأفراد المنتمين إلى أقليات دينية أو عرقية أو لغوية أو قومية. وهناك حديث الآن عن إصدار إعلان عن (حقوق الإنسان في بيئة نظيفة), وآخر عن (حقوق الإنسان في التنمية المتواصلة) (Rights of Sustainable Development). وستكون هذه بالضرورة أقرب إلى الحقوق الجماعية, وليس إلى الحقوق الفردية, حتى إذا كان المستفيدون منها في النهاية هم الأفراد.

ولكن تظل هناك, سواء بالنسبة (لحقوق) الأفراد أو الجماعات, في الجيلين الثاني والثالث من المواثيق إشكالية السلطة المنوطة بالتنفيذ, وبالمحاسبة, وبالعقاب. فهذه الإشكالية, شأنها شأن الإشكاليات القديمة بالنسبة للجيل الأول من مواثيق حقوق الإنسان, لاتزال عرضة للخلاف الأيديولوجي, والخلاف بين منظوري الفقراء والأغنياء من بلدان العالم.

تكييف القوانين

إن القانون الدولي العام هو المصدر الأول والمعترف به للعديد من حقوق الإنسان. ولكن معظم هذه الحقوق قد تم إقرارها وتوثيقها من خلال نسق مفصل من المعاهدات والاتفاقيات والعهود الدولية, التي وقعت عليها الحكومات الأعضاء في الأمم المتحدة منذ منتصف الستينيات, فالعهدان الخاصان بحقوق الإنسان (1966) يشملان بينهما كل الحقوق الرئيسية السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وهما مفتوحان لتوقيع كل الدول. وبعض هذه الحقوق قد تم تصنيفه حسب الموضوع, وخصص لكل موضوع معاهدة مستقلة, تم فيها تفصيل الحقوق والإجراءات المتعلقة بضمانات التنفيذ والإشراف والمتابعة والمحاسبة. وقد أنشأت الأمم المتحدة آليات لمراقبة كل معاهدة, وإعداد التقارير الدورية عن مدى التزام الدول الموقعة بها. وهذه اللجان هي المنوطة أيضا باستلام شكاوي الأفراد والجماعات والمؤسسات, ولها أن تفحصها, وتقرر مدى جديتها, فإذا ثبتت الجدية فإن لهذه اللجان أن تحقق وتتحقق من مضمون هذه الشكاوي, ولها أن تعقد جلسات استماع خارج أو داخل اراضي الدولة المشكو في حقها. أي أن اللجان المختصة بمتابعة معاهدات حقوق الإنسان تقوم في الواقع بما يشبه وظيفة المحكمة, وإن لم تكن محكمة بالمعنى الفني والقانوني الدقيق للكلمة.

من ذلك أن هناك معاهدة أمريكية لحقوق الإنسان, تشمل معظم دول الامريكتين, ولها لجنة مراقبة ومحكمة منوطة بالتحقيق, وفي الشكاوى المقدمة من دول ضد أخرى, أو من أفراد ومؤسسات غير حكومية ضد حكومات. وقد قامت اللجنة والمحكمة بالكثير من التحقيقات في الخمس عشرة سنة الأولى التي مضت على تأسيسهما. وينطبق نفس الشيء على الهياكل واللجان التي أقامها المجلس الأوربي: بدءا من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان, وانتهاء بالمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان, والتي يستطيع فيها أي مواطن أوربي أو حتى غير أوربي أن يتقدم بشكواه إلى المحكمة مباشرة إذا ما شعر بأن أحد حقوقه قد انتهكت بواسطة دولة أوربية. وقد طورت اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان منذ إنشائها عام 1950 أكثر الأنظمة القانونية والقضائية تفصيلا واكتمالا.

وقد تبنت معظم الدول الأوربية هذه الأنظمة وجعلتها جزءاً لا يتجزأ من أنساقها القانونية الوطنية. وحتى الدول الأوربية الخمس التي لم تفعل ذلك إلى عام 1996, فإنها إرتضت أن تعتبر أحكام المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان (ملزمة) لها, ومنها على سبيل المثال حكومة المملكة المتحدة. وكانت محكمة الإنسان الأوربية واللجنة المصاحبة لها قد شملها تعديل وتطوير شاملان في عام 1994, بحيث أصبحتا مؤسستين دائمتين من مؤسسات الجماعة الأوربية.

هذا وتجري محاولات مماثلة لما حدث في الأمريكتين وأوربا, من إنشاء مثل هذه المؤسسات الحقوقية الإقليمية للسهر على تطبيق المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. وتوجد هذه المحاولات بدرجات متفاوتة من الجدية في منظمة دول جنوب آسيا (SARC), ورابطة جنوب شرق آسيا (ASEN), ومنظمة الوحدة الإفريقية (OAU). أما الحديث عن محكمة عدل عربية, وتعثر محاولاتها ـ فليس واضحا ما إذا كان التقاضي بشأن مواثيق حقوق الإنسان سيكون ضمن اختصاصاتها. ونحن نشك كثيرا أن تسمح الحكومات العربية بذلك في الأجل المنظور, فبعضها لا يسمح حتى بقيام منظمات أهلية للدفاع عن حقوق الإنسان, وهو أمر سنتطرق إليه في الفقرة الختامية من هذا المقال.

القيود على الحقوق

من الأمور الخلافية والسجالية في مجال حقوق الإنسان التوازن الحساس بين حقوق الفرد المشروعة وواجبات الدولة في حماية أمنها الداخلي والخارجي, أي توفير الأمن للجماعة أو المجتمع ككل. وقد أفتى فقهاء القانون العام بجواز فرض (قيود مقننة) (Permitted limitations). وطبقا لهذه الفتوى فإنه لا توجد (حقوق مطلقة) إلا فيما ندر. ومن هذه الأخيرة تحريم التعذيب. فيما عدا ذلك فإن معظم الحقوق قد يرد على ممارساتها أو التمتع بها قيود أو تحفظات. والعادة أن يكون القانون المقيد أو المنظم للحقوق والحريات سابقا أو مصاحبا للقانون الذي يقر هذه الحقوق والحريات, وأن يكون المواطن على دراية بهما معاً, حتى لا يختلط الحابل بالنابل ـ أي حقوق الفرد وضرورات حفظ الأمن والنظام في الدولة.

وفي ثقافة وتقاليد حقوق الإنسان لابد أن تثبت الدولة أن ما تقترحه من قيود على حقوق الأفراد له مبررات ضرورية, ويمكن أن يتفق عليها (العقلاء) من أبناء نفس المجتمع. وتكون هذه القيود عادة لأغراض (المصلحة العامة), وخاصة في مجال الصحة العامة والأمن القومي, وليس مصلحة الحكومة أو الحاكم أو النخبة الحاكمة.

وفي أوقات الأزمات, أو حالات الطوارئ ـ مثل نشوب حرب, أو قيام تمرد عسكري واسع, فإن للدولة أن تعلق مؤقتا ممارسة بعض حقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية أو في القوانين الوضعية للبلد المعني نفسه, وذلك فقط خلال الأزمة أو الظرف الطارئ. وكما سبقت الإشارة, هناك حقوق إنسان لابد أن تصان وتحترم في كل الأوقات بلا استثناء. فإلى جانب تحريم التعذيب على وجه الإطلاق, حتى في لحظات الأزمة أو الكوارث, فهناك أيضا حق التفكير, وحرية الضمير والعبادة والدين, فهذه لا يمكن أن تهدد ممارستها أمن المجتمع أو سلامة الوطن.

أين نحن من حقوق الإنسان ؟

وقف أحد عملاء الأمويين في المسجد الكبير في دمشق عام 661, وصاح بأعلى صوته, (أن بيعة الخلافة لمعاوية, ومن بعده ولده يزيد, ثم وشهر سيفه في الهواء قائلا: أما (هذا) فلمن لا يبايع). ومنذ هذه اللحظة الرمزية في تاريخ العرب والمسلمين, تداخلت مصلحة (الأمة) و(أمنها) مع مصلحة الحاكم وأمنه. ومع تكريس الفقه السني في الدولة الإسلامية الأموية ثم العباسية من بعدها, أصبحت مسألة (وحدة) المسلمين أهم قيمة سياسية.. وأصبح الخلاف مع الحاكم هو بمثابة دعوة إلى (الفرقة) و(الفتنة), واعتبرت الفتنة أبشع جريمة سياسية, وهي أبغض وأشد من القتل. ولم تكن صدفة أن يطلق عميد الأدب العربي طه حسين, وغيره من الكتاب العرب والمسلمين اصطلاح (الفتنة الكبرى) على أول خلاف سياسي رئيسي نشأ بين الصحابة, وانفجر في أواخر أيام الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان, والذي أدى إلى مقتل عثمان (عام 656) واستمرار التحدي للخليفة الراشد الرابع على بن ابي طالب, واستمرار الصراع المسلح على السلطة معه, أولا بينه وبين طلحة والزبير (معركة الحمل 656) ثم أخيرا مع معاوية بن أبي سفيان (معركة صفين, 27/7/657).

ومنذ تلك السنوات في القرن الأول الهجري, والنصف الثاني من القرن السابع الميلادي, وقضية العلاقة بين الشعب والسلطة, قضية خلافية, تنهمر حولها الدماء, تحت رايات وشعارات نبيلة, تلفعت بالدين (القرآن والسنة) ردحاً طويلاً, ولا تزال إلى يومنا هذا, ولكنها في القرن العشرين وجدت لافتات ورايات إضافية مثل (القومية) و(الوطنية), و(العدالة) و(الاشتراكية).

ولكن شعوب الوطن العربي, كغيرها من الشعوب وخاصة في العالم الثالث, بدأت تسمع عن حقوق الإنسان والدساتير والحريات الأساسية, منذ بدايات عصر النهضة في القرن التاسع عشر. ومع زيادة التعليم والوعي, والرغبة في المشاركة السياسية, وجدت هذه المفاهيم تربة خصبة بين المثقفين في أواسط القرن, والذين كانوا في طليعة الحركات الوطنية من أجل الاستقلال. ولذلك تبنوا في لحظات الاستقلال الأولى في فترة ما بين الحربين, وما بعد الحرب العالمية الثانية, معظم مفاهيم ومواثيق ومفردات حقوق الإنسان, بمفهومها الليبرالي. فالدساتير العربية التي صدرت في مصر والعراق وسورية ولبنان والأردن بين عامي 1920 و1946, أكدت كل هذه المفاهيم والقيم والحقوق. بل إن رئيس لجنة صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة كان عربيا مصريا وهو الدكتور محمود عزمي. أي أن بعض شعوب الأمة لم تتخلف كثيرا عن الطلائع العالمية المهمومة بتقنين وتكريس مواثيق حقوق الإنسان.

ولكن المشكلة العربية مع تقنين العلاقة بين الشعب والسلطة, ومع احترام حقوق الإنسان, عادت للظهور وبشدة منذ بدأت الانقلابات العسكرية والأيديولوجية, للاستيلاء على الحكم بالقوة, وليس بحكم القانون أو الانتخاب. وأعلنت مثل هذه الانقلابات نفسها (كثورات). وبدأ بعضها تغييرات اجتماعية ـ اقتصادية واسعة النطاق بالفعل. ولكنها تحت مسمى (الثورية) ومع الشعارات الشعبوية التي رفعتها, بررت لنفسها تعليق الديموقراطية والحريات الأساسية وانتهاك العديد من حقوق الإنسان, رغم توقيع أغلبية الدول العربية على هذه المواثيق.

وقد أدى ذلك فيما أدى إليه إلى التعسف والقهر والاستبداد, الذي لم يجد معه بعض المواطنين العرب بدا من اللجوء هم أو أسراهم بالشكوى لمنظمات حقوق الإنسان الخارجية, وخاصة (منظمة العفو الدولية). ولكن الأنظمة الاستبدادية العربية سرعان ما كانت ترد على تقارير هذه المنظمات بأنها (غربية) (استعمارية), بل وعميلة أو واجهة للمخابرات الأجنبية, التي تهدف إلى تخريب وتجزئة وإضعاف الأمة العربية!.

لذلك لجأ عدد من المثقفين العرب عام 1982 إلى المبادرة بحركة عربية لحقوق الإنسان. وبعد مداولات ونقاشات عديدة في تونس والقاهرة وبيروت, تمت الدعوة إلى جمعية تأسيسية لانشاء أول منظمة عربية لحقوق الإنسان. ولكن الحكومات العربية جميعا رفضت تمكين هؤلاء الدعاة من عقد مؤتمرهم الأول في أي عاصمة عربية. لذلك اضطر المنظمون إلى عقد الجمعية التأسيسية في ليماسول, قبرص. وأنشئت المنظمة بالفعل يوم 1/12/1993, واتخذت من القاهرة مقراً لها, كأمر واقع, انتظاراً لموافقة الحكومة المصرية, التي لم تصدر إلى اليوم (أواخر عام 7991). موافقة أو ترخيصا رسميا. ومع ذلك فالحكومة المصرية تغض النظر عن النشاط المكثف والظاهر في قلب العاصمة المصرية منذ أربعة عشر عاماً.

المهم أن الحركة العربية لحقوق الإنسان قد نمت وتطورت ببطء شديد. وتجلى هذا التطور في تأسيس فروع للمنظمة في عدة بلدان عربية ـ منها: مصر, والسودان, واليمن, والأردن, وتونس, والجزائر, والمغرب, ولبنان, وفلسطين. كما نشأت فروع لها في الخارج ـ لندن, وجنيف, وفينا, وباريس, وتورنتو. وللمنظمة الأم مجلس أمناء منتخب, ورئيس, وأمين عام. وكان رئيسها الأول هو المرحوم فتحي رضوان, الذي كان يلقب في حياته باسم (شيخ المعارضين), وكان أمينها العام الأول د. سعد الدين إبراهيم, ثم خلف الأستاذ فتحي رضوان في الرئاسة المعارض العراقي الكبير المهندس أديب الجادر, وخلف سعد الدين إبراهيم كأمين عام الأستاذ محمد فايق, وزير الإعلام المصري الأسبق (في عهد جمال عبدالناصر). ويرأس المنظمة حاليا الدكتور على أومليل, المفكر المغربي, وأستاذ الفلسفة المعروف وأعيد انتخاب الأستاذ محمد فايق أمينا عاما لدورة ثالثة.

وبرغم أن معظم الحكومات العربية استمرت في انتهاكات مواثيق حقوق الإنسان, وإن بدرجات مختلفة, فإنها لم تعد تسوق الحجج حول أن من يكتشف هذه الانتهاكات هو هيئات (أجنبية) أو واجهات (لمخابرات معادية). فالآن هناك منظمة عربية شعبية قلبا وقالبا, ويقوم على قيادتها عناصر وطنية وقومية يصعب التشكيك في نزاهتها.

من ناحية ثانية, كان أمام المنظمة العربية لحقوق الإنسان وفروعها مهام شاقة للغاية, لا فقط في التعامل مع الحكومات العربية التي ناصبتها العداء منذ البداية, ولكن أيضا في تنمية (ثقافة عربية لحقوق الإنسان), مجردة عن الهوى الأيديولوجي, كأن تدافع المنظمة عن الشيوعي والإسلامي, عن الناصري والبعثي والليبرالي, بنفس القوة والحماس مادام الأمر يمس حقوقهم الإنسانية. أو بتعبير آخر, كان ولايزال واجب المنظمة والعاملين في حقوق الإنسان حماية والدفاع عن حقوق الجميع, حتى وإن كان هؤلاء أنفسهم لا يؤمنون بالديموقراطية أو المساواة بين كل البشر في الحقوق والواجبات, ولم يكن ذلك, وليس إلى الآن, بالأمر السهل.

كذلك كان على المنظمة والرعيل الأول من قياداتها وأعضائها أن يلتزموا الموضوعية وسلامة الاجراءات في التحقق من جدية ما يردها من شكاوى المواطنين العرب والجماعات العربية التي تتعرض حقوقها للانتهاك, ثم التحقيق فيها بأمانة واقتدار من خلال النشطاء الميدانيين والمحامين الذين يجمعون بين الالتزام الإنساني والكفاءة المهنية. ولم يكن هذا أيضا بالأمر السهل على الاطلاق. فكما أن هناك ميلاً حكوميا عربياً لإنكار أي انتهاكات, فإن هناك ميلاً عربيا شعبيا للمبالغة في كم وحجم ونوعية ما يقع لهم أو لذويهم من انتهاكات.

والحركة العربية لحقوق الإنسان لا تقتصر على المنظمة وفروعها, فقد نشأت عدة مراكز بحثية أخرى معنية بنفس القضايا وإن يكن بشكل توثيقي وبحثي وإعلامي وإرشادي. وظهرت مراكز متخصصة في حقوق الأقليات, وحقوق المرأة, وحقوق العمال, وحقوق الفلاحين. وهناك مراكز متخصصة في الكشف عما يقع للمواطنين من تعذيب, وعلاج ضحايا هذا التعذيب, جسديا ونفسيا, وإعادة تأهيلهم اجتماعيا.

إن الطريق لايزال طويلا أمام غرس وتعميق قيم وممارسات حقوق الإنسان في المجتمعات العربية. ولكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة, وقد خطت الحركة العربية لحقوق الإنسان عدة خطوات بالفعل, وستسير بخطى أسرع كلما نمـت وتعـددت وتكرسـت منظـمات المجتمـع المدنـي, وكلمـا نمـت وتطـورت وتكرست مسيرة الديموقراطية.

 

سعد الدين إبراهيم

 
  




صورة الغلاف