من التشريع إلى التطبيق
من التشريع إلى التطبيق
ملف خاص نضج التشريع الدولى لحقوق الإنسان إلى حد بعيد ، فثمة الآن ما يربو على مائةة وثيقة تتنوع إلى علاقات وعهود ومواثيق وتقنيات للسلوك والمعاملة . فى القلب من التشريع الدولى لحقوق الإنسان تقع الشرعة الدولية ، وهى تتكون حاليا من خمس وثائق ، هى : إلإعلان العالمى لحقوق المدنية والسياسية ، والعهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، هذا إضافة إلى بروتوكولين اختياريين ويعنيان أساساً بالتطبيق ، ملحقين بالعهد الأول . ويعالج التشريع الدولى لحقوق الإنسان إما طائفة متكاملة من الحقوق ، من خلال الإعلان العالمى أو العهدين الدوليين ، أو مجالات محددة مثل حق تقرير المصير واستئصال التمييز ، وحقوق المرأة ، والأطفال ، والأشخاص الخاضعين لتجارة العبيد أو الرق فى أشكاله التقليدية أو الحديثة ، والأقليات ، والشعوب الأصلية كما أنه يعالج قطاعات معينة مثل الحق فى المعلومات ، وحق التجمع ، والحق فى العمل ، والزواج وتكوين أسرة وحقوق الرعاية الاجتماعيةة بشتى أشكالها ، والحق فى التمتع بالثقافة ، وحق الحصول على الجنسية واللجوء السياسى والاقتصادى ، ويتناول التشريع الدولى أيضا قمع جرائم معينة مثل جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقى ، هذا إلى جانب ما ينص عليه القانون الدولى الإنسانى وخاصة فيما يتعلق بمعاملة أسرى الحرب والمدنيين وضحايا النزاعات المسلحة عموماً ، وهى القضايا التى تنظمها اتفاقيات جنيف الأربع ، والبروتوكولان الملحقان بالاتفاقية الأخيرة لعام 1949 . إن السؤال الذى يتردد بإلحاح فى الصحف وقاعات الدرس والمنتديات الفكرية والمطبوعات الثقافية والمؤتمرات السياسية ، ويردده كل الناس فى كل مكان هو متى تطبق حقوق الإنسان ، وأين نحن من تطبيقها الآن ؟ إن بعض الناس قد يردد هذا السؤال على سبيل الاستهانة ، وهم يضمرون أو يصرحون بالقول بأن القانون الدولى لحقوق الإنسان ليس سوى مثاليات أخلاقية أو مبادئ تجريدية لا سبيل لتحقيقها ، وأنها منفصلة عن الواقع ومحرومة من القوة المادية اللازمة لوضعها موضع التطبيق ، وبعض هذا البعض يردد هذه الأسئلة بروح السخرية قاصداً منها أن تشكل مبرراً لإجازة الانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية . غير أن أغلب الناس تطرح هذه الأسئلة كتعبير عن هواجس مشروعة وقلق عاصف حيالى ما يجرى من انتهاكات ، وكتجسيد للتوق العارم لعالم جديد وواقع مغاير يحترم إنسانية البشر وكرامتهم ويصونها وعززها بكل السبل . ولا ينكر نشطاء حقوق الإنسان مشروعية هذه الأسئلة ، بل إنهم يضاعفون كفاحهم من أجل التطبيق ويعبئون كل صور الضغط الممكن لوع المواثيق والعهود الدولية موضع التطبيق والاحترام من جانب الحكومات والمؤسسات الخاصة والأفراد . غير أن اللافت للنظر فى تلك الأسئلة هى الطريقة التى تصاغ بها ، فبعض الناس ينتظرون أن يأتى لهم التطبيق جاهزاً ، ويختلف هذا الموقف اختلافا جليا عن صياغة نفس الأسئلة بروح المشاركة فى مسئولية التطبيق ، فاحترام حقوق الإنسان كما سجلتها المواثيق الدولية لن يتم عن طريق جهة ما غيرنا نحن ، أقصد أن الناس جميعاً مسئولون عن النظال من أجل حقوقهم وحقوق غيرهم ، وقد يتطلب هذا النضال الاهتداء بأفضل السبل أو التعرف بحكمة وموضوعية على الوسائل التى طبقت بنجاح فى بلد أو آخر ، وقد يتطلب هذا النظال الاجتهاد فى بحث وإتقان الوسائل التى تقود إلى أفضل النتائج ، ولكن هذا كله يختلف كثيراً عن انتظار أن تقدم جهة ما أوحتى جماعة متخصصة مهما كان إخلاصها وصفاء نواياها إنجاز مهمة التطبيق لمصلحة المجتمع دون أن ينخرط هذا المجتمع بكل قواه وخلايا الحية ومؤسساته ومنظماته المدنية والسياسية فى الكفاح من أجل احترام حوق وحريات الفرد والمواطن فيه . فإذا ما قرر المجتمع أو قطاع مهم منه المشاركة في مسئولية النضال من أجل تطبيق منسجم ومنهجى للمواثيق والاتفاقات الدولية لحقوق الإنسان ، فإنه يستطيع قانوناً وأخلاقاً وكذلك من الناحية العملية أن يتسعين ببعض آليات الحماية الدولية . نظام الحماية الدولية فلم يكن التطبيق غائبا عن عملية التشريع ، بل إن الاهتمام بالجوانب التطبيقية كان بارزاً فى هندسة وصياغة التشريعات الدولية ، وقد استهدف المشرع الدولى منذ البداية أن ينشئ نظاما لإضفاء الحماية الدولية على حقوق الإنسان ، واهتم بتأسيس فلسفة ومعايير وآليات معتدلة لدعم هذه الحقوق . وتقوم فلسفة الحماية الدولية على إبراز مبدأ العالمية والتكامل والاعتماد المتبادل بين أنواع الحقوق . وعندما نتحدث عن عالمية حقوق الإنسان يجب أن نفهم أن لهذا المصطلح معنى مزدوجا ، فهو من ناحية يقول لنا إن كل إنسان من أى منطقة أو إقليم أو نظام ثقافى أو دولة بعينها جدير بنفس الحقوق التى سجلت من التشريعات الدولية . والخصوصيات القومية أو الظروف النوعية أو السياق التاريخى أو غير ذلك من أبعاد قد تقيد قليلاً من عملية الوفاء بالحقوق الإنسانية ، ولكنها لا تلغيها ، ولا يجوز أبداً أن تعصف بالحقوق والحريات الأساسية مثل حق الضمير والاعتقاد وحرية التعبير وحقوق التجمع والتنظيم أو الحق المطلق فى عدم إيذاء الجسد الإنسانى عن طريق التعذيب والحق فى محاكمة عادلة ونزيهة وتحريم الاعتقال العشوائى أم أعمال القتل والاختطاف وصور التعسف أو الحط بكرامة الإنسان خارج القانون أو حتى فى إطار القانون . وبهذا المعنى لا يجوز أن تقوم أى حكومة بإصدار تشريعات تناقض أو تنتهك الحقوق والحريات الأساسية أو تحريض موظفيها على انتهاك هذه الحقوق فعلاً فى الممارسة العملية ، وفور عضوية الدولة فى الأمم المتحدة فهى مضطرة قانوناً لإعمال الإعلان العالمى لحقوق الإنسان والنصوص والبيانات ذات الصلة فى ميثاق الأمم المتحدة ، كما أن توقيع وتصديق أى دولة على الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان يعنى أنها تعهدت ألا تخالفها تشريعاً أو ممارسة . ومن ناحية أخرى فإن معنى العالمية يشير إلى أن الحقوق الأساسية للإنسان قد أصبحت موضوعاً للتشريع العالمى والحماية الدولية ، وأن الدولة لا تستطيع أن تحتج أو تتحجج بمبدأ السيادة للحيلولة دون وصول نظام الحماية الدولية إلى كل شخص فى نظاق ولايتها الإقليمية ، وهى لا تستطيع كذلك أن تحرم أى شخص من تقديم الشكوى ومخاصمة دولته أمام جهات دولية فوضتها الأمم المتحدة صلاحيات التحقيق ووضع التقارير حول تنفيذ الدول الأعضاء لتعهداتها وفقاً للميثاق أو وفقاً للمعاهدات الدولية ، ومن زاوية العلاقة بين الحقوق الإنسانية تؤكد فلسفة التشريع الدولى أن ثمة تكاملا وارتباطا متبادلا بين أنواع الحق ، فلا يجوز لدولة أن تعتذر عن عدم الوفاء بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية بزعم أنها تؤمن بأولوية الحقوق المدنية والسياسية مثلما تفعل بعض دول المعسكر الرأسمالى ، أو تعتذر عن عدم الوفاس بالحقوق المدنية والسياسة بزعم أنها تؤمن فقط بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية مثلما كانت تفعل دول المعسكر الاشتراكي قبل انهيار حلف وارسو وتحلل الاتحاد السوفيتي السابق. وقد أنشأ المشرع الدولي نوعين من آليات الحماية، النوع الأول يقوم على عضوية الأمم المتحدة ويسمى آليات ميثاقية نسبة إلى ميثاقها، أما النوع الثاني فيقوم على تصديق الدول على الاتفاقيات الدولية ويسمى آليات تعاهدية. وبمقتضى الآليات الميثاقية يستطيع أي شخص أو جماعة أن تشكو حكومتها عندما يقع انتهاك من جانبها للحقوق والحريات الأساسية ، وتقدم الشكوى إلى لجنة حقوق الإنسان التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي ، فتقوم هذه اللجنة بالتحقيق في الشكاوي الضرورية وإبلاغ الحكومات بنتائج تحقيقاتها وطلب رفع الانتهاكات عندما تتوثق من وقوعها بالفعل. أما الآليات التعاهدية فإنها تتنوع إلى لجان تخص كا اتفاقية أو عهد أو معاهدة على حدة ، فالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ينشئ لجنة من 18 عضواً لمراقبة وفاء الدول بتعهداتها وفقاً للعهد، كما يلزم الدول الأعضاء بتقديم تقارير حول التدابير التي اتخذتها لضمان الوفاء بهذه التعهدات ، وتستطيع الدول أن تشكو زميلاتها في إطار اللجنة لكونها انتهكت تعهداتهاوفقاً للعهد ، ويمنح البروتوكول الاختياري الأول اللجنة التي أنشأها العهد صلاحيات تلقي اتصالات وشكاوي من أفراد خاضعين لأي دولة عضو حول انتهاكات لحقتهم من جانب حكومة هذه الدولة. وينشئ ميثاق حقوق الطفل مثلاً لجنة خبراء من عشرة أشخاص لتلقي المعلومات وتقارير الدول حول التزاماتها والتقدم الذي حققته على طريق الوفاء بمعايير حقوق الطفل وفقاً للميثاق. وينشئ ميثاق مناهضة التعذيب لجنة من خبراء عشرة تتلقى تقارير الدول المصدقة على الميثاق بخصوص التدابير التي اتخذتها للتوافق مع متطلباته، وتعلق عليها عندما ترى ضرورة لذلك، والتحقيق في معلومات موثقة بصدد انتهاكات ومزاعم التعذيب وتعلق عليها سواء جاءت هذه المعلومات من دول أخرى مصدقة أو من مصادر خاصة ومن الأفراد الذين يشكون وقوعهم أو وقوع غيرهم تحت طائلة التعذيب. وإلى جانب هذه اللجان، اهتمت الجمعية العامة للأمم المتحدة بإصدار إعلانات تضع تقنيناً دقيقاً وتفصيلياً لسلوك الموظفين العموميين والجهات ذات الصلة بخصوص حقوق الإنسان ، فعلى سبيل المثال تبنت الجمعية العامة عام 1979 تقنين السلوك الخاص بموظفي إنفاذ القانون، ويشمل هذا التقنين التزام هؤلاء باحترام وحماية كرامة وحقوق كل الأشخاص الذين يتعاملون معهم، وعدم استخدام سوى هذا القدر من القوة الذي يتطلبه أداء وظائفهم، فاستخدام الأسلحة النارية مثلاً يعد إجراء تتطلبه الظروف القصوى فقط مع بذل كل الجهد لتجنب هذا الاستخدام وخاصة ضد الأطفال وعندما يتأكد أن ثمة خطراً على الحياة إذا استخدمت طرق أقل خطراً ، وحظر استخدام هؤلاء الموظفين لأي نوع من التعذيب أو السماح به أو حتى مجرد تحمله .. إلخ. ودمغت الجمعية العامة قواعد استخدام القوة والأسلحة النارية من جانب موظفي إنفاذ القانون "رجال الأمن" وذلك في عام 1990 "مؤتمر هافانا"، كما أصدرت قواعد الحد الأدنى من المعايير في حالة استخدام بدائل الحبس " الأساليب العقابية غير السالبة للحرية" وذلك عام 1990 "مؤتمر طوكيو" ، وتوجيهات لمنع انحراف الشباب "مؤتمر الرياض عام 1990" ، وتطبيق العدالة ضد جرائم الشباب "مؤتمر بكين عام 1985" . والمبادئ الأساسية للعدالة القضائية "مؤتمر ميلان عام 1985"، وهكذا. وإلى جانب ذلك كله، يقوم الأمين العام بتعيين مقرر خاص في إطار الأمانة العامة لوضع تقارير بخصوص موضوعات حقوقية معينة تقدم إلى الجمعية العامة. نظام التعليم والدعوة والترويج وإلى جانب هذا النظام للحماية الدولية، يهتم عدد كبير من الهيئات الدولية بتوظيف إمكانات مدخل آخر لتعزيز احترام وتطبيق حقوق الإنسان وهو التعليم والدعوة والترويج لمبادئ حقوق الإنسان، فإذا كان نظام الحماية يعني بإقناع الدولة بعدم الإقدام على إصدار تشريعات أو تشجيع ممارسات تنتهك حقوق الإنسان أو التستر على هذه الانتهاكات، فإن نظام التعليم والترويج يعني ببناء أخلاق وضمائر وعقول ترفض هذه الانتهاكات وتؤمن بكرامة الإنسان وجدارته بالتمتع بحقوق وحريات أصيلة وأساسية. وإدراكاً لأهمية الثقافة، فإن الجمعية العامة والوكالات المتخصصة داخل الأمم المتحدة وخارجها تطالب وترى من المناسب والضروري تشجيع كل المحاولات والجهود الرامية لتدعيم أو غرس أو استنبات مشروعية ثقافية لحقوق الإنسان من خلال المعتقدات والرموز والدلالات السائدة في ثقافات معينة، بما في ذلك الأديان الكبرى في العالم . إن آليات الدعوة والترويج والتعليم تشمل جميع المؤسسات التي يمكن أن تقوم بدور في إشاعة قيم وثقافة حقوق الإنسان وصولاً إلى إصدار تشريعات وطنية لصيانتها، والمبادرة باتخاذ تدابير لحمايتها من خلال القضاء الوطني، وتشمل هذه المؤسسات جهاز التعليم الرسمي، وجهود التعليم غير الرسمي، والهيئات الثقافية والعلمية والروابط والمنظمات غير الحكومية التي تتخصص في النضال من أجل إشاعة قيم حقوق الإنسان والدفاع عنها أو تخصص جهداً وموارد أو أقساماً فيها للقيام بهذه الأنشطة ، وبينما تمتد هذه المداخل إلى المستويات الإقليمية والعالمية فإنها غالباً ما تتم على صعيد محلي أو وطني، وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من أي مدخل متكامل للعمل المتضامن من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان ونشرها والتعريف بها بين المستفيدين بها على جميع المستويات الاجتماعية في كل بلد، وبصفة خاصة بين المستضعفين والمحرومين من القوة والمعرضين لانتهاكات جسيمة من أبناء هذا البلد. ويلاحظ أن السنوات الأخيرة قد شهدت تحولاً غير مسبوق للاهتمام بآليات التعليم والترويج والدعوة لحقوق الإنسان على جميع المستويات، وربما يكون السبب الرئيسي وراء هذا التحول هو إدراك أن نظام الحماية الدولية لم يعد كافياً بحد ذاته لفرض احترام حقوق الإنسان، وأن المدخل الأفضل لتطبيق هذه الحقوق ليس هو قمع الانتهاكات بعد حدوثها وإنما هو الحيلولة دون حدوثها وإنما هو الحيلولة دونم حدوثها أصلاً من خلال مخاطبة العقول والضمائر وأشكال التربية الأخلاقية والثقافية والدينية التي تشكل دوافع قوية لسلوك يتناغم ويتسق مع ثقافة حقوق الإنسان. ويضاعف من أهمية هذا المدخل الإيجابي أن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لم تعد تأتي من جانب الحكومات وأجهزة الدولة وحدها، بل تشارك فيها أيضاً هيئات ومنظمات خاصة مثل شركات الأعمال، والحركات الإرهابية ومنظمات العنف والمليشيات والجيوش الخاصة بما فيها بعض المنظمات التي تسمي ذاتها "حركات تحرير"، وهي غالباً ما تؤمن بأيديولوجيات عرقية أو دينية متطرفة وتوظف العنف التعسفي لتحقيق أغراضها. ويؤمن نشر ثقافة حقوق الإنسان والدعوة لها وتعليم الناس على كل المستويات- وخاصة الأجيال الشابة- مبادئ ومواثيق حقوق الإنسان نشأة الفرد والجماعة ابتداء على قيم تعزز احترام الحقوق والكرامة الإنسانية، وتقوم المنظمات غير الحكومية على الصعيد الوطني بالدور الأساسي في هذا كله، وذلك بسبب اقترابها من الحقل المباشر الذي قد تتم فيه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وقد برهنت هذه المنظمات على الأهمية الجوهرية لدورها في الحماية والتعزيز بما جعل الأمم المتحدة تعترف بها كشريك رئيسي في كل نظام الحماية ونظام الدعوة والترويج والتعليم. غير أن المنظمات العالمية أو الدولية غير الحكومية المشتغلة من حقل الدفاع عن حقوق الإنسان صارت تقوم بدور لا يقل أهميةن وخاصة بالنسبة لفئة البلاد المسماة بـ"الحالات الوسيطة" : أي تلك البلاد التي لديها بنية قانون مدني وعام يحترم كثيراً من حقوق الإنسان، ولكن السلطات الحكومية فيها تواصل انتهاك هذه الحقوق دون أن يصل الأمر إلى حد الوباء أو الخطر، بينما هناك فئة من الدول يشيع فيها انتهاك حقوق الإنسان كعادة روتينية، ويصل فيها حجم هذا الانتهاك إلى حد الجرائم واسعة النطاق التي تفترس مئات الآلاف من الناس، ولا يكاد يكون ثمة قانون أو جهاز قضائي يستحق هذا الاسم لصيانة الحد الأدنى من الحقوق والحريات حتى تلك ذات الطابع المدني الصرف، ففي مثل تلك الدول يصعب فرض احترام حقوق الإنسان بالوسائل وقنوات الحماية التقليدية، كما لا يكاد يكون هناك أدنى فرصة لنمو نشاطات الدعوة والتعليم والدفاع بسبب القمع الشامل. الاجتهاد والإبداع ومعنى ذلك أن تطبيق حقوق الإنسان ليس عملية متجانسة بين جميع الدول أو في جميع الحالات، فالوضع القانوني وخصائص النظام السياسي وسياساته ومستويات البطش الفعلية، ودوافع الوضع الثقافي وخصوصية السياق التاريخي تختلف جميعاً من بلد لآخر، وبالطبع من منطقة لأخرى. وتحتم هذه الاختلافات صياغة استراتيجيات نوعية مختلفة لكل حالة على حدة، وذلك في ظل المبادئ العامة للتضامن الدولي من أجل تعزيز احترام حقوق الإنسان وتصفية انتهاكات هذه الحقوق، وقد تتباين الأولويات بين بلد وآخر وتتمايز تشكيلة الآليات المستخدمة في الدعوة والدفاع تبعاً لمعطيات هذا البلد، ففي بعض البلاد يمكن تطبيق استراتيجية للتعاون بين الحكومة والمنظمات غير الحكومية في إطار الآلية المعروفة باسم مؤسسات حقوق الإنسان على المستوى المحلي، بينما تفشل هذه الاستراتيجية في حالات أخرى. وفي بلاد معينة، يمكن للنظام القضائي أن يقوم بالدور الأكبر من الحماية، بينما يفشل هذا النظام في القيام بأي دور، وخاصة في البلاد التي تعصف باستقلال القضاة والمحاكم، وكذلك، قد يقوم التعليم الرسمي بدور مهم، بينما يرتهن تقدم الدعوة لحقوق الإنسان وتنشئة الأجيال الشابة على مبادئهاعلى تعبئة الموارد والجهود من خلال التعليم غير الرسمي، وتلعب المؤسسات الدينية في بعض البلاد دوراً تحريراً، بينما تقوم في بلاد أخرى بدور أقرب إلى القمع، وقد تصبح المؤسسات النقابية الحصن الأخير للحريات العامة في مجتمع ما، بينما تحرم بلاد أخرى من مؤسسات نقابية مستقلة قادرة على القيام بهذا الدور. ويناط الأمر بجماعة المثقفين المؤمنين بالمثل الإنسانية العليا والرفيعة، حيث يكون من واجبهم ليس فقط الدعوة لحقوق الإنسان وتوفير سبل حمايتها تبعاً للظروف، وإنما صياغة الأولويات والاستراتيجيات التي تيسر النضال من أجل تحسين الوضع الحقوقي في بلادهم، ولكن المثقفين الحقوقيين لا يمكنهم وحدهم، وخاصة إذا كانوا يعانون من البطش أو العزلة ، التوفر على النضال من أجل تحسين هذا الوضع، ففي كل الأحوال، يتوقف هذا الهدف على شعور مجتمع ما بالمسئولية الجماعية نحو العمل المتناسق للحصول على الحقوق التي أقرها المجتمع الدولي كله والتمتع بها في بلاده.
|
|