إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي

النيل ذلك النبيل
«يا عوف الله... يا عوف الله»

كان المصريون يصيحون فرحا بهذه الكلمات كلما وفَّى النيل بميعاده وجاء وقت الفيضان، وكانت مصر كعادتها منقسمة على نفسها، ففي الشمال فرح وانتشاء بقدوم المياه الجديدة بما تحمل من طمي وخصب، وفي الجنوب حزن وغم لأن النهر العاتي قد جرف في سبيله كل ما على ضفافه من بيوت وناس، وما بين الفرح والحزن يعلن النهر عن ولادته الجديدة من هذا الصياح، الذي لا يعلم أحد على وجه الدقة ماذا يعني، ربما كان تحريفا لاسم آلهة الماء كما يقول حسين فوزي في كتابه سندباد مصري، أو تعبيرا عن العافية التي تشعر بها الأرض في أعقاب كل فيضان، فالنيل نهر من أغرب أنهار الدنيا؛ في الصيف عندما تجف كل الأنهار يخالف النيل الناموس وتفيض مياهه على الضفاف، وتهب عليه رياح متجهة للجنوب ولكن أمواجه تعاكسها وتنساب نحو الشمال، ينحدر من تلال إفريقيا البعيدة، مهيبا كملك، لا يأبه بالغابات الكثيفة، ولا بحرقة الصحراء الممتدة، يخترق جلاميد الصخور البالغة الصلادة، ويواجه ستة من الشلالات العنيدة، يملأ الغابات الصامتة بالصخب والهدير، يفور بالزبد، وينثر الرذاذ ويخلق أقواس قزح لاتتبدد، يجتاز أشجار السنط والأبنوس والصفصاف والجميز، ويمضي متفردا مثل شاعر حزين وسط فلوات الصحراء، لا توقفه الهضاب ولا كثبان الرمال ولا جبال من حجر صوان، يهبط بعنف من شلال عنق الجمل، وتفور مياهه عند شلال المرجان، ويتمهل ليلتقط أنفاسه قبل أن يقتحم شلالات بيت العبد والمعفور والحارك، وطوال هذه الرحلة الجافة لا يتلقى أي مدد إلا القليل من مياه نهر «عطبرة» السوداء، لا تجود عليه السماء بقطرات من المطر، ولا تذوب الثلوج من أجل إنعاشه، لا تحيط به إلا جلاميد حجرية داكنة، تشاركه أسرار الأبدية، ويحرص النهر بدوره على ألاّ يمحو ما عليها من نقوش وجعارين وخراطيش، يندفع وهو متقلب المزاج، حاملا طمي الخلق الأول، فيه شيء من رعونة النيل الأزرق، وبعض من حكمة النيل الأبيض، يعلو ويغيض ويتبدد أحيانا ليضيع في مسارب المستنقعات، ثم يجمع شريانه الرئيسي المتوحد، لا يهدأ ولا يأخذ سمة الوقار والعبوس إلا عندما يلمح رءوس النخيل في جنوب وادي مصر، أقدم نخيل عرفه بشر، نخيل يقف مزهوا على ضفاف النهر منذ آماد بعيدة، غرسه الفراعنة وشذبه الأقباط وأكل من بلحه جنود الرومان وعرف الفاتحون العرب أسرار فسائله فنشروها، تغيض مياه النهر كثيرا وتفقد قوتها، ولكن السواقي تلاحقه، والثيران المغطاة الأعين لا تكف عن الدوران، وخلف كل ثور يجلس طفل صغير يمسك عصا مربوطا فيها حبل، أشبه بمفتاح الحياة، وهو يصيح: «عا..عا» فترتفع القواديس إلى أعلى حاملة دفقات سحرية من مياه النهر، ثم تلقي بها إلى القنوات التي تتفرع وتتفرع على وجه الأرض كشرايين الجسد، في وقت الفيضان تكون حمراء كالدم، والأرض سوداء كالمسك، والزرع أخضر كالياقوت، والقمح أصفر كأحجار اليشمك، تحتشد الغيطان المروية بالفول والذرة والشعير والعدس والقرع والبطيخ والفلفل والطماطم والباذنجان واللوبياء، ويصعد النخل كأذرع الآلهة القديمة، جذوره في رطوبة الطمي، بينما رأسه في وهج السماء، يواصل النهر مسيره وسط صمت الوادي حتى ترتفع التراتيل، وتظهر أعمدة المعابد والمسلات وأبراج الكنائس والمآذن، وتنفرط عقود الحمائم كي تملأ عيونها من مشهد المياه الزمردية قبل أن تؤوب إلى أعشاشها في كل مساء، ياعوف الله.. ياعوف الله.

 

 

محمد المنسي قنديل