خصخصة التعليم الجامعي تعليم أم استثمار؟

خصخصة التعليم الجامعي تعليم أم استثمار؟

يحظى التعليم الجامعي باهتمام متزايد في معظم المجتمعات المتقدمة والنامية على حد سواء، باعتباره الرصيد الإستراتيجي الذي يغذي المجتمع بالكوادر البشرية التي يحتاج إليها للنهوض بأعباء التنمية، في مجالات الحياة المختلفة.

يواجه التعليم الجامعي - بحكم رسالته، وبحكم مكانته المرموقة في مسيرة المجتمعات - مشكلات ومطالب متعددة ومختلفة في العديد من الدول العربية، لعل أبرزها ظاهرة الأعداد الكبيرة الراغبة في التعليم الجامعي، وضعف مساحة التعليم الجامعي الحكومي، وقلة الإنفاق عليه من الموازنة المخصصة للتعليم ككل، إضافة إلى زيادة ضغوط القطاع الخاص للاستثمار في التعليم الجامعي.. وأمام هذه المشكلات والمطالب التي تواجه التعليم الجامعي اتجه بعض الدول العربية ومنها البحرين أخيراً إلى إنشاء جامعات خاصة، تدار وتمول عن طريق القطاع الخاص، وذلك ضمن إرهاصات الانفتاح الاقتصادي.

خصخصة التعليم الجامعي بمفهوم اقتصادات السوق، أي جعله خاصا يتولاه القطاع الخاص ضمن مشاريعه الاستثمارية، ظاهرة جديدة في الوطن العربي، لا يزيد عمرها على عقدين، فرضتها عوامل ومتغيرات دولية ومحلية عديدة. بينها الإصلاحات السياسية في معظم الدول العربية، إذ أخذت الحكومات توسع من أنشطة السوق، مما شجع رجال الأعمال وأصحاب المال على افتتاح جامعات خاصة، أخذت تتزايد وتنتشر في الوطن العربي بشكل لافت للنظر، وكلها تقريبا افتتحت كليات وأقساما تكاد تكون متماثلة، بل افتتحت في هذا العمر القصير برامج للدراسات العليا في العديد من التخصصات العامة، بما فيها الدقيقة. ووجدت الحكومة في ظهور الجامعات الخاصة سندا جديدا لدعم ونشر التعليم الجامعي، وعونا يساعدها في التنظيم والبناء والتغيير التربويين والاجتماعيين.

الإشكالية والتساؤل

الواقع أن خصخصة التعليم الجامعي أصبحت نهجا جديدا يسلكه العديد من الدول العربية كمسار جديد للتطوير التربوي والاجتماعي والاقتصادي، أو كتقليد لتجارب بعض الدول المتقدمة، من دون رؤية واضحة للجامعات الخاصة، ومن دون اعتبار الدول العربية أنها تفتقر إلى آليات توظيف الأمثل اقتصاديا واجتماعيا، لأن الجامعات الخاصة نشأت كنتيجة للتطور التاريخي للمجتمعات الرأسمالية في بعض الدول المتقدمة. ووفقا لمنطق التطور الطبيعي للمجتمعات يكون من الصعب، إن لم يكن من المحال، تكرار التجارب البشرية من دون توافر الشروط المجتمعية، لنقل التجارب والمستحدثات الجيدة من مجتمعات أخرى، وجعلها أكثر نفعا لهذه المجتمعات، لأن أي تجربة بشرية ناجحة في مجتمع ما ليس بالضرورة أن تنجح في مجتمع آخر، إذا لم يصبها التغير، لإعادة تكيفها مع ظروف المجتمع المنقولة إليه.

تلك هي الإشكالية الحقيقية التي تثيرها الجامعات الخاصة، في بعض الدول العربية دون البعض الآخر، وكأنها البلسم الشافي لحل مشكلات التعليم الجامعي، والقادرة على تجاوز مطالب التعليم الجامعي الحكومي، ومعالجة عيوبه.. وإذا بالجامعات الخاصة كما يرى بعض المتخصصين تكرر المشكلات نفسها التي أوجدتها الجامعات الحكومية، في العديد من الدول العربية.

الفلسفة والوظائف

في الواقع أن تحديد فلسفة التعليم الجامعي الخاص ووظائفه غاية في الأهمية، فمازالت هناك أمور جوهرية لم يتم التعامل معها بالجدية الواجبة في أغلب الدول العربية التي فتحت مجال الاستثمار في التعليم، ومن هذه الأمور تحديد ماهية التعليم الجامعي الخاص والفلسفة التي يتبناها في التعليم من حيث البرامج والخطط والغاية التي يقوم أو ينشأ من أجلها، كما أن وظائف التعليم الجامعي الخاص يجب أن تكون على خط مواز لوظائف التعليم الجامعي الحكومي، ولكن هذا لا يعني أن هذه الوظائف يجب أن تكون متطابقة تماما مع ما تقوم به مؤسسات التعليم الجامعي الحكومي، بل يجب أن تكون مساعدة ومكملة وتصب في مواقع أكثر تخصصاً، كما يجب أن تكون أسرع استجابة لمتطلبات الواقع، نظرا لما يفترض أن تتمتع به من حرية في القرار والتخطيط وأكثر مباشرة للتنفيذ.

المؤيدون والمعارضون

انقسمت الآراء بين مؤيد ومعارض لخصخصة التعليم الجامعي منذ ظهور الجامعات الخاصة في دول العالم، واحتدم الجدل حولها، كلما اتسع نموها وانتشارها في العديد من الدول المتقدمة والنامية. وراح كل فريق يسوق الحجج والبراهين الدالة على وجهة نظره، لتتسع دائرة المؤيدين والمعارضين، باتساع نمو الجامعات الخاصة. وفيما يلي بعض آراء الفريقين:

- يرى أنصار تخصيص التعليم الجامعي أن الجامعات الخاصة تقدم تعليما ذا نوعية متميزة أفضل من الجامعات الحكومية، على أساس أنها تلبي ميول الطلبة في التخصصات التي يرغبونها، ثم إن قلة الطلبة بها، مقابل توافر الإمكانات المادية والبشرية.. إلى غير ذلك من أمور ستؤدي إلى رفع مستوى التعليم وتجعله يتميز عن الجامعات الحكومية.

ويرد المعارضون بأن الجامعات الخاصة ليست متفوقة في نوعية التعليم الجامعي، وذلك بالنظر إلى انخفاض نوعية المناهج، والمقررات وتدني التنفيذ، والمحاباة في التقويم، وكذا بالنظر إلى بعض انخفاض معايير الكفاية والفعالية، إذ تبين الممارسة العملية في العديد من الدول أن عدد الطلبة لعضو هيئة التدريس، يزيد على نظيره في الجامعات الحكومية، كما هو حادث في الفلبين وإندونيسيا، في حين تلجأ جامعات خاصة في بعض الدول إلى أستاذة متقاعدين أو حديثي التخرج، وهؤلاء تنقصهم الخبرة العلمية. ثم إن عدم التزام بعض الجامعات الخاصة بقواعد علمية في قبول الطلبة، وفي إجراء امتحانات القبول والتقويم، يجعلها غير قادرة على الاحتفاظ بمعايير الكفاية الداخلية والخارجية.

- من جهة أخرى، يرى أنصار الجامعات الخاصة أن خريجيها لهم حظوظ أفضل في سوق العمل لمزاولة العديد من المهن المميزة، وتقاضي الأجور المرتفعة، مما يقلل من بطالة الخريجين. ويعني من جهة أخرى أن ارتفاع الكفاية الخارجية للجامعات الخاصة المواكب لسوق العمل، يفوق الجامعات الحكومية، وما يعنيه ذلك من ارتفاع معدل العائد الفردي للتعليم الجامعي الخاص.

- ويرد المعارضون أن الدلائل والبيانات الواقعية تشير إلى أن معدلات البطالة في صفوف خريجي الجامعات الخاصة يفوق (2.8) مرة الجامعات الحكومية كما هو حادث في الفلبين. وهذا يجعل الجامعات الخاصة تسهم مع غيرها من الجامعات الحكومية في رفع معدل بطالة الخريجين. وهذا معناه انخفاض الكفاية الخارجية للجامعات الخاصة عن الجامعات الحكومية حتى في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان.

- وفي سياق متصل، يذهب مؤيدو الجامعات الخاصة إلى أنها تستجيب بصورة أسرع لمتطلبات سوق العمل سواء القطاع الخاص أو القطاع العام، فتلبي الاحتياجات الاقتصادية والعلمية للفرد والمجتمع على السواء.

- غير أن المعارضين يرون أن الجامعات الخاصة تستجيب أسرع لطلب سوق العمل، وتلبي مطالبه في الأجل القصير على حساب الأجل الطويل، ومن أجل زيادة أنشطة السوق التي تسعى إلى الثراء السريع للقلة على حساب أنشطة أخرى تهم المجتمع ككل.

- وفيما يتعلق بالإنفاق على التعليم، يدّعي أنصار خصخصة التعليم الجامعي أن الجامعات الخاصة تتحمل الإنفاق على التعليم الجامعي، فتخفض بهذا العبء المالي الملقى على الدولة، في وقت تعاني الدول عجزا كبيرا في مواردها المالية وشح مواردها الطبيعية، مما يجعلها غير قادرة على تخصيص اعتمادات إضافية، فجاءت الجامعات الخاصة في الوقت المناسب لتحل محل الدولة في تحمل الإنفاق على هذا التعليم.

- ويرد المعارضون بأن الجامعات الخاصة تخفف من التعليم ولكن ذلك يتم مقابل ثمن باهظ، يتمثل في تخلي الدولة عن سيادتها على التعليم الجامعي وتركه لأنشطة السوق، كي تحوله إلى عملية تجارية، وتسعى من خلاله إلى الربح السريع. ولتفادي هذه الآثار أو الحد منها ، عمد بعض الدول إلى تمويل الجامعات الخاصة بصور مختلفة كما هو حاصل في اليابان والهند. وفي الوقت الذي لا توجد فيه الجامعات الخاصة في أغلب الدول الأوربية إلا باستثناءات محدودة جدا، نجد أنه في الولايات المتحدة الأمريكية انتفى الطابع الخاص للعديد من الجامعات مثل كولومبيا وييل، لأن الحكومة تتحمل أغلب نفقاتها. وإذا كانت الجامعات الخاصة تخفف العبء المالي الملقى على الدولة، فإنها مقابل ذلك تحقق أرباحا تختلف من بلد إلى آخر.

ويرى أنصار الخصخصة أن الجامعات الخاصة توفر تعليما ذا مستوى رفيع بفضل ما يتوافر لها من دخل عال تحصّله من رسوم الدراسة، التي يدفعها الدارسون، وكذا من مساهمة الحكومة، ورجال الأعمال، لكن أصحاب هذا الرأي يرون أن الهدف هنا ليس الربح، وإنما بدافع الاعتبارات الإنسانية، وهذه الجامعات تتيح الفرصة للقادرين على تحمل تعليم أنفسهم، وإشراك أصحاب المصلحة في المساهمة في الإنفاق على التعليم الجامعي الخاص، مما يسمح للدولة بأن توجه مواردها للإنفاق على التعليم الجامعي الحكومي، حتى يتمكن الأفراد من الحصول على فرصتهم التعليمية.

- لكن المعارضين لهذا الرأي يقولون إن خبرات الواقع تبين أن الجامعات الخاصة تسترد كامل نفقاتها وتحقق أرباحاً سريعة، على اعتبار أنها لم تنشأ إلا لتحقيق تلك الأرباح، وإلا ما استمرت تمارس مهامها وتتوسع في أنشطتها. خاصة أن الرسوم التي يدفعها الطلبة تعد مرتفعة، إذ تصل في الهند واليابان إلى أكثر من عشرين مرة عن الجامعات الحكومية.

- أخيراً، يؤكد أنصار الجامعات الخاصة أنها تتمتع بالحرية الأكاديمية والاستقلال المالي والإداري، مما يمكنها من إقامة تنظيم أكاديمي وإداري وفني مرن، يتصف بسهولة العمليات والإجراءات، والقيام بوظائف الجامعة وأنشطتها المختلفة، بعيداً عن التعقيدات والروتين الإداري الذي تعانيه الجامعات الحكومية، فضلا عما يسود الجامعات الخاصة من مناخ علمي وثقافي، يساعد على التحصيل الدراسي وتنمية قدرات الطلبة وصقل هواياتهم المختلفة.

- ويرد على هذه الدعوة بأن أغلب الجامعات في الدول المتقدمة والعديد من الدول العربية والنامية الحكومية تتمتع بالحرية والإرادة إلى حد كبير، وتتصف بتنظيم مرن وسهل وفي جميع مراحل التعليم الجامعي إلى حد كبير.

الخلاصة

في ضوء ما سبق، يتبين من استقراء واقع الجامعات الخاصة أنها تتصف بجملة من المميزات، وأن تجارب الدول في خصخصة التعليم الجامعي نابعة من الحاجة الحقيقية إلى مكمل لدور التعليم الجامعي الحكومي، ولكنها في المقام نفسه لا تخلو من الثغرات والعيوب التي تحد من قيمتها وتعدد رسالة التعليم الجامعي وتفقد معناه ومغزاه. ويبدو أن العديد من الدول تحجم عن فتح الباب أمام الجامعات الخاصة تجنبا للمشكلات والآثار الناجمة عنها، أما الدول التي سمحت بإنشاء الجامعات الخاصة، فلم يتضح فيها بشكل جلي أن حققت تلك الجامعات حلاً لمشكلات التعليم الجامعي، وإن كانت قد وجدت فيها بعض العون للتغلب على بعض المشكلات، متقبلة على مضض بعض آثارها السلبية.

وإذا كانت الدول المتقدمة تملك تشريعات سياسية واقتصادية واجتماعية تمكنها من التغلب على مخاطر التعليم الجامعي الخاص، فضلاً عن اتباعها تشريعات صارمة منظمة لقيام الجامعات الخاصة، وأدائها وظائفها، فإن آثار الجامعات الخاصة في الدول النامية ومنها العربية تبلغ ذروتها، كونها تملك قواعد اقتصادية واجتماعية ضعيفة بجانب ضعف - وأحيانا انعدام - التشريعات المنظمة لإنشاء الجامعات الخاصة، مما يجعل هذه المخاطر أكثر وطأة على هذه الدول.

غير أنه ومادامت الجامعات الخاصة في الدول العربية صارت توجها عاما ضمن توسع اقتصادات السوق ولا يمكن إلغاؤها، فقد بات ضرورياً مراقبتها ودعم مسيرتها لتواكب احتياجات المجتمع. نحن نريد لوجود جامعات خاصة لها مبان (لا أن تكون في بنايات صغيرة ومتواضعة في وسط المدن) ولها أعضاء هيئة تدريس، ولها مقررات وبرامج دراسة، ولها هياكل تنظيمية وإدارية قادرة على القيام بالعملية التعليمية بالصورة المرجوة، وألا يكون الربح فقط هو هدفها الأول والأخير. إن أمريكا بها أعرق الجامعات الخاصة، ولكن هل الصورة المقدمة إلينا في وطننا العربي ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بجامعات الغرب؟ أعتقد أنه لا علاقة ألبتة بين ما يتم في مجتمعاتنا العربية وما هو قائم في الغرب. إن الصورة المقدمة صورة غير مناسبة لشكل وبنية الجامعات الخاصة.

 

 

فيصل الملاعبدالله