تجذّر الوعي الديني

تجذّر الوعي الديني

نشأت محاطاً بعبق من معتقدات الدين الشعبي في مدينة المحلة الكبرى، تلك المدينة التي وعيت على أهلي، وهم يحدّثونني عنها بوصفها مدينة محمية ببركة أولياء الله الصالحين الذين يصونونها من كل شر.

كنت أصدق ذلك وأقتنع به، ولم لا؟ وأينما توجهت في طرقات المدينة، لم أكن أجد أكثر من المساجد أمامي وورائي، فضلاً عن الزوايا الصغيرة التي كانت سرعان ما تتحول إلى مسجد، عندما يتبرع لها أحد الأغنياء، ويكمل سكان الشارع التبرع مالياً وعينياً. وكان هناك من يتبرّع بالمال، ومَن يتبرّع بالعمل اليدوي في البناء، ومَن يقدم بعض المواد اللازمة للبناء، بالطبع، كان لبعض المساجد مكانة بالقياس إلى غيره، إما لقدمه الذي أدخله، بعد ذلك، تحت حماية مصلحة الآثار، أو لأن خطيب الجمعة فيها كان مفوها بليغاً، يجذب إليه الناس الذين يفضلون الاستماع إلى خطبته ليوم الجمعة عن الاستماع إلى خطباء المساجد الأقرب إلى منازلهم أو محال عملهم. وكان بعضهم يجذب الانتباه بالدرس الديني الذي يقدمه بعد صلاة العشاء، في بعض أيام الأسبوع، ويشد انتباه أنصاف المتعلمين بعلمه. وكان مسجد سيدي عطاء الله هو الأقرب إلى منزلنا الجديد، وإلى محل أبي، ولا أعرف هل هو سيدي عطاء الله السكندري الصوفي المعروف الذي عاش في القرن السابع، وحقق الدكتور أبو الوفا التفتازاني بعض كتاباته ورسائله، وكان أقرب إلى التصوّف السني، وأبعد ما يكون عن التصوف الاستشراقي؟ أم هو أحد المتصوفة الآخرين، أو الزهاد، ولا علاقة بينه والصوفي السكندري سوى الاسم. الطريف أني بعد أن اكتمل تكويني الثقافي، وعرفت الصوفية وتياراتها، وأشرفت على أطروحة دكتوراه أو أكثر في الأدب الصوفي، لم يرد هذا السؤال على خاطري، فأسعى إلى تحقيقه، وأحسبني لم أنتبه إلى ضرورة البحث في دلالات هذا التشابه إلا الآن، وأنا أكتب هذه الذكريات.

الدال حقاً أن الوسط العائلي والاجتماعي الذي نشأت فيه كان، بالرغم من عمق المعتقدات الدينية الشعبية في وعيه الجمعي، لم يكن متطرفاً في إيمانه بهذه المعتقدات، ولا متعصباً دينياً، ولذلك ما كنا نشعر بأي فارق بين المسلمين والأقباط، وكانت أمي تصحبني إلى مولد السيد البدوي، مع أختي الشقيقة، في طنطا، وأذكر أننا ذهبنا وأبي مرة واحدة إلى مولد سيدي إبراهيم الدسوقي في دسوق، وقد قضينا ليلة في أحد فنادق المدينة المتواضعة، وحضرنا الليلة الكبيرة، وقمنا بزيارة ضريح سيدي إبراهيم الدسوقي. وقبلنا السور الذي يفصل قبره عن الجمهور، ولاأزال أذكر الرائحة العطرة المنسربة في هواء المقام، وهي نفسها التي ملأتني بإحساس آمن مريح بالسكينة حول ضريح السيد البدوي. وفي الوقت نفسه، كانت أمي تصحبني كثيراً، وأختي، إلى مولد سيدي أبو جرج، الذي يقع في قرية قريبة من المحلة، نسيت اسمها، كنا نقضي فيها يوماً كاملاً، وكانت كنيسة هذه القرية مليئة بصور القديس مار جرجس، وهو يصارع التنين. وقد تسمّرت أمام اللوحة عندما طالعتها للمرة الأولى، فقد كان القديس على صهوة حصانه، مستقيم البدن، مهيب الطلعة، وجهه مليء بالعزم والإصرار الذي ينتقل من عينيه إلى يديه القابضة على ساق الرمح الذي غرسه في قلب التنين الذي بدا مذعوراً. وبالرغم من أني لم أكن أعرف أي شيء عن المسيحية وتاريخها، فما رأيت في الصورة سوى رمز ديني، شعرت به، حدساً، وفهمت منه أن قوة الإيمان ترفع مقام صاحبها، وتنصره على الشر، وتجعله، دائماً رمزاً يستمد منه الناس القوة والبركة على السواء. الطريف أنني لاحظت أن أمي، وهي تمسك بي بإحدى يديها، وأختي باليد الأخرى، كانت تقرأ الفاتحة، وتتلو الدعوات نفسها التي ظلت تدعوها في مساجد الأولياء الآخرين، الذين كنا نذهب إليهم للبركة والعون على مواجهة نوازل الدهر. وكنت متلهفاً - بعد أن استوعبت مشهد القديس مارجرجس، أو سيدي أبو جرج، كما كانت تسمية أمي - أن نخرج من زحام الكنيسة، فلم يكن هناك مقام، وأتمتع بأطايب المولد، وعلى رأسها أنواع الحلوى المختلفة: البالوظة، العسلية، البسبوسة، وغيرها من الأنواع التي كنا نجدها هي نفسها في مولد سيدي إبراهيم الدسوقي والسيد البدوي.

وكان منزلنا الأول غير بعيد عن جيران أقباط، كانت أمي لا تثق بأحد، تتركني في رعايته سوى الخالة أمونة التي أطقلت أمي اسمها على إحدى بناتها من أخواتي غير الشقيقات اللائي رعاهن أبي وإخوتهم كما رعى إخوتي. وكان دكان أبي يواجه عمارة لراعي إحدى الكنائس، وكنا نسمّيه «أبونا ميخائيل»، طيبته لا حد لها. يرانا امتداداً لأهله، وهو الذي أخذ أوراقي من أبي، عندما أكملت الدراسة الابتدائية، وقدّم لي في مدرسة الأقباط الخيرية التي كانت مدرسة مجانية، لا تمييز فيها بين المسلمين والأقباط، وهو الذي كان يلجأ إليه لحل بعض المشكلات التي كانت تمر به في تجارته، وكان الرجل على استعداد للمساعدة والعون دائما. وكان له ابن من سني، ما أكثر ما لعبت معه في الساحة المفضية إلى بيتهم الكبير، ولم يكن «أبونا ميخائيل» وهو محاط بأكثرية - يجد منهم إلا كل تقدير، بل كانت العلاقة بينه والشيخ عبدالسلام في أفضل أحوالها، دائماً، كلاهما كان يبادل الآخر الاحترام والمودة والتهنئة في الأعياد، وهذه هي طبيعة المصريين التي نشأنا عليها، والتي جعلتنا نتخذ من بعض أعياد الأقباط أعياداً لنا، كما فعلنا مع الأعياد الفرعونية.

وبالرغم من أنه كانت هناك شعبة للإخوان المسلمين في المحلة الكبرى، وكنا نلمح بعض ذوي اللحى ممن كنا نطلق عليهم اسم «سني» - أي شخص ذي لحية - دون إشارة إلى مذهب بعينه، فلم نعرف في المحلة أي نوع من الطائفية أو أي شكل من التمييز الديني، فمن الواضح أن شعارات ثورة 1919 مثل «الدين لله والوطن للجميع» و«الوطن ديننا» كانت لاتزال قائمة مؤثرة. وهو أمر يؤكد لي، عند تأمله بعد هذه السنوات، أن حساسيات التمييز الديني أو الطائفي وافدة على مصر، ابتداء من الزمن الساداتي، وأنه حتى الإخوان المسلمين والمتعاطفين معهم، ممن كنا نطلق على الواحد منهم «سني» لم يكونوا يعرفون هذا المرض الذي استشرى أخيراً، والذي يبرؤ الإسلام السمح منه.

ويبدو أن وفاة شقيقي التوأم، قبل مرور شهر على ولادته، كانت تسبب لأمي وأبي الخوف على حياتي، خصوصاً أني ولدت بعد سبعة أشهر من الحمل، ولذلك كانت أمي، مثل أبي، يلجآن إلى أولياء الله الصالحين كي يحمياني من مخاطر المرض، ويبعدا عني شبح الموت. ولم أكن أعي شيئاً من ذلك كله في طفولتي الباكرة، ولكني لاأزال أذكر البهجة التي كانت تصحب زياراتي مع أمي للأولياء المسلمين والأقباط المحليين، فلم يكن في ذهنها، ولا في محيطها، أي نوع من التمييز، وأزور مع أبي كل صيف أولياء الإسكندرية، بادئين بسيدي جابر بالطبع، وننتهي بسيدي أبي العباس المرسي، ونصلي في مسجده حسب أوقات الصلاة، وذلك بعد أن نعرج على مسجد ومقام سيدي الأباصيري، وهو النطق الذي اعتدت عليه، وأهل بحري، وفيما بعد عرفت أنه الإمام البوصيري (نسبة إلى مدينة أبو صير في جنوب مصر) الذي كتب قصيدة «البردة» الشهيرة، التي نظم أحمد شوقي على نهجها قصيدة «نهج البردة» التي لانزال نسمعها بصوت أم كلثوم، ومَن يدخل صحن جامع البوصيري سيجد أن عدداً لابأس به من أبيات «البردة» منقوش على جدران المسجد، قرب الأسقف، وذلك لتحيط بركاتها بالمصلين، أثناء صلاتهم، وقد طلب مني أبي، بعد أن تعلمت القراءة والكتابة، أن أقرأ له هذه الأبيات التي لفتت انتباهي، ولعله لاحظ تحديقي فيها، وكنت خائباً في الامتحان إلى أبعد حد، فقد كانت الأبيات مكتوبة بطريقة جمالية، ولذلك كانت تحتاج إلى تركيز في القراءة، لكنها أصبحت، منذ ذلك الوقت، بمنزلة تحد لي، فكنت أعاود قراءتها كلما زرت المسجد، وسنة بعد أخرى كانت المعرفة تتحسن، إلى أن عرفت ديوان البوصيري، وقرأت «البردة» التي هي درة الديوان، فاستطعت أن أقرأ الأبيات على جدران المسجد بسهولة، وظللت، بعد ذلك، كلما صحبت صديقاً إلى مسجد البوصيري، أقرأ وإياه أبيات البردة، إلى أن أصبح الأمر عادة.

وقد سبق أن حكيت عن نذر أبي لسيدي جابر الذي رزقه بابنه جابر، وحفظه له ببركته. وهو أمر جعلني أرث عن أبويّ حب أولياء الله الصالحين الذي تطور، عندي، إلى حب القصص الديني. ولاأزال أذكر الخشوع الذي قرأت به سير الأنبياء للثعالبي أو الذهبي لا أذكر. ووجدت في مكتبة سيدي عطاء الله بالمحلة كتاب مناقب الصالحين، وكنت أطالع فيه كلما انفردت بنفسي في هذا المسجد الذي تعودت الذهاب إليه، والتتلمذ على إمامه الشيخ عبدالسلام الذي كان يفرغ لي، أحياناً، فيحتمل إلحاحي عليه بالأسئلة التي كان يجيب عنها في سماحة وصبر وحنو أبي، فظل أقرب الناس لي، طوال سنوات إقامتي بالإسكندرية. وما أكثر ما كنت ألجأ إليه، إذا أرّقني أمر من الأمور، وكان - رحمه الله - يدرك ما أنا فيه، دون أن أتحدث إليه، خصوصاً حين كان يجدني منزوياً في المسجد، دمعي يتساقط، أحياناً، على خدي، فكان يقترب مني، ويجلس إلى جانبي، إلى أن أفرغ من الصلاة والدعاء، فأجلس ملتصقاً به، وأسلم نفسي إلى يده التي تحيط بكتفي في حنو، فأحكي عن كل شيء، ولاأزال أذكر أنه كان نصيري الوحيد في مرض أبي، فقد كان أبي يعاني مرض السكر، وهو مرض لا قيمة له إذا عاملته بحزم، أما إذا استهترت به، مثل أبي، فتأتي الكوارث، وكانت الكارثة تحوّل جرح في منطقة حساسة في جسد أبي إلى تقيّح، وتحوّل التقيّح إلى غرغرينا، فاضطر الأطباء إلى استئصال هذا الجزء وما حوله، وظل أبي بين الحياة والموت، وكنت في سنتي الجامعية الثالثة، فتركت الجامعة لأبقى إلى جوار أبي، وانقضى ما يقرب من شهرين إلى أن عافاه الله، وأعاده لنا، وما أكثر ما كنت أخرج المصحف الذي كنت أحتفظ به في مكتبتي، وأقرأ منه بصوت عال، كي تهدأ نفسي بالاستماع إلى كلمات الله الذي كنت أدعو له أن يحفظ أبي، وأحياناً، كنت أكتب ابتهالاتي الذاتية على بعض الأوراق، وبعد أن أفرغ، أثني الورقة وأودعها في المصحف الكريم. ومع الأسف ضاعت هذه النسخة من المصحف فيما ضاع من كتبي وكراستي التي كنت أحتفظ بها، في غرفتي، بمدينة المحلة الكبرى، لكن عادة الاحتفاظ بمصحف في كل مكان أحل فيه، ظلت باقية إلى الآن، فهناك مصحف في سيارتي، وأكثر من واحد في غرفة مكتبي، وآخر في غرفة النوم، ولولا انفرادي عن الآخرين، ووجودي في مكتبتي مع القرآن الكريم، عندما ماتت ابنتي الكبرى الدكتورة سهير جابر عصفور، وكانت ولاتزال قرة عيني ونور قلبي، لكنت أصبت بالجنون، وكانت كارثة لاتزال لها آثارها الغائرة في قلبي.

ولا أنسى من ذكريات مدينتي، في هذا السياق، الاحتفالات الدينية، فقد كانت المدينة كلها تخرج من بعد صلاة الفجر لكي لا تفوتها صلاة العيد، وكانت الفقرة التالية للصلاة هي زيارة القبور، وكانت وسيلة للبر بالفقراء، فقد كانت كل أسرة تحمل معها ما توزعه على الفقراء المحتاجين، كعك، وخبز مليء بالفول النابت، وقطعة لحم إذا تيسّر الحال، ونقود يوزعها البعض. أما العيد الكبير، فكان للفقراء نصيب في الذبائح حين يمرون على بيوت الميسورين لنيل قطعة من الذبيحة ملفوفة في ورق معدة للتوزيع. وكل أسرة حسب طاقتها. المهم ألا يمضي العيد الكبير إلا ويكون الجميع أكلوا «لحمة» العيد، ولا يمر العيد الصغير إلا ويكون الجميع حصلوا على كعك العيد، ولم نكن نعرف الكعك الجاهز في ذلك الوقت، بل الاحتفال الذي يجمع الأسرة لصناعة الكعك، إعداد الدقيق وإضافة السمن، والتفنن في النقش بأدوات بدائية، ورص الكعك على الصواني، ثم حمل الصواني إلى الفرن الذي تمتلئ ساحته بالعائلات التي تنتظر دورها، ولا عراك، فعبارة: كل سنة وأنتم طيبون، وأعاده الله عليكم بالخير، تمحو الغضب على الفور، ويعم الصفاء، وكان السهر مع بنات الأسرة في ساحة الفرن مجالاً للضحك والغناء.

أما الاحتفال الموازي للأعياد في الأهمية، فقد كان مولد النبي، فقد كانت البلد كلها تتفرج على موكب المولد، مشايخ الطرق الصوفية، وراء أصحاب الحرف الذين تفننوا في الاحتفال، فكانوا يقيمون صناعاتهم فوق عربة طويلة، يجرها حصان. وسرعان ما دخلت الكهرباء، علامة تحديث، فكان الكهربائية، أي باعة اللمبات ومحلات إضاءة السرادقات. قد أخذوا في صناعة عربية زجاجية الجوانب، يضيئها ضوء النيون الساطع، وشيئاً فشيئاً ظهرت أجهزة التسجيل ومكبرات الصوت، فكانت توضع شرائط الابتهالات الدينية، وتصل مكبرات الصوت بها إلى كل أنحاء المدينة، وكانت الأغنية الدينية التي أصبحت شهيرة جداً، هي أغنية محمد الكحلاوي «لاجل النبي.. لاجل النبي، تقبّل صلاتي على النبي.. لاجل النبي»، أما قبل شيوع الأغاني الدينية، فكانت الابتهالات التي تتحدث عن مطالب المسلمين، وتعبّر عن عمق الشعور الديني لكل أبناء المدينة، وكنا نمضي مع الموكب، ونذهب إلى منزل نقيب الأشراف، وكان يجلس في صدارة الساحة التي يحيط بها صيوان قماش بهية الألوان، يتلقى التهاني بقدوم الاحتفال بمولد النبي، وتوزع القرفة على الحضور، وكنت حريصاً على احتسائها، خصوصاً في أيام الشتاء الباردة، وكان المقرئون يتلون سور القرآن، ويتوقفون عند الآيات التي تتناول شخص النبي صلى الله عليه وسلم. وبعدهم، يأتي المنشدون الذين ينشدون الحضور عن مناقب الرسول، وليس بعيداً عنهم تتحلق مجموعات الذكر، كل مجموعة يقودها من يوجه الحركة والإنشاد كالمايسترو، وكنت أسمع، في بعض السنوات، من ينشد البردة، ولم يخل المشهد، قط من المتصوفة، بل كان النقباء أنفسهم مشايخ طرق صوفية، تتوارثها الأسرة، فهناك الشاذلية، والتفتازانية، وغيرها من طوائف النقباء الذين كان أفراد الطريق يجلّون نقباءهم إجلالاً دينياً. وكانوا من الأشراف الذين ينتسبون إلى العترة المحمدية، التي كانوا يتميزون بها على غيرهم من المسلمين.

وكنت أجلس في ساحة منزل نقيب الأشراف، بعد أن سمح بالسهر في هذه المناسبات كما أشاء، أرقب كل شيء في انبهار، تختلط مشاعري الدينية بالبهجة، وقد حاولت مرة أن أشارك في إحدى حلقات الذكر، لكن طال التطوح، وترداد لازمة: الله حيّ، إلى أن شعرت بالتعب فانسحبت، ولم أعاودها. واكتفيت بالتجوال والجلوس والانبهار بما حولي، وعدم الشعور بمضي الساعات إلى أن يؤذن المؤذن الفجر، فيؤم النقيب الحضور، ويؤدون صلاة الفجر، ويقبل الجميع يد النقيب بعد الصلاة، ويتسابق الأطفال مثلي على بركة تقبيل اليد، والسعيد منا من يربت النقيب عليه حانياً أو داعياً. ولا أذكر أني نلت هذا الشرف مرة، فلم أسهر إلى صلاة الفجر إلا مرة واحدة، وأحياناً كنت أكتفي بالفرجة لبعض الساعات إلى أن ينتابني الملل، فأعود للمنزل، ولا أعرف لماذا وجدت نفسي أتباعد عن ذلك، أغلب الظن أنني فقدت الاهتمام برؤية المتطوحين، وربما لكرهي للضجيج الذي بدأت ألاحظه على نفسي مع سنوات المدرسة الإعدادية، وانقطعت عن هذا الموكب كله بعد أن أنهيت المرحلة الثانوية، ودخلت الجامعة، لكني تعلمت، في القاهرة، المداومة على مولدين: مولد الحسين، ومولد السيدة زينب، لكن كانت الشعائر قد اختلفت، والأحوال تغيرت، غير أن الشعور الديني العميق الذي تثيره ذكرى المولد النبوي لايزال قائماً في نفسي إلى اليوم، لم تغيّره القراءات، ولا التقلب بين المذاهب المختلفة، وذلك على نحو يجعلني أشعر أحياناً، أني شخصان: عقلاني يموج رأسه بالأفكار والمذاهب التي درسها، ووجداني لايزال منتسباً إلى الجذور التي تربى عليها، والتي لاتزال متأصلة فيه. والحق أنني لم أفهم إمكان المصالحة بين هذين الشخصين إلا بعد أن ذهبت إلى اليابان، ووجدت أبناء هذه الأمة متدينين إلى حد بعيد، سواء كانوا ينتسبون إلى الديانة البوذية أو عبادة الأرواح: الشنتوية، وقد شاهدت في أكثر مصانع اليابان، تقدماً وتعقيداً، معابد صغيرة للعمال، يلجأون إليها في أوقات الراحة، وسط العمل، فأدركت إمكان التعايش بين أنواع العقيدة الدينية وأعقد أشكال العلم، لكل من الطرفين مجاله وحضوره.

ولم يكن يقترب من الاحتفال بمولد النبي سوى الاحتفال بعاشوراء، وهو احتفال يؤكد قدرة المصريين على تحويل المناسبة الدينية الحزينة إلى مناسبة مفرحة، ويبدو أننا ورثنا هذا الاحتفال عن الشيعة، أيام الدولة الفاطمية فيما يبدو، ولكن أسقط المصريون تعذيب الجسد بالضرب بالسلاسل أو الأدوات الحادة إلى الحلوى المعروفة باسم «عاشوراء». وتتكون من السكر والحليب والنشاء والقمح المقشور. وأذكر أن هذا الاحتفال كان يصحبه نوع من إشعال للنار في الأحياء الشعبية، وكنا نجتمع حولها صغاراً، ونقفز فوقها، إذا كان حجم النار يسمح بذلك، صارخين: «يا أم موكبة خدي البراغيت الي عليه»، ولا تفسير لهذا الفعل سوى أنه نوع من ممارسة بعض شعائر التطهر الرمزي. وكنا إذا فرغنا من هذا النوع من اللهو الخطر، نعود إلى منازلنا وننعم بأطباق العاشورة اللذيذة التي تشبه أطباق الأرز باللبن التي كانت تصاحب الاحتفال بالمولد النبوي، وعندما أسترجع، الآن، هذه العادات التي اختفت تدريجياً، حتى قبل أن أنهي المرحلة الثانوية، أجد فيها نوعاً من البهجة التي تجعل من الطقس الديني الشعبي نوعاً من الطقس البهيج، فالدين يسر لا عسر في النهاية، ولابد من إجمام النفس ببعض الباطل حتى تقوى على الحق. ولذلك كنت أميل دائماً، إلى رجال الدين الباسمين الذين يعاملون الناس بالحسنى، ولا يفصلون الدين عن الدنيا بحلوها ومرها.

هل كانت تربيتي وسط أسرة مليئة الوجدان بالمعتقدات الدينية هي السبب في بقاء بعض آثار هذه المعتقدات في تكويني؟ أعتقد أن الإجابة ستكون بالإيجاب، فأحياناً أضحك من نفسي عندما أجد ما اندفع إلى تسميته بالحسد، وأثر عين الحسود، وكانت أمي، إذا حاولت السخرية من إيمانها بالحسد، تجيبني في ثقة، إنه مذكور في القرآن يا أفندي يا متعلم. وكانت تفعل معي ذلك لو حاولت الاستهزاء بوجود العفاريت، وكنت أداعبها بقولي: ما عفريت إلا ابن آدم، وهي إجابة كان الرد عليها قذفي بأقرب شيء إلى يديها.

ولقد توفيت، رحمة الله عليها، وهي على يقين أن كل الشهادات التي حصلت عليها هي بدعاء والديّ ورضاهما عني، وقبل ذلك، بركة أولياء الله الصالحين، وكانت تذكّرني بالشيخ محمد الزغبي، مع كل شهادة، وكان محمد الزغبي، في الأصل، أحد المجاذيب، أو الدراويش الذين كنا نراهم هائمين على وجوههم في شوارع المحلة. ولم يكن هناك من يجرؤ على إلحاق الأذى بهم، وكان عقاب الطفل غير المهذب الذي يجرؤ على قذف أحدهم بالحجارة علقة لا ينساها. ولذلك كان هؤلاء المجاذيب الدراويش يتحركون أحراراً، يدخلون البيوت طالبين ماء، أو طعاماً أحياناً، وكل طلباتهم مجابة، فهم بركة. وكان أشهر هؤلاء، وأقربهم إلى ذهول المتصوفة الذين يعيشون في حال دائم من الشهود أو التجلي. هو الشيخ محمد الزغبي. وكان طويلاً نحيلاً شاحب الوجه، لا ينزل وجهه إلى الأرض، وحدث أن مرّ الشيخ محمد الزغبي (فقد تحوّل لقبه إلى شيخ بعد وفاته) في الطريق، أمام منزلنا القديم، وكنت صغير السن لم أدخل المدرسة بعد، وكنت ألعب وبعض الأقران أمام عيني أمي التي كانت جالسة مع بعض الجيران من صديقاتها. وكان الشيخ الزغبي ماراً في الطريق، مذهولاً كالعادة، لا ينظر إلى الأرض، لكنه توقف، فجأة، فلفت انتباه النسوة الجالسات بمن فيهن أمي، وانحنى على الأرض، ملتقطاً علبة دخان «معسل» ملقاة على الأرض. وأخذها بين يديه، وأخذ ينزع جوانبها في حركة بطيئة، فلا يبقي منها سوى الوجهين اللذين أمسك بهما في يديه، واتجه بعينيه إليّ، وجاء ناحيتي، فتسمّرت أقدامي من الذعر، ومدّ يديه بالورقتين إليّ، فأخذتهما منه كالمخدّر دون أن أنطق. ومضى عني بعد ذلك في طريقه، رافعاً رأسه الذي لا ينظر إلى الأرض. وكانت أمي ترقب المشهد واجفة القلب، فلما انصرف الرجل عني عاد لي الوعي، فجريت إليها صارخاً، واستقبلتني في حضنها، وهي تربت على ظهري لتوقف بكاء خوفي الذي انفجر، وقالت لي: يا عبيط، هذه هي الشهادات التي ستحصل عليها - بإذن الله -، يعطيك إياها الشيخ الزغبي علامة وبركة، وأمّنت على كلامها بعض صاحباتها، وظللن يضحكن فرحات، مستبشرات، إلى أن توقفت عن البكاء، وظلت تتلو الرُّقى، خوفاً من حسدهن فيما يبدو.

ومضت الحادثة، ونسيتها، لكن أمي لم تنسها، وعندما حصلت على الشهادة الإعدادية قالت لي: هذه هي الورقة الأولى، وجاءت الثانوية العامة، فكانت الورقة الثانية، ثم جاء الليسانس ولم تعجز أمي أو تسكت أو تنسى، وإنما قالت: الورقتان علامة على كل الشهادات القادمة إن شاء الله. وهكذا كانت الماجستير ثم الدكتوراه بعض بركات الشيخ الزغبي، ولم تنس أمي القصة، فقد حكتها لابنتي سهير رحمها الله، وبعدها ابني أحمد، وظلت مؤمنة بأنه كما حفظتني من الموت بركة سيدي جابر، وبركات غيره من الأولياء، فإن رضاها عني، ودعوات أبي التي كانت آخر كلماته (ولم تشهد هي ولا أنا وفاة أبي الذي مات وحيداً في إحدى غرف قصر العيني، إثر أزمة قلبية فاجأته) هي التي ستؤمن لي، دائماً، النجاح.

والحق أنني كنت ابناً باراً بوالديه، أرعى فيهما وصية القرآن الكريم: ولا تنهرهما، وقل لهما قولاً كريماً. وكيف لا أكون كذلك، وقد كنت قرة عينهما، وفتى الأسرة المدلل الذين لا يكفّوا عن زيارة الأولياء بصحبته، كي يحفظه الله، ويحميه، ويبارك لهما فيه، ولا أدري هل نجح هذا الابن البار في أن يكون كما أراد والداه أم لا؟ لكن ما أعرفه أنني ما دخلت مسجداً من المساجد إلا وأذهب إلى مقامه، وأقرأ لهما الفاتحة، إلى أن لحقت بهما سهير. فصرت أقرأ الفاتحة للثلاثة. وحتى عندما ذهبت إلى العمرة، ولم أستطع تسلّم الحجر الأسود بقصد تقبيله، وذلك بسبب جحافل حجاج إفريقيا السوداء الذين أحاطوا بالكعبة، إحاطة السوار بالمعصم، يمنعون غيرهم من الاقتراب مثلهم، فأحاطوا بي أكثر من مرة إلى أن أصابني اليأس، فجلست مستنداً إلى سور قبر إبراهيم - عليه السلام، وأتأمل الكعبة والدموع تنسال من عينيّ، ولا أمنع نفسي من الشعور بالحزن لأن العمر لم يطل بأبي وأمي، كي أتيح لهما فرصة الحج التي ظلا يحلمان بها دون أن تتحقق، فقد ضحيا بأي فائض مالي كي أكمل تعليمي، وأكون مثل طه حسين الذي كانا يدعوان الله أن أكون مثله. رحمهما الله.

 

 

جابر عصفور