خليفة محمد التليسي وأحمد عنتر مصطفى

الترجمة في جميع الأحوال هي عملية بالذات في سبيل ذات أخرى.. الأستاذة الجامعيّون احتكروا النقد .. وغاب النقاد الموهوبون..!! الشكل التقليدي في الشعر لايمنع الشاعر من أن يكون حداثيًا. ليست هناك مرجعيّة تبني رؤيةً وتاريخًا أدبيًا عربيًا معاصًرا بناءً شموليًا وحدويًا. هناك وهم كبير عن علاقة المغرب العربي بالثقافة الفرنسيّة. .. كانت البداية، ككل البدايات، صعبة.. وكان طرف الخيط مراوغا، لتعدد اهتمامات الرجل .. اتسعت الرؤية فضاقت العبارة، كما يقول النفري. وترامت أبعاد البانوراما، وحارت العين من أين تبدأ رحلة الكشف، والمواجهة، في ذات الشاعر الليبي، والناقد المترجم، خليفة محمد التليسي. ومما زاد الأمر صعوبة عزوفه عن الأضواء، وزهد الرجل في الحديث عن نفسه.. فكان لابد من أن نتولى تقديمه إلى قراء العربي ومثقفيها. هو من مواليد طرابلس/ ليبيا عام 1930. يشغل حاليًا منصب رئيس مجلس إدارة الدار العربية للكتاب، وأمين عام اتحاد الناشرين العرب، ورئيس تحرير مجلة (الناشر العربي). تقلد عدة مناصب ثقافية رفيعة، ومارس دوره أستاذًا محاضرًا في جامعة الفاتح في ليبيا. من مؤلفاته النقدية: (الشابي وجبران)، (كراسات أدبية)، (رحلة عبر الكلمات). وقد عكف على ترجمة الأعمال الكاملة لكل من (طاغور) في ثلاثة أجزاء و (لوركا) في جزأين وثالث يضم مقالات عن الشاعر الإسباني الكبير هذا فضلاً عن إبداع التليسي شاعرًا فله ديوان يضم قصائده الشعرية. كما كتب العديد من الدراسات في تاريخ ليبيا المعاصر. وله اختيارات شعرية تقع في مجلدين بعنوان (مختارات من روائع الشعر العربي) جمع فيها عيون التراث الشعري.. أجرى الحوار معه الزميل الشاعر أحمد عنتر مصطفى.

  • في عصر غلبت عليه سمة التخصص، واختفى فيه جيل الموسوعيين من الأدباء والنقاد، طالعنا نتاجك المتنوع بين إبداع شعرى ومختارات منتقاة، وكتابات نقدية وترجمة ودراسات في التاريخ وسيرة المدن.. ترى في أي من هذه المجالات كلها تحقق ذاتك الإبداعية؟
  • وما موقع هذا النتاج بين ثنائية: الموسوعية والتخصص؟

- الشعر هو البراءة والفطرة للإنسان وللأمة. وهو ابن الطفولة الإنسانية. لذا كان طبيعيًا أن تكون بدايتي مع الشعر. ككل الأدباء، وفيهم من انصرفوا عنه، فيما بعد، واتجهوا إلى أجناس أدبية أخرى. لقد ظل الشعر هو هاجسي الذي يسيطر علىّ ويتحكم في وجداني. وأغلب دراساتي وكتاباتي الأدبية تنصب على الشعر والشعراء. وهي أكثر من اهتماماتي بالقصة والرواية.

والنتاج الأدبي يتأثر، بلاشك، خاصة إذا كان إبداعًا، بتعدد الاهتمامات وتنوعها أو ما أسميته بالموسوعية. بمعنى أنه ربما تخدم هذه الموسوعية الإبداع وترفده بالجديد. وربما جنت عليه بأن تصرف المبدع بعيدًا عن ميدان إبداعه بتشتيت جهده. وأنا أرى - من خلال تجربتي الشخصية - أن هذه الاهتمامات لديَّ تنصب كلها في العملية الإبداعية ولخدمتها بحيث لا تتقاطع ولا تتعارض. وإنما يخدم بعضها البعض على طريق المعرفة الإنسانية. هي تتضافر لتكوين رؤية إبداعية موحدة في إطار ثقافي عام. واهتماماتي كلها تتبلور في رافدين هما: التاريخ والأدب، والعرب جمعت بينهما دائمًا. فلست بدعةً في ذلك. والكتب التراثية العربية لن تجد موسوعيتها تتجاوز هذين الخطين: الأدبي والتاريخي. وأنا نشأت في ظل هذا المفهوم ولعل كتاب الأغاني - للأصفهاني - قد أسهم كثيرًا منذ قراءتي الأولى له في بلورة هذا المفهوم وترسيخه لديّ.

الخيانة الجميلة..!!

  • " أيها المترجم .. أيها الخائن ".. عبارة تطارد المترجم دائمًا.. والترجمة لها مشاكلها الكثيرة وهي تعتبر خيانة للنص، خاصة إذا كان نصًا أدبيًا. برغم ما تسديه إلى الثقافة بوجه عام. فإذا كان النص الأدبي شعرًا كانت الوطأة أشد، فضلاً عن ذلك. هناك ذاتان مبدعتان تتصارعان كل منهما تحاول التغلب على الأخرى: ذات المباع الأول، وذات المترجم المبدعة أيضًا.. ولابد أن تطغى إحداهما على الأخرى. كيف تنظرون إلى هذا الصراع من واقع تجربتكم في الترجمة..؟؟

- إن عبارة "الترجمة خيانة" صحيحة إلى حد ما. ولكن لا مفر من وقوع هذه الخيانة الجميلة..!! وهي خيانة نبيلة لا سبيل إلى تلافيها. ولها فضل كبير على الثقافات، والعربية منها، حيث حفظت تراث الإنسانية. وعن طريق قناتها المرنة تمكن الإنسان من نقل تجربته عبر العصور من جنس إلى آخر ومن لغة إلى سواها. فكثير من التجارب والعلوم والمعارف الإنسانية ما كانت لتعرف لولا حدوث هذه الخيانة الجميلة. فعلوم وفلسفات اليونان ترجمت إلى العربية وتولت العربية نقلها إلى العالم في أوربا القرون الوسطى. وهي تعود إلينا الآن بما اغتنت به من فلسفات ومعارف علمية حديثة أضافها الغرب إلى تراثنا السابق الذي نهل منه. حتى الكتب المقدسة والدينية ما كانت لتنتشر هذا الانتشار لو لم تنلها لغات وسيطة غير اللغة التي نبعت ونمت في ظلالها.

  • وماذا فيما يتعلق بطغيان شخصية المترجم على المبدع، أو الصراع بينهما في نص مترجم..؟

- شرط النجاح في الترجمة عندي أن أكتشف ذاتي وتعبيري في النص المترجم. أكتشف إبداعي الخاص فيه. هذا يقلل من المغامرة أو المخاطرة ويحجم عملية الخيانة ويقلصها خلال ممارسة الترجمة فتمثل تجربة المبدع واستيعابها ومعايشة هذه التجربة بوعى مواز لعملية إبداع هذا النص. ذلك كله نوع من الإبداع الثاني له.

وأنا أعتبر الترجمة في جميع الأحوال هي عملية التضحية بالذات في سبيل ذات أخرى. فأنا أتوارى وأحجب نفسي لأقدم مبدعًا آخر، حتى لو كان نصه باختياري ومعبرًا عن ذاتي إلى حد ما، وربما كان هذا ما يجعلني كثيرًا ما أراجع نفسي، وأنصح الآخرين، ألا يتوقفوا عند ممارسة الترجمة طويلا، وأرى أن تشغل الترجمة جزءًا من حياة ممارسها ومن مراحل مبدعها، لا أن تستولي عليه تمامًا أو تستغرق جهده كله. إن أدباءً كثيرين في الأدب العالمي مارسوا الترجمة في بدايات حياتهم، وربما ظلوا يترددون عليها بين فترة وأخرى. فالترجمة، بعد هذا كله وفي جانب منها، مدرسة مفيدة لتكوين شخصية المبدع وبلورة أسلوبه.

.. طاغور... ي الخاص

  • مشاكل الترجمة من لغة إلى أخرى ربما احتالت عليها حرفية المترجم وتمكنه من اللغتين: المترجم عنها والمترجم إليها. ماذا عن الترجمة نقلاً عن لغة وسيطة ثالثة؟ أي لغة غير التي أبدع بها النص.. خاصة وقد سبق لك ممارسة هذا النوع من الترجمة في أعماله طاغور .. نقلاً عن الإنجليزية .. وليس البنغالية..

- إنَّ كثيرًا من الأدب الإغريقي واللاتيني، بل من الأدب الآسيوي والإفريقي المعاصرين تم نقله وترجمته عن طريق لغة وسيطة إلى لغتنا العربية..

  • ... لم أقصد إلى التقليل من ثقافة المترجم أو اتهامه بعدم معرفة اللغة الأصلية، فمن العبث أن افترض وجود مترجم يعرف اللغات كلها..!! أريد فقط أن أعرف من خلال تجربتكم الشخصية بعض المصاعب التي تكتنف هذا النوع من الترجمة.. والاتهام غير وارد.. فأنا حين قرأت ترجمتكم لطاغور وقارنتها بترجمات أخرى مثل ترجمة بديع حقي، ولها فضل الريادة، وجدت دقة ورهافة في انتقاء اللفظ وجرسه..، وإيقاعًا موسيقيًا خاصًا ينتظم البيت الشعري.. هذا من خلال تذوقي الخاص.. بل ربما لو لم تشر في المقدمة إلى ترجمة النص عن الإنجليزية.. لما أحس أي قارئ بوجود هذا النص الإنجليزي الوسيط..

- لقد رصد هذه الملاحظة كثير من الإخوة النقاد العرب الذين قرأوا الترجمة وكتبوا عنها..، ولا أعزو هذا إلى قدراتي اللغوية وتمكني من الإنجليزية والعربية معًا. إنها أعزوه إلى حبي وتعلقي بطاغور في المقام الأول. الترجمة هنا منطلقة من عشق ووله بهذا الشاعر الكبير وعالمه الإنساني الرحب. لقد حاولت جاهدًا أن أستوعب جوهر تجربته الإنسانية وأجوب أنحاء صفائه الروحي البديع. ولو لم تنطلق تجربتي من هذا العشق لما وصلت إلى ما وصلت إليه من تقدير القراء والنقاد لها. وأنا الآن بصدد إعادة نشر هذه الترجمة مصحوبة بالنص الإنجليزي المنقولة عنه. وأهدف من ذلك إلى إيضاح الآتي:

- أن هذه الترجمة، مع الاحترام الفائق لكل ما سبقها من محاولات، هي أوسع وأشمل من سابقاتها ومتجاوزة لها. وهذا أمر يلحظه كل منصف.

- أن أثبت أن غنائية النص العربي، هذا، تتفوق على غنائية النص الإنجليزي وسيجد القارئ الفرصة للمقارنة بين غنائية اللغتين وثراء العربية، من خلال نص واحد. ومما يزيدني ثقة واطمئنانًا إلى ترجمتي، أن النص الإنجليزي هذا، هو النص المعتمد من الشاعر. وقد راجعه طاغور بنفسه. وربما شارك في ترجمته وأشرف عليها. وأنا أعتبره في هذه الحالة أيضًا أصليًا. وهو النص الذي نقل عنه طاغور إلى كثير من اللغات الأخرى، وطبعًا ماضرَّ أن تكون العربية إحداها..؟؟!! قلة هم من نقلوا نصًا أو نصَّين لطاغور عن البنغالية مباشرة .. فالنص الإنجليزي هو المعتمد.

نقطة ثالثة سيتبينها المقارن للنصين، عند نشرهما متقابلين، أو متواجهين، إنه سيدرك أنني حاولت أن أخلق طاغور خلقًا عربيًا، مع ملاحظة عدم التجاوز أو الافتئات عليه. أردت أن أقدم (طاغور.. ي الخاص).. وأنا سعيد بالتعقيبات والدراسات التي كتبت عن هذا الجهد، ولا داعي لذكر أي منها في هذا المجال.

غياب الموهبة النقدية..

  • كتبت في النقد الأدبي وحاضرت فيه، ولك كتاب قيم عن أبي القاسم الشابي وآخر عن الشاعر الليبي رفيق المهدوي ماذا عن دور الناقد في العملية الإبداعية..؟ ألم يتخلف عن ذي قبل مما سبب جزءًا من الفوضى الأدبية السائدة؟ ثم ماذا عن ظاهرة اختفاء النقد التطبيقي وغلبة التنظير؟ لقد انحسر دور الناقد واقتصر على البعد الأكاديمي الذي لا يتعدى أسوار الجامعة، بعكس ما حدث على يد أجيال سابقة أسهمت في واقع الحياة الأدبية وبرز منها: طه حسين ومحمد مندور ولويس عوض وأمين الخولي وعبدالقادر القط.. هذه كلها من سلبيات الحركة النقدية المعاصرة .. ماذا تضيف.. أو بماذا تدفع..؟؟!!

- إن دور النقد في العملية الإبداعية، وأهمية وجود الناقد على الساحة الثقافية، ومتابعته لها كثر الحديث فيه، وأصبح من فضول القول أن نتناول هذه الأهمية مؤكدين عليها، فالناقد أحد المبدعين للنص. هناك ثلاثة مبدعين لأي نص: كاتبه الأول، وقارئه، وناقده. وقد يتوحد الاثنان الأخيران. إذ يمكن للقارئ أن يمارس النقد الانطباعي، وهو درجة من درجات النقد. إذن فدور النقد والناقد، من حيث التقويم والتقييم، لا يُنكر. ولقد وجد النقد منذ كان الإبداع. وهو ضرورة ومؤشر على قيمة هذا الإبداع. والساحة الثقافية الآن تحتاج إلى مراجعات كثيرة تتناول شتى مناحي العملية الإبداعية، ومن ضمنها النقد. وسبق أن تناولت مراتٍ كثيرة، آخرها في محاضرة لي بتونس، مشكلة غياب النقد التطبيقي، أو النقد المتابع والمواكب للساحة الثقافية. لقد غاب الدور الذي سبق أن مارسه أعلام ورواد سابقون في الساحة الثقافية. هؤلاء لم يقفوا عند متابعة الواقع الثقافي فقط. بل رفدوا هذا الواقع وأثروه لا بالمتابعة فحسب، بل بدراسات أعادت حرث التراث العربي الأدبي أيضًا. أي أنهم مارسوا التطبيق في مواكبة النصوص المعاصرة، والتنظير من خلال إعادة حرث التراث العربي وإبداء وجهة نظر فيه. لأن رؤيتهم كانت واعية، حيث التواصل لا ينقطع. أما ما تقصده من غلبة التنظير اليوم فإنها سببه هو تلك (الأكاديمية) التي لا يتخلى عنها الباحثون، بل ويصرون على ما تفرضه عليهم من قيود وتقاليد وأساليب. لقد صار النقد نوعًا من الاحتكار للأساتذة الجامعيين. وأنا ألاحظ غياب النقاد الموهوبين بالفطرة كالأستاذ العقاد أو المرحوم أنور المعداوي ورجاء النقاش وغيرهم.. الأكاديمية قد تقدم (ناقدًا مصنوعًا) كما أن هناك (شعراء نظَّامين).. لا موهوبين.. وأعتقد أن أثر ذلك على الساحة النقدية والثقافية بوجه عام خطير ومحبط.. بل إني ألاحظ أن عددًا من النقاد الذين بدأوا يعرفون على الساحة نقادًا موهوبين، من خلال كتاباتهم التي كانت تبشر بالخير، ثم استكملوا دراساتهم العلمية. حين حصلوا على اللقب العلمي، هبط مستوى عطائهم النقدي. حيث غلبت الصنعة والادعاء على الموهبة. وهذا يؤسف له.

الشعر .. إبداعًا..

  • كان اطلاعك على الشعر الغربي - كما هو واضح من ترجماتك - واسعًا، والأفق الثقافي لمختاراتك الشعرية العربية رحب وفسيح .. وحين كتبت الشعر مارسته بشكله التقليدي المألوف!! هل يعني ذلك أنك متعصب لهذا الشكل؟؟ وما موقفك من التطور المطرد في القصيدة الحديثة؟ وما طرأ عليها على يد جيل لرواد في عصرنا الحديث - هؤلاء الذين انتقيت نصوصًا لهم في الجزء الثاني من المختارات - حتى وصلت القصيدة إلى ما يسمى (قصيدة النثر..)..؟؟

- فيما يتعلق بتجربتي الشخصية في كتابة الشعر، فأنا لا أعول عليها كثيرًا على الرغم من اعتزازي بها وبشاعريتي. أنا لا أعطيها حجمًا ضخماً وأضعها دائمًا في إطار تجربة شعرية محدودة أردت خلالها أن أعبر في كلمات بسيطة عما جاش في نفسي. لم يكن من همومي أن أعرض نفسي شاعرًا، إذا جاز لي هذا الادعاء، في مواجهة الحداثة، أو لترسيخ التقليدية. إنما هذه هي أدواتي للتعبير عن ذاتي في هذا العالم المضطرب دون أن أشكل أو أتعمد الاصطدام. هذا وإن كانت قناعتي أن هذه القصيدة التقليدية التي صغتها - وعلى سبيل المثال قصيدة: (الشروق) في ظني أنا الشخصي إنها تقدم نموذجًا يجمع بين الأصالة والحداثة، وهي بصياغتها التقليدية يأتي كونها وعالمها وصورها كلها (حديثة)..

  • عفوًا للمقاطعة.. لا يمكن أن نفصل بين الشكل والجوهر.. فإذا كان الشكل تقليديًا. فمن الطبيعي أن ينسحب ذلك على الجوهر.. إن شوقي نفسه يقول: "إنما السائل من لون الإناء..)!!

- أنت إذا قرأت (إلياس أبو شبكة) تجد القالب تقليديًا، ولكن الشاعر بما تناوله وبرؤيته فيما تناوله يُعدُّ شاعرًا كبيرًا من رواد الحداثة. وكثيرون ممن يهاجمون الشعر التقليدي يقفون بإعجاب، يحاولون إخفاءه، أمام قصائد لنزار قباني كتبت بهذا الشكل التقليدي. الشكل التقليدي لا يمنع من أن تكون حداثيًا..، إنما هناك قدرة الشاعر وتمكنه وثقافته وموهبته ورؤيته للحياة وللكون وما إلى ذلك... وأنا لا أشجب محاولات التجديد ولا أتصدى لها. إنما يؤلمني هذا الإغراق في التجريب المصطنع. ويحز في نفسي ما آل إليه الشعر الآن على يد بعض الحواة الذين يجربون فيه - وهو الكائن الرهيف الرقيق - مشارطهم وأدواتهم التعسفية!! أما قصيدة النثر فجذورها موجودة في تراثنا العربي.. ولو تأملنا كتابات الصوفية - النفري وأي حيان التوحيدي وابن عربي - مثلاً - لوجدنا كثيرًا من نصوصهم توضع في دائرة (قصيدة النثر).. فهل وعى شبابنا الذين يكتبون تلك القصيدة ذلك؟؟

المختارات الشعرية

  • في جزءين كبيرين أخرجت مختاراتك الشعرية.. إلى أي مدى تعكس هذه المختارات نظرة المبدع لفن الشعر..؟؟ وما الأسس التي قامت عليها هذه المختارات...؟؟.. وما هو منهج الاختيار لديك..؟؟

- أن تتذوق الجمال. فهذا أول طريق إلى اكتشافه. التذوق هو المعيار الأول لاختياراتي الشعرية. والغنائية سر من أسرار جمال النص العربي. وهي الباب الأول الذي ولجت منه إلى النص الشعري. ولقد أردت لهذه المختارات أن تكون متميزة. ذلك من خلال حداثتها وتألق روح الجمال والغنائية فيها تحت أي ظرف وفي أي مكان وخلال أي زمان. لقد كنت حريصًا أن أغترف من هذا النبع. لم أختر، كغيري، مختارات مما هو شائع من أشعار الشعراء. إنما كنت أعود إلى آثار الشعراء في دواوينهم أولاً، ثم فيما رُوي لهم في كتب التراث. إذن فقد حاولت أن أبرز جهدي الخاص قبل أن أعود إلى تجارب الآخرين.

  • عندما ذكرت أنك عدت إلى المنابع الأصلية في دواوين الشعراء قفز إلى ذهني سؤال ناجم عن ملاحظتي أنك لم تثبت هوامش أو مصادر تلك المختارات.. لماذا؟؟

- لم أرد أن يكون الكتاب أكاديميًا .. لم أشرح - أيضًا - مفردات. كما هو متبع أو مألوف في هذا المجال. المراجع مألوفة ومعروفة لدى القارئ تلقائيا... فعندما أورد نصًا للمتنبي، فالمرجع هو ديوانه بالطبع..

  • أية طبعة؟؟!! مثلاً.. أي شرح؟؟ ولمن؟؟

- أنا انتقيت هذه المختارات وجمعتها بعشق وحب.. وأردت أن أجنّب هذا الكتاب الشكل المدرسي .. وتمنيت لو شاركني القارئ متعتي في الرحيل إلى عالم الشعر الصافي.. وإلى ينابيع الجمال دون أن يلتفت، أو تستوقفه المصادر وتعوقه الشروح والهوامش.. هو كتاب للقارئ ولمصاحبته إلى آفاق رحبة في شعرنا العربي. وليس من أهداف الكتاب أن يكون مصدرًا للتوثيق.

المناهج الدراسية بين الجمود والتطور..

  • .. الشكل المدرسي الذي ذكرته عرضا، يدعونا إلى مناقشة المناهج الدراسية، خاصة وقد شغلت عدة مناصب. فأنت عضو في لجان التعليم في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وعضو في لجان التعليم في ليبيا. يدفعنا ذلك إلى طرح فكرة توحيد منهج دراسة الأدب العربي وتوحيد المختارات من النصوص الأدبية نحو محاولة للارتقاء بذوق الطالب. لقد قلت إن الشروح - أسفل النص - تسيء وتحدد إقامة ذوق وفهم المتلقي للنص وتحاصره بوجهة نظر واحدة، وهي بلاشك تقلص دور الخيال الفردي، وهذا مانجده في الكتب المدرسية. والتلقين أساسي في منهج تدريسنا للأدب.. وعلى الطالب أن يردد أن أشعر العرب (امرؤ القيس إذا ركب، والأعشى إذا شرب، والنابغة إذا رهب.. و.. و)!!

- أنا كثير التعرض لهذا الموضوع، سواء في كتاباتي أو محاضراتي التي أدعى إلى إلقائها، وفي مقدمة المختارات تناولت هذا الموضوع. وقلت إنها جناية في حق الشباب تزهدهم وتنفرهم من الأدب والتراث وربما كرهوا اللغة برمتها. الاختيارات للنصوص تتعمد الإساءة إلى أدبنا. فأغلب النصوص إما ركيكة وإما متدنية فنيًا. النص الأخلاقي أو الذي يقوم على الموعظة هو المفضل، دون النظر إلى قيمته الجمالية، علمًا بأن الجمال والفن في ذاتهما من عناصر التكوين الأخلاقي. لقد طغت مدرسة بذاتها وتحكمت منذ البدايات الأولى في الاختيارات المدرسية الأدبية. ولاشك أن حوافز هذه المدرسة ودوافعها من حيث حرصها على اللغة العربية والجانب الأخلاقي حوافز ودوافع نبيلة ومشروعة، وأعني بهذه المدرسة مدرسة (دار العلوم)، وهنا لا أقلل من دور هذا المعهد الشامخ في مسيرة اللغة العربية، خاصة في سنوات التسلط الأجنبي. ولكن طغيان وأحادية نظرة ما وتغليب رؤية على أخرى هو ما أنتقده هنا. لابد من مراجعة هذا الذوق السائد. ذلك الذوق الذي يقدم النصوص الوعظية أو الوطنية حتى دون الالتفات إلى مواطن الجمال فيها. ولو أشار إلى هذه المواطن ربما كانت أجدى نفعًا وأوقع تأثيرًا في نفوس الطلاب..!!.. وربما قدم تلك النصوص على حساب الجميل والعذب من النصوص الأخرى..!! لماذا لا تقدم بعض النصوص الغزلية الجميلة والخالصة الشعر..؟؟ حتى لو اختير نص لعمر بن أبي ربيعة - وهو شاعر غزل - اخترناه نصًا متقعرًا ذا إيقاع جزل وصرامة لغوية..!!.. ولا يمتد اختيارنا إلى قصائده ومقطوعاته ذات البحور القصار والمجزوءات التي تتميز بإيقاع مطرب..؟؟.. لاشك أن المناهج الدراسية الأدبية، بهذه النوعية من الاختيار وبهذه المعايير السائدة - أصبحت تشكل خطرًا كبيرًا في تكوين ذائقية الشباب للشعر.. حتى ليخيل إلينا أن هناك مؤامرة لاغتيال حاسة التذوق.. دليل على ذلك أنني كثيرًا ما التقيت بالشباب في مناسبات عديدة.. وكنت عندما أقرأ لهم نصًا جميلاً - خارج مختارات المناهج - كنت أفاجأ بأسئلتهم - بعد استحسانهم للنص - عن عدم اختياره ضمن مناهج الدراسة.. وكنت أبصر في عيونهم اللهفة إلى مثيله والدهشة لاكتشافهم هذه القارة البعيدة..

  • ذن فأنت تشاركني الإحساس بضرورة توحيد مناهج الدرس الأدبي والمختارات هذا مع الاحتفاظ بشخصية واستقلال وخصائص كل قطر عربي .

- لابد من ذلك .. شيء آخر لفت انتباهي. لا يوجد في المكتبة العربية كتاب شامل للأدب العربي المعاصر. هذا أمر محزن ومؤسف. كان يمكن لمشروع كهذا أن تقوم به هيئات ومؤسسات مثل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. هناك نوع من التكريس الإقليمي في دراسة الأدب العربي. علما بأن الأدب لو درس على أساس تيارات ومدارس فسيتم اكتشاف التداخل والتواصل بين الإقليم والآخر.. وستذوب الجغرافيا الحادة التقاطيع في الإبداع الأدبي ضمن إطاره التاريخي..

  • أعتقد أن التكريس الإقليمي هذا زاد مع اضمحلال الحلم القومي. واختفاء دور مجلة مثل (مجلة الرسالة) التي كان وعاؤها يتسع لأدباء أقطار عربية وأقلام مبدعة في شتى التيارات. ثم انحسار دور مجلة (الآداب) البيروتية. لقد تفتتت المجلة الإقليمية أيضًا - إلى مجلات إقليمية - وهي ظاهرة لها جانبها الإيجابي - ولكنها كرًّست إقليمية الأدب العربي..

- أنا شخصيًا مازلت أعتقد أنه، على الرغم من غياب هذه المجلة أو تلك ذات الصبغة القومية، لا تزال الفرصة سانحة وقائمة لسبل أخرى تقوم محلها، كاللقاءات والمنتديات والمؤتمرات الفكرية والحلقات الدراسية التي تعقد دائمًا. ولكن ما يلفت النظر في هذه القضية هو غياب الدور الأكاديمي في تقديم الأدب العربي المعاصر والحديث وتوثيقه من خلال منظور وحدوي شامل. فجامعاتنا تدرس كل منها أدبها العربي الخاص. ليست هناك مرجعية تبني رؤية وتاريخًا أدبيًا عربيًا معاصرًا بناءً شموليًا وحدويًا... هذه هي القضية الرئيسية في رأي الخاص. وينبغي أن يتعالى الصوت بهذه الدعوة. وأنا شخصيًا قد أقبل دراسة الأدب العربي في إطارها الإقليمي كمرحلة لتقصِّي المعلومات أو تجميع الخصائص، أتجاوزها بعد ذلك بدراسات شاملة، وتوظف نتائجها في إطار رؤية موحدة لدراسة الأدب العربي ككل موحد.

.. وهم الحداثة في المغرب العربي..

  • تعتبر ليبيا أكثر أقطار المغرب العربي التصاقًا وانتماءً إلى ثقافة المشرق العربي. على عكس السائد في تونس والجزائر والمغرب حيث تمتد المظلة الفرنسية، لغة وثقافة، فنحن لا نجد في ليبيا على سبيل المثال هذا الولوع الجامح بالتغريب، أو الشطط في مجاراة الحداثة .. إلى أي شيء تعزو ذلك.. وما تفسيره؟

- نحن في ليبيا أكثر اتساقًا مع أنفسنا ومع ثقافة المشرق. وذلك طبيعي جدًا بحكم الموقع الجغرافي واتصالنا بمصر. لقد تأثرنا وتتلمذنا على جيل الرواد فيها. ونقلت إلينا صحافتها ومجلاتها نبض الثقافة في الثلاثينيات والأربعينيات. ولكن هذا لم يمنع تفاعلنا - أيضًا - مع التجربة المغربية. وإن كان حجم تأثيرها محدودا. ويبدو أنه آن الأوان ليعرف المشرق العربي الحجم الحقيقي لتجربة المغرب الأدبية. إن هناك وهمًا سائدًا عن علاقة هؤلاء بالثقافة الفرنسية.. وأنا أقول بصدق وصراحة إن هؤلاء أقل الناس اتصالاً بالثقافة الغربية.. هل تعتقد - مثلاً - أن محمد نبيس - حين يتحدث أو يكتب قصيدته - متأثر بالحداثة في فرنسا؟؟ لا.. هو متأثر بتجارب المشرقيين ومنهم أدونيس..

  • ولكن المعروف، أو المتعارف عليه أنهم على اتصال وثيق بالثقافة الفرنسية.. اطلاعاً على آثارها وترجمة ونقلاً عنها..

- إن ما يستوردونه من الغرب مستورد بطريق الوساطة وليس مباشرة .. ربما كانوا متأثرين بما هو سائد في الساحة اللبنانية - بصفة خاصة - أكثر من تأثرهم بالغرب مباشرة. لقد تأثروا بشعراء العرب المحدثين أكثر من تأثرهم بالشعر الفرنسي.. أنا مسئول عن حديثي وهذا.. أؤكد أن هناك وهما كبيرًا سائدًا عن تأثر المغرب بالفرنسية، هذا الوهم أعطاه حجًما أكبر مما يستحق. والدليل: ما هو الدور الذي قاموا به في حقل الترجمة؟ إزاء الدور الكبير الذي قام به المشرق في هذا الصدد؟؟ خذ لبنان مثلاً.. ثم ارن.. كم عمر الاستعمار الفرنسي للمغرب؟ أكثر من مائة عام.. ماذا قدم.. مقارنة بالدور اللبناني؟ أو مقارنة بدور مصر الثلاثينيات والأربعينيات؟ لا شيء.. الصورة والحجم اللذان أعطيا لهم مبالغ فيهما.. بالإضافة إلى أن ما نجده لديهم موجود أو سبقهم إليه الشرق - إن ليبيا مثلاً قامت بدور في ترجمة الجانب التاريخي لهذه المنطقة أكثر من الدور الذي قامت به هذه الدول من المغرب العربي.. ولذلك أنا أشك في هذا الحجم الكبير الذي تحظى به ثقافة المغرب العربي ...

ثقافة المواطن العربي

  • لقد طرأت تحولات كمية وكيفية في مجال الثقافة، هي انعكاس للتغيرات التي طرأت على المجتمع البشري بوجه عام. فمثلاً تراجعت الرواية الكلاسيكية أمام زحف وإنجازات الرواية الحديثة. والشعر ناله ما ناله من تحديث وتجريب.. عمت الشكوى من كساد مبيعات الكتب.. وراجت الكتابات السريعة والخفيفة.. ماذا عن ثقافة المواطن العربي في مثل هذا العالم المتغير الذي تسوده أجهزة الاتصال الحديثة. مغرقًا في مادية لا يستجيب العرب سريعًا لها.. ناهيك عن هيمنة الفيديو والتليفزيون؟؟

- هناك شيء مهم جدًا يجب ملاحظته: أن ما نشكو نحن منه، تشكو منه شعوب أخرى وأمم أخرى، وبعض هذه البلدان التي نزعم ويخيل إلينا أنها تصدِّر إلينا هذه الظواهر هي نفسها تشكو منها. فأنت لو تتابع الصحافة الأجنبية العالمية تجدها ترصد الأزمات نفسها، وستجدهم يجأرون بالشكوى ذاتها. حتى الذين نتوهم أنهم يصدرون إلينا ثقافات معينة أو نتخيل أنهم متفرغون لغزونا ثقافيًا. إن هذه الظواهر أصبحت عالمية. وقد وقع التنديد بها حتى على مستوى الرؤساء في هذه البلاد. علينا أن نرصدها ونحاول علاج آثارها علينا، ولكن أن نعي أيضًا أنها ليست محلية، بل هي عالمية. ونحن جزء من هذا العالم..

  • إذا كانت أوربا قد أصيبت بهذه الظواهر مثلنا. فإن لها أساليبها في العلاج. ونحن أحوج ما نكون إلى تغيير وتقويم مسارنا الثقافي بصفتنا مجتمعات نامية ينبغي أن تقوم الثقافة لدينا بدور فعال، وليس دورًا ترفيًا أو ترفيهيًا، كالذي تلعبه أحيانًا في أوربا - بعد اجتيازها مرحلة ما بعد المجتمع الصناعي - إن عندنا نوعًا من التخلف يجعل العبء على ثقافتنا أكبر .. وخصائص مجتمعاتنا تتطلب جهدًا ثقافيًا أكبر وأشدَّ تكثيفًا، يبعدها عن الثقافة الاستهلاكية.

- هذا يحتاج إلى مبحث واسع متشعب، وليس سهلاً أن نتناول ذلك في تلك العجالة، لكن الجانب المهم - أننا يجب أن نتخلص من هذا الإحساس بالمحاصرة، أو الوقوع تحت وهم غزو الحضارات الأخرى لنا.. وكأن الهم الأساسي لتلك الحضارات أنها صباح مساء لا تفكر إلا في ابتلاعنا وامتصاصنا. هذا الإحساس ينتج عنه إما شعور بالدونية، أو إحساس كاذب متضخم بالأهمية. وكلاهما ضار لأنه غير موضوعي. فنحن نعيش في عصر حديث له خصائصه وله مميزاته.. ولكل دورة حضارية خصائصها ومميزاتها.. فينبغي أن تكون رؤيتنا لها سليمة وصحيحة. وليس موقف المعقد الذي يستشعر بأن كل ما في الكون يستهدفه أو يقضي عليه. إن الجهد المبذول في مقاومة هذا العبث والوهم أحرى به أن يوظف في مجال آخر. إن هذا يشتت الرؤية إلى الهدف المنشود ويحول الانتباه عنه.