التصفيق صوت سحري في عالم البشر

التصفيق صوت سحري في عالم البشر

لا يُعرف على وجه الدقة متى بدأ الإنسان التصفيق. كما أنه من غير الممكن الادعاء بأن التصفيق عُرِف في مجتمع أو حضارة ما قبل الحضارات الأخرى. لكن هذا لا يعني أنه سلوك مستحدث. فهناك إشارات عديدة على وجوده في بعض المجتمعات القديمة. فكثير من النقوش المصرية القديمة تُظهر المصريين وهم يصفقون، خاصة بمصاحبة الرقص والغناء. وقد كان التصفيق في مصر الفرعونية أداة الإيقاع الأساسية، وكان يُصاحِب عادةً حفلات الرقص والغناء التي أبدع في فنونها المصريون.

في الحضارة اليونانية تحولت وظيفة التصفيق من وسيلة لضبط الإيقاع الموسيقي والغنائي إلى وسيلة لإظهار استحسان الجمهور وإعجابهم بالعروض المسرحية أو الموسيقية أو الغنائية. بل إن اليونانيين ربما كانوا أقدم الشعوب التي عرفت مهنة المصفِّق المأجور؛ أي الشخص الذي يحصل على مقابل مادي نظير التصفيق المتحمس لمسرحية ما أو أداء موسيقي ما. فقد كان بعض المؤلفين المسرحيين الذين يعرضون مسرحياتهم على مسرح ديونيسيوس يؤجرون مجموعات من الجماهير تقوم بالتصفيق الحار لمسرحياتهم أمام لجان تحكيم المسابقات المسرحية! وتذكر كتب التاريخ أن نيرون (37-68 م) طاغية روما الشهير، أسس مدرسة خاصة لتعليم أصول التصفيق، وأنه كان يأمر ما يقرب من خمسة آلاف فارس وجندي من أفراد الجيش بحضور الحفلات الموسيقية التي كان يغني فيها وهو يعزف على القيثارة؛ ليصفقوا له بعد أن ينتهي من الغناء والعزف!

ويبدو أن التصفيق قد انتقل من المجتمعين الفرعوني واليوناني إلى المجتمعات العبرانية القديمة، وإن اختلفت دلالته وغايته. فهناك إشارات متعددة على التصفيق في العهد القديم، تربط التصفيق بمشاعر الفرح الإنساني، وتصفه بأنه فعل محبب للرب. ففي المزامير يأمر الربُ البشر بالتصفيق قائلا: «أيها الناس صفقوا بأيديكم، ارفعوا أصواتكم إلى الرب محملةً بالفرحة. لكي يُخشى المولى الأجل الأعلى، الملك الأعظم في كل الأرض». كما ورد التصفيق في العهد القديم أيضًا بوصفه فعلا مجازيا غير حقيقي، لكنه مقترن بالفرحة كذلك، يقول الرب في المزامير «دعوا الأنهار تصفق بيديها، دعوا التلال فرحةً ببعضها أمام الرب». كما يقول في سفر إشعيا «كل الأشجار في الحقول سوف تصفق بيديها». ومن الواضح أن الدعوة لتصفيق الأنهار أو التنبؤ بتصفيق الأشجار أدخل في المجاز من الحقيقة.

لم يرد نص يخص التصفيق في العهد الجديد. لكن التصفيق كان معروفًا في الكنائس المسيحية منذ فترة مبكرة من تاريخ المسيحية. ويذكر محررو دائرة المعارف البريطانية أن التصفيق كان منتشراً في الكنائس المسيحية منذ القرن الرابع الميلادي، وأن هذا الانتشار كان نتيجة تأثر الكنائس المسيحية في تلك الفترة بتقاليد المسرح اليوناني التي كان التصفيق أبرزها. وهكذا اعتاد المسيحيون في تلك الفترة التصفيق للوعاظ الشعبيين، استحساناً للغتهم أو أدائهم. وغالباً ما كان يحدث التصفيق في الكنائس في سياقين رئيسين؛ الأول في مواقف التقدير؛ وذلك مثل التصفيق للأخوة المكرمين، والتصفيق إثر قولٍ حسنٍ أثناء الوعظ، والتصفيق أثناء حفلات التعميد، والثاني التصفيق الإيقاعي أثناء أناشيد الزواج. وهو ما يعني أن التصفيق في الكنائس القديمة كان يقوم بمهمتين، الأولى ضبط الإيقاع؛ وهي امتداد لوظيفته عند الفراعنة، والثانية إظهار الاستحسان وهي امتداد لوظيفته عند اليونانيين.

شعائر عربية

وقد عرف العرب في عصر الجاهلية التصفيق بوصفه ممارسة شائعة تؤدَّى أمام الحرم المكي. فقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود بالتصدية في قوله تعالى وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية هو التصفيق. وذلك لأن التصفيق في صدر الإسلام استُخدم أداة للتشويش على المسلمين في بداية دعوتهم؛ فيذكر المفسرون أن بعض القرشيين ممن عارضوا دعوة محمد عليه الصلاة والسلام كانوا يصفقون كلما قام ليدعوا الناس إلى دينه الجديد، وذلك حتى لا يستطيع أحد سماعه أو التأثر به.

التصفيق والسحر

في سنوات الطفولة كنت أنتشي بتلك التصفيقة السحرية التي تُفتَح على إثرها بوابة مغارة علي بابا بكنوزها؛ كنت أتخيل «سمسم» حارس البوابة في صورة كائن عملاق لا يفهم إلا لغة التصفيق. وبالمثل كان جِنَّي مصباح علاء الدين قادرًا على تلبية أقصى الرغبات استحالة بمجرد تصفيقة من يديه العملاقتين. هكذا ارتبط التصفيق في ذاكرتي بالقدرة السحرية على تحقيق الأحلام. لا يهم أن يكون تصفيق يد هزيلة أنهكها الشقاء مثل يد علي بابا في حكايته الشهيرة، أو يد ضخمة كسولة لعفريت استراح (في سجنه) ألف عام كما هو الحال في حكاية مصباح علاء الدين السحري. وسواء أكانت التصفيقة مصحوبة بجملة «افتح يا سمسم»، أو تابعة لعبارة «شبيك لبيك عبدك بين إيديك»، فإنها كانت قادرة دومًا على اختراق قوانين الواقع، وإلقائي مباشرة في قلب عالم السحر الأبيض. وربما سأظل أحلم بواحدة من هذه التصفيقات القادرة على تحقيق أحد أحلامي بالعدل أو الحرية.

يبدو أن ارتباط التصفيق بإنجاز الأعمال السحرية موغل في القدم. فقد عرفت الكثير من الثقافات التصفيق المصاحب للأعمال السحرية وللتحول من كائن إلى كائن آخر. فقد كان الساحر يصفق بيديه فتنقلب الفتاة الحسناء إلى قطة أو عصفور، أو تتحول الساحرة الشريرة نفسها إلى بومة أو غراب. وهو ما يتم تفسيره بواسطة قدرة التصفيق على القيام بتكثيف قوى حيوية بشكل مفاجئ، وإطلاق هذه القوى. لهذا اعتاد السحرة أن يستحضروا الأرواح التي يتعاونون معها طيبةً كانت أم شريرة- بواسطة التصفيق، وأن يصرفوها بواسطة التصفيق أيضًا. ومنذ ذلك الوقت أصبح التصفيق هو البوابة السحرية للقيام بمهمة الاستحضار والصرف. وانتقلت قدرة التصفيق على الاستحضار من عالم السحر إلى عالم الآلهة. فصلوات الشانتو Shinto في الهند تبدأ بتصفيقة وتنتهي بتصفيقة أخرى. ليصبح التصفيق علامة إيذان للبشر بالوقوف بين يدي الإله، وعلامة إيذان بانصرافهم أيضًا. فالتصفيق لدى الشانتو أشبه بكلمة سر تعلن انفتاح أبواب السماوات أو انغلاقها.

بعد زمن ليس بالقليل انتقلت وظيفة الاستحضار والصرف من عالم السحر والآلهة إلى عالم البشر. وبحدوث هذا الانتقال تغيرت الأشياء التي يستطيع التصفيق استحضارها، واختلفت من ثقافة إلى أخرى ومن عصر إلى آخر. ففي ساحات القصور الملكية كان التصفيق دومًا أبرز تجليات السلطة العارمة التي يمتلكها الملك أو الخليفة أو السلطان. فتصفيقة الجالس على العرش ذات قوة استحضار سحرية، ربما لا تقل قدرة عن تصفيقة الساحر الفعلي. الملك يُصفق بيديه فتنشق الحجب والحوائط عن راقصة تتثنى تخطف الأبصار، أو عن موائد ممتدة تحفل بما لذ وطاب، أو عن سيف صارم يقطع الرقاب. ما وراء التصفيقة دومًا مجهول. لاعجب إذن أن يُصبح الفعل ذاته مثيرًا للترقب؛ إذ لا أحد يعلم إلا الخليفة ذاته - إن كانت التصفيقة بُشرى متعة أو نذير عذاب.

مثل الملك المتوَّج كان الفلاح المصري يُصفق بيديه لاستحضار البشر. مع ذلك فإن ما يقدر الفلاح على استحضاره محدود بحدود سلطته على بعض أهله؛ خاصة من النساء وعلى بشر قليلين مثل عمال المقاهي. البيت والمقهى كانا المكانين اللذين يمارس فيهما المصري دورًا في سلسلة القهر. في البيت يصفق الفلاح فتأتي الابنة أو الزوجة طوع البنان، وفي المقهى يُصفق فيحضر عامل المقهى بين يديه، فيمارس عليه تسيُّدًا عابراً ويطلب منجعصاً شيشة وكوباً من القهوة أو الشاي، في صيغة أمرية قاطعة ولهجة تحذيرية بألا يتأخر المطلوب، أو ألا يكون مطابقاً لما يريد. وهكذا لعبت المقاهي المصرية دوراً كبيرا في تصريف فائض القهر الذي يشعر به المصريون طوال تاريخهم، وساهمت في الحفاظ على توازنهم النفسي! وتلك وظيفة أخرى للتصفيق.

تصفيق الحداثة

التصفيق في العالم المعاصر أصبح ممارسة اجتماعية شائعة في معظم المجتمعات في القرن العشرين. تستطيع رؤيته وسماع صداه في أسواق الصين وفي الحفلات الشعبية على ضفاف الأمازون وفي المقاهي المصرية وساحات اللعب الأوربية وفي قاعات الذكر التركية ورقصات الأدغال الإفريقية..إلخ. هذا الانتشار الكوني ربما يكشف عن أن التصفيق أصبح ممارسة مشتركة بين أبناء البشرية على اختلاف ألوانهم وألسنتهم. ومن ثم فإنه يوشك أن يكون سمة جوهرية للإنسان المعاصر. إلى حد أنه يمكن تعريف الإنسان المعاصر بأنه حيوان مُصفِّق. لا يعرف التصفيق قيود العمر أو النوع. فالأطفال الجالسون على مقاعد الدرس يتشوقون لتصفيق قرنائهم لهم، وينتشون به حين ينالونه. والشباب الملتفون في حلقة غناء تتجاوب أيديهم مع النغم تصفياً، وصفوة العلماء يُلهب التصفيق أيديهم احتفاءً بزميل أسدَى للعلم خدمة، أو أفنى في طلبه عمرًا. هذه السياقات لا ينفصل فيها رجل عن امرأة أو طفل عن طفلة، ونادرة هي السياقات التي يختص بها أحد النوعين بالتصفيق دون الآخر؛ وكأن التصفيق أصبح نشاطًا عاماً لا يعرف التمييز على أساس النوع أو الجنس.

التصفيق ممارسة ثقافية؛ لذلك تختلف طريقة استخدامه ووظائفه وكيفية تأويله من ثقافة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر. ومع ذلك فقد أدى كون التصفيق شعيرةً تواصلية في كثير من أشكال التواصل الجماهيري في الوقت الراهن إلى تحوله في بعض الأحيان إلى عرف مستقر، لا يختلف مداه الزمني أو مواقع حدوثه من ثقافة إلى أخرى. ففي سياق الخطب الرئاسية على سبيل المثال- يلتزم الحضور بالتصفيق فور دخول الرئيس المكان، فإذا كان سيتم تقديمه للجمهور فإنهم سيصفقون مرة ثانية حين يقوم ليعتلي المنصة التي سيخطب من ورائها. وغالباً ما يقوم الحضور بالتصفيق مرات عديدة أثناء الخطبة، قبل أن يأتي التصفيق الأخير بعد انتهاء الرئيس من إلقاء خطبته. مثال آخر هو العروض الفنية الحية التي تتضمن أيضًا ما يكاد أن يكون بروتوكولا للتصفيق. فما إن يقف الفنان موسيقيًا كان أم مسرحيًا أم مغنيًا أم شاعرًا أم قاصًا..إلخ- بين يدي الجمهور حتى يبدأ الجمهور بالتصفيق تحيةً له، وقد يتخلل ذلك تصفيق آخر لإظهار الإعجاب وتصفيق ثالث لإعلان الرغبة في إعادة مقطع أو كوبليه معين، وتصفيق رابع في الفواصل الصامتة ..إلخ، وفي نهاية العرض تأتي تصفيقة الوداع. وقد أدى هذا الطابع العرفي للتصفيق إلى تحوله في الوقت الراهن إلى مهارةٍ تواصلية، يُكتسب جزء منها من خلال الملاحظة والمحاكاة والتقليد، ويُكتسب جزء آخر بواسطة التوجيه والإرشاد، ويتم صقلها بواسطة الخبرة والممارسة. وكأي مهارة تواصلية فقد يبرع فيها البعض؛ فيعرفون أنسب وقت للتصفيق، وأفضل كيفية له..إلخ، ويبادرون بقيادة بقية الجمهور، فيسيرون بسفينة التصفيق حتى تصل إلى بر الفعالية.

ربما يرجع انتشار التصفيق في معظم أشكال التواصل الجماهيري في مجتمعات العالم المعاصر إلى التأثير الهائل الذي مارسته وسائل الإعلام في القرن الماضي. فقد أدى التوغل الطاغي لوسائل الإعلام في أطراف العالم قاطبة إلى توسيع دائرة انتشار بعض السلوكيات التواصلية، وتبنيها بوصفها سلوكيات عامة نموذجية، ومن بينها التصفيق. ولأن من يملكون وسائل الإعلام وأدواتها هم دائماً الأقوى سياسياً وعسكرياً، فإن انتشار التصفيق في الأرض من أقصاها إلى أقصاها يمكن أن يُنظر إليه على أنه علامة حية على التأثير الذي تُحدثه الهيمنة الثقافية والإعلامية في العالم المعاصر. ومن هذه الزاوية يمكن النظر إلى أعراف التصفيق المتجاوزة للثقافات بوصفها تبنِّيا كونيا لثقافة الغرب في التصفيق.

 

 

عماد عبد اللطيف