قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟

----------------------------------------------

من بين مجموعة النصوص السردية التي قرأتهااخترت لفوز:

- «من أنت؟ من تكون»؟ بالمضارع لعماد حسين أحمد سورية. نصّ سردي يمضي في اتجاه التجريب الذي لا يتخلى عن قصصيته، فمع هذا النص يمكن معاينة مشهد الحدث من بناء الأسلوب الذي يظهر الراوي وكأنّه يرسم بورتريها لشخصيته المخاطبة، في تساؤلات تحيل إلى ماضيه وحاضره. عنوان النص الذي يشير إلى موضوع فلسفي عن الذات والكينونة لا ينفصل عن الحياة المعيشة «بالمضارع» فنجد اليومي والعابر من مصادر إثارة هذا السؤال الإنساني العميق.

- «أرقام...» لحنان بيروتي الأردن. تميزت في ترابط البناء السردي لموضوع تتداخل فيه غيبوبة الموت مع كابوس الحياة المستلبة لشخصية القصة الرئيسة التي تجد نفسها بُعيد الموت في حال استذكار لحياتها القهرية كامرأة، والتي يتراكم الاستلاب الاجتماعي عليها، مع قسوة الحياة اليومية، إلى حد قتلها من قبل زوجها.. إلاّ أنّه مع تقنية البناء اللافتة يمكن ملاحظة خاتمة عادية للقصّة، يبدو لي أن القاصة كان بإمكانها تقديم وجهة أخرى لها، بصياغة مختلفة.

- «الساحر» لمحمد العرفي - مصر. قصّة تستفيد من مشهدية الفلكلور الشعبي في تقديم الإدهاش عبر الفنون الأدائية الموصوفة بالسحر، فتظهرها كخلفية أو ديكور لرسم ملامح مجتمع يسعى إلى فرجة لم يعد بإمكانه دفع تكاليفها، وإن كانت «ساحرة». هذه الفرجة لا تثير ردود فعل المتفرّجين إلاّ حين يشاء لها أن تفجّر مكامن العنف في الأداء لعلّها تتخذ شكلاً مختلفاً في العلاقة، يتم عبرها الأخذ والعطاء، مع أن ذلك لا يُنجز، وهالة اللحظة هي التي تطغى مع صراخ لاعب السحر: "يا ولاد الكلب"، وهي عبارة شعبية تحيل كل ما هو مذموم للكلب.

- «وحدة قاتلة» لعبد العزيز صالح ضيف الله - تونس. نص سردي يتوغل في العذاب الإنساني الخاص، المتمثل في الفُقد والعيش في الوحشة. تستذكر الشخصية حياتها مع زوجها وولديها، الموتى، فتعيد للذكرى صخبها لتجد نفسها تسعى لاقتناء متطلبات العيش، فهناك طفل ينتظرها، ستضاحكه وتلاعبة وتمضي معه في حكاياته إلى مبتغاها. لكن السارد يباغتنا، فالمرأة العجوز لا تعيش إلا في أحلام يقظتها، مع وحشتها المصاحبة لها في دار المسنين، تلك الوحشة التي أدّت بها إلى الظن بأنها تسكن مع حفيدها، من ابنها المتوفى، مع أنه ليس هناك من حفيد. وإذا كانت الخاتمة المباغتة قد بدا فيها بعض ارتباك لجهة الصياغة، فإن القصة امتازت في الذهاب إلى ما هو حميمي وخاص.

- «كِتاب الشظايا» لياسين أبوالهيتم المغرب. هي نصوص شذرية، كما يسمّيها، وهي تمضي في اتجاه ما صار يعرف بالقصة القصيرة جداً، إلاّ أن هذه النصوص، كما تبدو لي، ما زالت بحاجة إلى إعمال بنية القص في منحاها السردي أكثر من الاتكاء على جانب الفكرة والمفارقة، إذْ تتغلب فكرة اللقطة العابرة، المصاحبة لفكرة ما، أكثر من اللحظة السردية التصويرية التي قد تضيء جوانب مهمة، لا يمكن إشباعها بالسرد القصصي الطويل.

وما يلاحظ في هذا السياق هو عدم إيجاد الخاتمة الملائمة للنص الثالث (حواء والتفاح)، إذ إن الفكرة نفسها تبدو أيضاً مرتبكة.

------------------------------------------

«مَن أنت؟ من تكون؟ بالمضارع»
عماد حسين أحمد (سورية)

تتساءلُ: من أنت؟ من أكونُ؟

تقولُ: أنا هذا الذي تراه أمامك، اسمي فلانٌ، ولي جسد يشتهي كغيره، وروح سمعتُ عنها الكثير القليل.

تغمضُ عينيكَ شطراً من الزمن،تتدافعُ الأيامُ في ذهنكَ، تعاودكَ الذاكرة، فتسمعُ نداءَ أبيك من بعيد، وأنتَ تخطئُ في حسابات حانوته، يقولُ لك : احترتُ في أمرك، ولا أدري، كيف ستنجو أو كيف ستجتاز امتحانك؟

يحيطك الخجلُ، وتراودك صورة ذاك الذي صار «حماراً» من كثرة ما قيل عنه، كان يُنادى حماراً أكثر مما كان يُنادى باسمه، تمضي في رؤاك الى شارعٍ آخر، موقفٍ آخر، شاهدٍ آخر، تخططُ مع نصفك الذي يُدعى بـ شاهر، ذات ليلٍ، تتسلقان الجدار المربعي، وتسرقان من عنب شجيرات «ربيعة»، تلك التي لا تميز الزيت من الزعتر، ولا يهمها من الدنيا سوى كيسها المملوء بالتبغ والدفتر ،.. لكنكَ تفشلْ، فتسقطُ، ترتطمُ بالأرض، تثيرُ أصواتا عالية، تخرجُ " ربيعة " وتنادي : يا حرامي ـ فتنشطرُ انشطاركَ الثالث، ترتعدُ، تركضُ، تتهافتُ، تزحفُ نحو داركَ، تجلسُ في ركن، تتذكرْ، وتقولُ في قرارك : من أنت؟ .. أيعقلُ أن أكون لصاً،أو أن تكونَ هذه هويتي؟ ....

تنبتُ شُعيرات على جسمك، تحتَ انفك، فوق نصفك السفلي، فتشاكس، ُيرجّح الميزان في كف معاكس، تتخبطُ، تخطئُ أخطاءً، صواباً، تسهرُ، تحلمُ، تتمردُ،تعشقُ، تترصد الدار التي تحوي جدائلها ،ثم تظهر، تمشطُ شعرها المبتل، تبدو مكتنزة، بيضاء، يشرأبُ عنقك، تشتهيها، فتتجاسرُ، تتجرأُ، تميلُ لها رأسكَ، ترفرفُ عيناً من عيونك، تلوّحُ، تؤشرُ،.. لكنك تفشلْ، تدوّنُ ما يعتريكَ حبراً على الورق، من الألف إلى الياء، تراسلها، فترفضك، تتجهم بوجهك، .. فترتدُّ خائباً، تشنُ حرباً على الأنثى، وتتذكر سؤالك : من أنتَ؟ من تكونُ؟ وتجيبُ برتابة: أيُعقلُ أن أكون أنا المرفضُ، المنبوذُ، اللاشيء؟

ثم ماذا؟، القصة ترفض النقص، أو النقص يرفض القصة، لابدَّ أن تضارعَ، أن تقارعَ، «أن تكذب لتقنع الآخرين بأنك صادق»،أن تخلص لمبغاك، أن تعرفَ أنك معبر، أنك جزئي تُكملُ بنقصكَ، ويكفي.. قالها رجلٌ هلاميٌ وذاب في رصيفه، فتقولُ في سرك: أيمكنُ أن تكونَ أجد في نقصي وفي كذبي جلوة صدقي؟ .. أيمكن أن تعبرُ من ذلك الغروب إلى شروق ذاتك، تبكي، تنتفضُ في صمتك، تنكمشُ، تتكورُ،.. آه، من يقرؤك؟ من يسمعك؟ من يحدد تاريخك، جغرافيتك؟ من يدلك إليك؟ لكن لا أحد يرد، ما من أحد، هل في الأصل من أحد؟ .......

تسمعُ : الزمن ليس أستاذا مدرسياً يقبل أعذارك، يتنفس معك لفافة تبغك، يأكل معك،منك، يرتديك، ينتعلك أحياناً، دائماً، يسكنك، يحقق نفسه فيك، هو توأمك الذي لا يشبهك، يجيبك، يعلمك، لكنه يميتك، هل من موت تام كامل؟ فتردُ على صدى صوتك: أيمكن أن أكون أنا الزمان أو أن يكون الزمان هويتي، فكرتي، كينونتي؟.... تخترقك مسافة زمنية أخرى في الممر، الذاكرة، تتشتتُ في اللا مكان أكثر، تتبعثرُ أكثر فأكثر، فتحمل ما تبقى من بعض بعضك، وتتدفقُ على الرصيف، العالم، الازدحام، تقرأُ نفسك في أفكار الآخرين في نظراتهم، هيا، تذكر، من أين تبدأُ، أم من بداية كانت نهاية غيرك أم من نهاية كانت بداية ذاتك؟ أصمت، أبق حيث أنت، تتساءلُ : من أكونُ؟ وتجيبُ من فورك: لا أدري، أو تقولُ: أنا هذا الذي تراه أمامك!.

«أرقام...»
حنان بيروتي (الأردن)

تلتقي نظراتنا، أستغرب الوضع الذي نحن عليه، هو ممدد على حمالة معدنية مغطى بحرام مهترئ وأنا-على مايبدو- على حمالة أخرى، المكان بارد حقاً، سكون ثقيل، ثمة أقماط من قماش أبيض تلتف حول رأسي، تشد حنكي بإحكام، ويديّ مربوطتان معا، أما ساقي فقد ضمتا، ما هذا الوضع؟! لكني لا أحس بألم.. مجرد فراغ عميق، ينظر إلي بعيون نصف مفتوحة، أكتشف من صوته أنّه دون سن الرشد: هل أنا ميّت حقاً؟

سؤاله يباغتني مثل صعقة كهربائية، بلحظة واحدة يتكشّف لي ما يجري، تتوافد الصور إلى مخيلتي، مشوشة، ببطء شديد، ثمة طقوس غريبة مرت بي، لكني لم أستوعب إنها تعني الموت، أتذكر زوجي وهو يثور في وجهي قائلا: إنه لم يعد يحتمل حياة الفراغ واليأس بعد أن وجد نفسه بلا عمل، النهار أمامه ساعات من العبث واللاجدوى، يحس بأنّه بلا قيمة وبلا فائدة أشبه بحيوان شريد... كلام كثير يرشقه في وجهي صراخاً، يفتت السكينة في نفسي حتى بتّ أكره حياتي معه.

بعد أن سُرّح من وظيفته بحجة «إعادة الهيكلة»،، تغيّر تماما فلم يعد يخرج من البيت، لم يتقبّل العمل بأقل من مركزه الوظيفي السابق، تحول إلى ما يشبه امرأة نَفَسى في البيت، فرشته في الصالون ثابتة لا تتزحزح، قربها كاسات الشاي وفناجين القهوة المُختلطة مع بقايا التبغ ورائحة الكسل والعرق والتثاؤب والبيجاما التي لا يخلعها إلا ليرتدي أخرى، إضافة إلى صراخه كلما عدتُ من عملي، كلما اشتريتُ أغراض البيت يتهمني بأني أهينه مع إني لم أتعمّد أن أوجّه له كلمة جارحة. ضيقي وتعاستي من جلوسه وعدم بحثه عن عمل، المصاريف تزداد والبيت بطنه أجرب، وراتبي لم يعد يفي بطلبات الأولاد، قلتُ له بهدوء :إنّ عليه أن يتوقف عن لوم نفسه، وألا يتقاعس في إيجاد فرصة عمل، حتى وان كانت متواضعة، فالعمل عمل، صحيح أنه ظُلم بإقالته المفاجئة من وظيفته لكن الدّنيا كلّها ظلم، وهل نقوى أن نصلح الكون؟

استقبل كلامي الذي اقتطعتُه من قلبي وأعصابي باستهزاء، وأخذ يصفق ويقول: «شكراً..شكراً على هذه الخطبة البليغة بس ما تعيديها»!

أتذكر موقفَ جلوسي القلق في البيت ليلاً، استغربتُ تغيُّب زوجي غير المعتاد، وبعد أن نام الصغار بساعة تقريبا وجدته يدخل بهدوء، بدا مضطربا أحسستُ بأنه غير طبيعي، أذكر كيف نظر إلي بقسوة، قلت في نفسي إنه غاضب وأحسست بشيء صلب حاد يهوي على رأسي من الخلف بضربة قوية مباغتة. أصابني دوار أعقبه سائل ساخن غطى جبهتي وعينيّ مصحوبا بوجع حاد، ولم أعد أبصر شيئا والضربات تتوالى، وجع لا يشفى ولا يُنسى يتدافع معها، وجع حارق لم أذقه قبلا، شبكتُ يدي على رأسي في محاولة يائسة للدفاع أمام وحش بشري، سمعتُ تكسّر عظام أصابعي تحت ثقل ضرباته التي لم تتوقف والوجع ينهش أعماق رأسي.. بعدها صحوتُ على صوت أمي تزعق بهستيريا أمام جثتي في المستشفى، وأبي الذي لم أستطع إلى الآن أن أسامحه يحاول تهدئتها.

صوت رفيقي كأنما يحادث نفسه: أبي! لاأعرفه لكني أكرهه تماما!!

- تدري؟ عندما هربتُ بأولادي من نار زوجي إلى بيت أهلي قال لي أبي بالحرف الواحد:أهلا بك أنتِ ابنتنا، هؤلاء - وأشار إلى أولادي كأنّهم حشرات-ليسوا لنا إنهم أولاد الناس، أولاد ابن الـ«......».

يبدو رفيقي ساكناً ساكتاً كأنما ذهب في إغفاءة، آآآه رأسي يوجعني، ما هذه الكتل التي تملأ رأسي وشعري؟ ربما دمي وبقايا نزفي، لم يغسلوني بعد!

أذكر الوقت الذي سقطتُ فيه أتخبّط في دمائي، لحظات احتضار موجعة، أسمع صوته وهو يلهث ويتمتم:أقول...أقول للشرطة جريمة شرف!حتى آخذ حكما مخففا!

أسمع صوت رفيقي الصغير وهو يقول:

- لا أريد أن أموت الآن، أليس مبكرا جدا أن أموت؟! مازلتُ في المدرسة، من سيجلس مكاني في المقعد قبل الأخير؟!

- ماذا حدث لك حتى تموت الآن؟!

يتنهد: لا شيء ..كلّ ما أعيه أنني كنتُ في طريقي لشراء علبة لبن كبيرة لنتناولها مع (المقلوبة)، كان علي أن اقطع الشارع ،كنت أقف على الحافة عندما باغتتني سيارة مسرعة،كان آخر ما رأيته أضواء مقدمتها تقترب وأحسست بجسمي يطير ويعاود السقوط ويرتطم رأسي حافة الرصيف، لكني لم أمت مباشرة عبرتُ لحظات من الوجع المرعب في جسمي كله، رأيتُ السائق وهو يطالعني بخوف من نافذة سيارته قبل أن ينطلق بسرعة ويتركني، لا أعرف كم مضى علي من الوقت قبل أن تتوقف سيارة أخرى، صوت رجل يتحدث عني «إذا أخذناه للمستشفى يتهموننا بدهسه! شرطة وتحقيقات ووجع رأس، وشكله ما في منه فايدة! خلينا نتركه» وصوت امرأة وهو يبتعد: «حراااام...».

لم أستفق إلا وأنا في هذا المكان البارد معك، ربما تأتي أمي للبحث عني... ألا تبحث الأمهات عن أولادهن؟! معقول أن تنسى الأم ولدها؟!

صوت خطوات في الخارج، اذكّر نفسي أن في ثلاجة الموتى، أرقاما وجثثا تنتظر تمام مراسم الجنازة والدفن، وأنّ مكوثنا هنا لن يطول، صوتُ فتحِ الباب، أحدهم يسحب الحمالة التي أرقد فوقها، اكتشف أني عاجزة تماما عن الكلام وأن حديثنا مجرد سماع لأفكار بعضنا، أسمع صوتاً اعرفه لكني لا أستطيع تمييزه: سنغسلها ونجهّز جثمانها الآن، أمها مسكينة لا تستطيع أن تراها هكذا... الله يسامحها! صوت خشن لا أعرفه:وهذا الولد؟ لم يأتِ أحد لتسلمه أو للسؤال عنه، يُقال إنّه هارب من ميتم، قد يكون لقيطاً، من سيبحث عنه؟!

- أخرجني وأغلق الباب على رفيقي وكان صوت بكائه هو آخر ما سمعت...!.

«الساحر»
محمد العرفي (مصر)

في أحد الصباحات الصيفية وجدت الرجال والنساء والأطفال في حارتنا يهرولون إلى ساحة كبيرة، وهم يهمسون في فرح طفولي ويتحدثون عن الساحر الذي يزور قريتنا مرة كل عام، أو ينقطع عدة أعوام ثم يعود مؤدياً عروضه وحركاته التي تبهر الفلاحين والموظفين الذين لا يصدقون مايرونه. وجدت نفسي أهرول مشدودا بخيط من التشويق إلى الساحة التي تحلق الناس فيها. حلقة كبيرة متماسكة، اخترقتها بصعوبة؛ دسست رأسي بين الأرجل والأفخاذ والرءوس الصغيرة التي أشم فيها رائحة العرق والذهول. كان رجلا طويل القامة يرتدي قميصاً طويلاً مشجراً مرخياً أكمامه حتى منتصف أصابعه، وفي يديه حلقات معدنية يضربها فتتشابك ويشدها أمام الناس ويعرضها لهم، ثم يضمها ويخرجها من بعضها. حلقة...اثنان... ثالثة..ورابعة، تتشابك في لمح البصر ثم يفكها بنفس المهارة، والناس يصفقون بشدة ويصفرون، ثم تمر ابنته الصغيرة وفي يدها طبلة مكسورة وعليها خيوط من الدوبارة، تستجدي الناس أن يدفعوا مقابل هذا الفن المتقن أو السحر. لم تفلح في جمع شيء. الفلاحون بخلاء حذرون، والموظفون حريصون متوجسون، فتعود وتتكوم في جانب الحلقة. يؤدي حيلة أخرى يأمل من خلالها أن يهزوا جيوبهم، يرفع يده كمن ينوي الصلاة ويتكلم بصوت جهوري حاد ومكتوم: (جلا.. جلا.. إيدي فاضية)، ثم يخرج قطعة نقود معدنية من بين أصابعه، يصفق الناس بشدة، فيخرج الثانية والثالثة والرابعة، ثم يفرك أصابعه برشاقة وتتابع، فتختفي القطع المعدنية، يدور على الناس مثل الملدوغ، يتخير من بين الوجوه وجها يعلوه شارب كثيف، يلتقط منه قطعة نقود معدنية، فيضحك الناس بشدة. صوت قهقهاتهم يرعبني، ويضيف إلى المشهد مزيدا من الخوف الذي تملكني، والدهشة التي اقشعر لها بدني. تعود البنت الصغيرة مرة أخرى، تدور على نقاط الدائرة المتحلقة نقطة نقطة، عيونها كلها رجاء.. ولا يدفع أحداً، تقف أمامي طويلا، جميلة مع أن وجهها يبدو مثل جدار متآكل وشعرها الأشقر الذي حرقته الشمس يجعلها مثل جنِّية، أختبئ خلف أحد الأفخاذ المنتصبة أمامي، وأعاود النظر لأجد الساحر يجرها من شعرها وهو يقول بضيق: «آخر ما عندي.. سأقف على هذه البنت، أقف على بطنها، حتى تطلع مصارينها وتموت.. ثم أحييها من جديد».

بدأ الناس يتذمرون وهو يخلع ملابس ابنته، رفعها إلى أعلى وهي ممتدة على راحتيه، دار بها على الجميع، ثم نامت على ظهرها، مكشوف نصفها العلوي، بطنها تبدو خاوية، هابطة مثل حفرة صغيرة وعظام صدرها بارزة.

(إيه رأيكم؟) يصفعهم بالسؤال، ويرعبني..

انصرف بعض الحضور، تقريبا معظم الرجال، وبقي الأطفال والنساء. داس بقدمه الغليظة على بطنها، تحسسها بمقدمة حذائه في البداية، وهي لا تنطق ولا تلوي على شيء، ثم صعد فوق بطنها بكل وزنه، فبدا بطنها مثل قطعة الكاوتش المرنة، تحت قدميه. صرخت النساء وبكى بعض الأطفال، وبقيت متسمرا في مكاني.

في لمح البصر ومثل الصاعقة هجمت عليه امرأة عجوز ونطحته في بطنه بقوة مثل ثور محترف، فوقع على مؤخرته وظهره، وتطايرت بعض النقود المعدنية من جيبه وكمه. نهرته بشدة واحتضنت البنت التي بدت مثل خرقة بالية. شرع في بكاء شديد وأخذ يغمغم بكلمات لم أفهم منها سوى:

يا أولاد... !.

وحدة قاتلة
عبد العزيز صالح ضيف الله (تونس)

انفتح بابُها ذلك الصباح.

حملتِ السلة الصغيرة بيد وبالأخرى اتكأت على عصاها ودرجت في الزّقاق. الأبواب مقفلة، والحي ساكن ولا يتطلب الأمر أكثر من لحظات حتى تقوم قيامتُه فاليوم الأحد، وعندما يستيقظ الأطفالُ، سوف تنفجر الجدران والنوافذ بالضجّة. السلة فارغة، عليها إذن أن تقصد دكان الخضّار فالعطّار، ثم تُعرّج على بائع الحليب، وبهذا تنتهي الجولة.

اليومَ مثل كلَّ يوم تقريباً، تتجول بين هذه الأماكن، يوم الجمعة فقط تخالف العادة فتقصد الجبّانة حيث يرقد إبنَاها وزوجُها. مضى زمن على موتهم جميعا، لكل واحد قصته، ولكنهم ينامون متجاورين. ستعود بعد قليل كي تُعد أكلة معتبرة، لذا فالمرور على بائع السمك ضروريٌّ. الكسكسي بالسمك، وفي بعض الآحاد تعدّ كسكسا باللحم. لِمَ لا تشتري باقة زهور أيضا؟ هذا يناسبه.

استمرّت على حالها تلك، تاهت في الأزقة؛ وامتلأت سلّتها ولم يبق إلا الزّهر واضطربت حالُها واشتدّ بَلْبالُها إذ وجدت نفسها على مسافة من بائع الزهور. كم ستسير حتى تصل إليه ثم تعود منه إلى البيت.

* * *

جلست ترتاح على عتبة أحد المنازل ومدت عصاها بين ساقيها الناحلتين وبُلغتها الصفراء.

منذ كم سنة تلبس هذه البلغة؟ منذ سافر الحاج إلى برّ نفزاوة وأتاها بها من هناك وأتى أيضا بالدَّقلة. ذلك التمر اللذيذ المذاق ولكن أحلى منه حلاوة المعاشرة. «رحم الله الحاج ورحم الابنين».

وماذا بقي الآن؟

«لم يبق غيرُه، نور العين ونوارة القلب. يزورها يوم الأحد من كل أسبوع، ويحدث في البيت ضجّة وكثيرا ما كسر آنية أو شوّه بساطا بالشاي أو القهوة. واليومَ يأتي فيقرأ قصصا أو يحكي عن نتائجه المدرسيّة، يحبّ أن يسمع الخرافات ويظلّ يداعب وجهي بيديْه الصغِيرتين وأحيانا ينام مُتوسِّدا ركْبتِي. يدٌ تحرّك حباتِ المسبحةِ ويد تداعب شعْره اللطيفَ وعند انتهاء القيلولة نظل في حوار أليف. يَجِب أنْ أقصد بائع الزهور الآن وإلا تأخّرتُ عن طبخ غدائه.

«يا أولياء الله الصالحين».

لم تشتر العجوز زهورا ولم تطبخ كسكساً ولم تعد إلى البيت. كانت تتكئ إلى جذع شجرة في ملجأ للعجّز؛ إنها فقط كانت تحلم أنّ ابنها الثانيَ قد خلّف لها حفيداً يزورها ولو مرّة واحدة في الأسبوع كي يوقظ وحدتها القاتلة.

كتاب الشظايا
ياسين أبوالهيتم - المغرب

«الصلح خير»

أصرّت بعنف على الطلاق فألجأته إلى أن يعتضد بوالدها، فقد كان يعي جيداً قدر الاحترام والتقدير الذي تخصّ به هذا الأب الشيخ. وكان يستبعد حلاوة العيش من دونها فجعل يحني رأسه كلما هبت عاصفة بينهما. حقاًّ سبق وتمايل بهما مركب حياتهما مراراً، بيد أن الرياح لم تشتدّ كما هي الحال اليوم.

في ذات الوقت الذي ولج فيه الزوج والأب البيت، خرجت من الحمام. اندفعت في جنون واختبأت خلف زوجها. ابتسم الأب وقال:

- من ذا يصدق أني جئت لأصلح ذات بينكما؟!..

«عرفت الفتاة..»

دق الجرس إيذاناً بانتهاء مدة الاستراحة فعدنا إلى الفصل كارهين. دخل علينا الأستاذ مُعبساً فوضع حداًّ لجلبةٍ ضاقت بها الجدران ثم أقبل نحوي، ثم وضع على طاولتي كتاباً وانصرف دون أن ينبس بكلمة. تصفحتُ الكتاب وقلبته في اندهاش. وباختصار، فطن الأستاذ لما أنا فيه من الحيرة فقال:

- طلبت مني فتاة أن أسلمك إياه..

ضجّ الجميع بالضحك، وضحك الأستاذ وقد امتقع وجهي من الخجل.

من سوء حظي أن الفتاة كانت تعني أختي كما تبين آجلاً. ومن الطبيعي أن يسألني كل زملائي أكثر من مرة عن الفتاة، بينما أجيب قائلا إنها فتاة غامضة.. ووجودها في حياتي أمر غامض أيضا.

«حواء والتفاح»

انتدب حديثاً للعمل في قسم الشرطة. ولم تكن رتابة العمل قد تسللت إلى نفسه فظل يدهش حيال أمور كثيرة، لذلك رقّ لحال شابة حسناء في محبسها الانفرادي. ظلت متكورةً على نفسها منذ إحضارها. وهي تلوذ بصمت عميق، ومع ذلك استشعر من لمحاتها أنها تريد أن تفضي إليه ببعض الكلام بيد أن أمراً يردها. انتظر، وتلوى طويلا قبل أن يسألها:

- أنى لهذه الزنزانة أن تسعد بضيافة فتاة مثلك؟

- ...

- الصمت لن يفيد في شيء. تكلمي حتى أقدر على مساعدتك.

- ...

ومشى خطوتين في الدهليز فعاد يسألها:

- سأنصرف الآن. هل ترغبين في شيء أجيء به يوم غدٍ لك؟

رفعت رأسها في تثاقل، وقالت شاكرة:

- أقدر لطفك معي. فقط أريدك أن تأتيني بتفاحة، إن أمكن لك..

وفي اليوم التالي، سلمها تفاحتين بحذر شديد. عوقب في نفس اليوم بلا هوادة، وكاد أن يعزل من منصبه. أما الفتاة فقد اختفت مثلما تذوب ذرة الملح في الماء. فهمَ الدرس، وفهم طبيعة عمله. فطفق يؤدي واجبه على أفضل وجه.

 

 

علي المقري