الاكتئاب وباء خفي يهدد النفس

الاكتئاب وباء خفي يهدد النفس

تعتبر الأعراض السريرية للاكتئاب واحدة من أكثر الشكاوى شيوعاً في العيادات الطبية العامة أو المتخصصة بالطب النفسي، وتكاد تكون السبب الذي تختفي خلفه عشرات الأعراض والشكاوى البدنية المختلفة كالصداع وأوجاع المعدة والأمعاء وفي أحيان كثيرة نوبات ضيق وشعور بالاختناق في الصدر تكاد تكون مشابهة للذبحة الصدرية وغالباً ما تسبقها فترات متقطعة أو متواصلة من الأرق وضعف الشهية للطعام مع العزوف عن مظاهر النشاط والاهتمامات أيا كانت الأسباب.

ساد الاعتقاد أن للعوامل الوراثية دوراً أساسياً في تشكيل الكآبة المرضية الحادة، إذ لاحظت البحوث ظهورها في أقرباء الدرجة الأولى للمريض أو عبر الدراسات، التي أجريت على التوائم المتطابقة، وهذه الفرضية بالطبع لم تتوضح بشكل تناسخ وراثي عبر الجينات، كما هو الحال في الأمراض المنقولة وراثياً، وإنما تندرج تحت باب الاستعداد الوراثي للإصابة، في حين أن للعوامل المحيطة دوراً كبيراً في تشكيل الأعراض المرضية واشتدادها. ويعتقد أن الحرمان العاطفي في الطفولة المبكرة من أحد الأبوين أو كليهما بالوفاة أو الطلاق يمهد الطريق لظهور الاكتئاب مستقبلاً، كما أن لظروف الحياة الصعبة كاكتظاظ المسكن وضيق ذات اليد وأعباء تنشئة عدة أطفال تأثيراً سلبياً في معظم الأحيان على مقاومة هذه الأعراض والشفاء منها، على الرغم من العلاج الطبي بالعقاقير المناسبة.

العوامل الديموجرافية

  • الجنس

تصاب النساء بأعراض الاكتئاب بدرجة أكبر من الرجال وخصوصاً في مرحلة سن اليأس أو ما قبلها، حيث ساد الاعتقاد بتأثير انقطاع الطمث أو اضطرابه، مما يؤدي إلى نقص واختلال هرمون الأستروجين، ولكن هذه النظرية بالطبع لا تعطي تفسيراً لعدم إصابة كل النساء في هذه المرحلة العمرية بالأعراض نفسها وبالشدة نفسها.

  • العمر

تزداد نسبة الإصابه بالكآبة الشديدة والمزمنة في الأعمار المتوسطة والمتقدمة بدءاً من سن الخمسين تقريباً ويندر ظهورها في الشباب المبكر أو تكون على الأغلب قصيرة الأمد أو كرد فعل لشدة خارجية أو ضغط نفسي.

تترافق الكآبة الشديدة والمزمنة مع فقدان الحماسة للحياة، وقد تصل إلى حد اشتهاء الموت أو التفكير الجدي بالانتحار، وهنا تكمن الخطورة حين تترجم هذه الرغبة إلى فعل مفض إلى الموت أو محاولة فاشلة قد تؤدي إلى تفاقم حدة المرض وإضافة تعقيدات جديدة على وضع المريض, وقد بينت إحدى الدراسات العلمية أن معدل الوفيات بالانتحار في مرض الكآبة يماثل معدل الوفيات نتيجة الذبحة الصدرية للمرضى المصابين بأمراض القلب، مما يدل على أهمية هذا الموضوع الذي قد يغيب عن بال عائلة المريض وطبيبه المعالج.

  • الخلفية العائلية

يعني وجود عائلة متفهمة ومساندة الكثير للمريض، حيث يمثل الدعم النفسي عاملاً مهماً في التعجيل بالشفاء ورفع درجة المناعة النفسية للإصابة بها مستقبلاً، كما يلجأ الفرد الطبيعي إلى أقرب الناس إليه عند حدوث طارئ، إذ إن المصاب بالكآبة يشعر بحاجة ملحة إلى تفهّم المحيطين به وإسنادهم له في رحله العلاج الدوائي.

  • الوضع الاقتصادي والاجتماعي

قد لا يرتبط الوضع الاقتصادي بالكآبة بشكل مباشر كمسبب رئيسي، لكنه في النهايه يعمل كدعامة للتحسن إذا كان المريض لا يشكو من ضائقة اقتصادية، أو على العكس من ذلك، إذ قد يؤدي تدهور الحالة المادية إلى الإسهام في نشوئها، ومن ثم التأخير في العلاج بسبب العجز المادي وإعطاء الأولويات للأمراض البدنية، من ناحية مراجعة الأطباء وتناول الأدوية.

الظرف الاجتماعي ويقصد به غالباً وجود شريك للحياة من عدمه، وليس بالضرورة أن يكون الفرد غير المتزوج هو أكثر عرضة، إذ قد يكون في هذه الحالة من المحظوظين بامتلاك شبكة معارف جديرين بالثقة يكونون عوناً له في هذه المحنة بدرجة أكبر من علاقة زوجية باهتة قد لا توفر أي سند معنوي، بل قد تكون أحياناً معول هدم لثقة المريض بنفسه واعتزازه بها, والمهم هنا هو الطريقة التي تشكل بها العلاقات الإنسانية الحميمة السور المعنوي الذي يقي الفرد من الانهيار تحت تأثير أعراض الاكتئاب الحادة.

  • إساءة استعمال الكحول والعقاقير

يكون الأفراد من ذوي التاريخ المرضي للإدمان الكحولي أو إساءة استعمال العقاقير المهدئة غالباً أكثر استعداداً للإصابة بالأعراض الاكتئابية، والتي عادة ما تتلازم مع أعراض القلق النفسي ويميل بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن المشاعر الدفينة بالحزن وقلة اعتبار الذات، قد تكون هي الباعث الأساسي للجوء الفرد إلى معاقرة الكحول أو الإسراف في تعاطي الأدوية ذات التأثير النفسي دون الرجوع لوصفة طبية. فقد دلت الكثير من الدراسات على وجود القلق النفسي المزمن، من خلال التحليل النفسي لشخصية أعداد كبيرة من المدمنين على الكحول والعقاقير كما تؤدي هذه الآفة الخطيرة بدورها إلى تجذّر واستفحال الكآبة المرضية والزيادة من صعوبة العلاج نظراً لوجود مضاعفات الإدمان النفسي والعضوية والعصبية.

  • الإصابة بعلة باطنية مزمنة

يشكل وجود أمراض بدنية وباطنية مزمنة أو مستعصية أحد مسببات الإصابة بالكآبة المرضية، أما بطريقة مباشرة كجزء من المضاعفات الفسيولوجية والكيميائية للمرض الباطني ذاته، أو كإحدى العواقب النفسية لشعور المريض باستحالة شفائه الكلي واضطراره للاعتماد على الإشراف الطبي طوال حياته مما يفضي إلى إحساسه بالإحباط وخروجه من خانة الأسوياء والأصحاء من البشر, وتبرز هنا الحاجة الماسة إلى تغيير أنماط الحياة المعتادة وتقوية القابلية على التكيف لمواجهة مصاعب رحلة العلاج.

  • حدوث الطوارئ والأزمات

كما جاء في تعريف المصادر العلمية النفسية لها بحوادث الحياة والمقصود هو الأحداث المفاجئة ذات الطابع الكارثي والتي تتسبب بإشاعة ما يعرف بانفعال (الصدمة) والتي تغير مجرى حياة الفرد أو تؤثر به سلبياً بشكل كبير وفي القائمة المعدة علمياً لهذا الغرض تتصدّر الوفيات وبالأخص المفاجئة لأحد أفراد العائلة كأحد أهم العوامل المفضية إلى حدوث الاكتئاب المرضي كمضاعفات لتفاعل الحزن. وتأتي بقية المؤثرات بالتسلسل حسب شدتها، مثل تلقي نبأ الإصابة بمرض ميئوس منه للفرد أو أحد المقرّبين أو التعرض لمشاكل قانونية ومادية مدمرة كالسجن والطرد من العمل والاضطهاد والإذلال بكل أنواعه, هنا المحور الرئيس للشعور بالكمد والإحباط، هو الإحساس بالوحشة والفراغ الذي يخلفه (الفقدان) مهما كانت درجته, وتخضع هذه الأحاسيس إلى عملية التأقلم الواعية والتدريجية من قبل المريض علاوة على العامل التلطيفي لمرور الزمن في بناء السلوان.

كما توجد هناك عوامل محيطية عدة أخرى تساهم في الاستعداد للإصابة بالاكتئاب ولا يمكن اعتبارها من ضمن البواعث المباشرة أو السريرية الثابتة، ولكن وجودها في محيط الفرد يعد بمنزلة مسامير صغيرة تدق في نعش الصحة النفسية، ومدى المناعة والاستقرار الذي يمتلكه، وكما هو الحال في الصحة البدنية، حيث يؤدي ضعف الجهاز المناعي للإنسان إلى اختراق شتى الأوبئة والأمراض لجسده, تلعب هذه العوامل الآتي ذكرها دوراً في تفتيت المناعة النفسية ومنها بإيجاز:

اليتم المبكر والتفكك العائلي عند الطفولة بوفاة أحد الأبوين أو كلاهما أو بالهجر والطلاق، مما قد يهيئ الطفل للوقوع فريسة للاكتئاب مستقبلاً، نظراً لانعدام الإحساس بالأمان العاطفي الذي توفره الأم غالباً.

وجود عوامل بيئية محبطة كانعدام السكن الملائم الذي يوفر في حدوده الدنيا المحيط الأمني الضروري للراحة والاستقرار النفسي، فاكتظاظ البيت بأهله يزيل حاجة الإنسان الفطرية لمساحة تخصه لوحده عدا عما يخلفه هذا من مشاكل اجتماعية وتصادم في ظروف العيش المشترك.

في حالة ربة البيت المرهقة بأعباء المنزل والمحرومة من سبل الرفاهية, يشكل وجود أطفال صغار بعدد يزيد على الأربعة، عاملاً قد يساهم في الاستعداد للوقوع في براثن الاكتئاب مستقبلاً وبالأخص عند حدوث أي صدمة أو تغيير مؤثر في مجريات الحياة اليومية.

ضعف العلاقة الزوجية حينما يكون شريك الحياة موجوداً بشكل جسدي فقط ولا يمثل أي سند للآخر من الناحية العاطفية، ويعتبر ضمنياً بمنزلة الغائب عند الشعور بالحاجة إلى دعم في مجابهة مصاعب الحياة المتكررة.

المجابهة المتواصلة للمصاعب اليومية المتأتية من الحرمان من ضروريات الحياة اليومية كالخدمات الأساسية أو الشعور المستمر بالإذلال من قبل رب العمل - مثلا - وصعوبة العثور على الرزق اليسير الضروري لاستمرار العيش بالحدود الدنيا.

الشعور بضعف الأمان المادي المستقبلي في تيسير سبل العيش الكريم عند المرض والشيخوخه.

دور الطبيب النفسي

يتردد الكثير من الناس في اللجوء إلى عيادة الطب النفسي مهما اشتدت معاناتهم بسبب تلون هذا الاختصاص بالوصمة الاجتماعية المتوارثة لدى الناس حول الطب النفسي المعني بمعالجة المعتوهين و المختلين عقلياً, قد تأتي المشورة من أحد الأطباء في الاختصاصات الأخرى كطبيب العائلة أو الطبيب الاختصاصي بالأمراض الباطنية.

وعلى الرغم من تركيز جهود الباحثين والعلماء النفسانيين على دراسة أسباب الاكتئاب لعقود خلت, مازال هناك الكثير مما ستكشفه لنا الأيام المقبلة, وقد نفاجأ ذات يوم بمن يدحض نظريات من سبقه ويخرج علينا بعوامل عضوية أو بيولوجية بحتة، كما دلنا التاريخ من قبل عن الكثير من العلل والأمراض التي كانت أسبابها في طي المجهول، وبالتالي كانت العلاجات فيها تخضع للتجارب والمعتقدات الموروثة لدى البشر.

 

 

 

مها سليمان يونس