المادة المظلمة أسرار الكون التي لم تُكشف بعد

المادة المظلمة أسرار الكون التي لم تُكشف بعد

هل خطر ببالك أن ما تراه من نجوم في السماء، بل وفي جميع مجرات الكون ما هي إلا جزء من مادة الكون وما خفي عنك أكثر بكثير مما تراه العين؟!!. السبب الذي لا يمكننا من رؤية كل ما في الكون من مادة ليس بسبب عجز العين المجردة عن الإبصار في أعماق الكون ولكن لأن المخفي لايمكن رؤيته مهما استخدمنا من تلسكوبات ضخمة! إن المخفي عن أعيننا هو الذي يخفي عنا بعضاً من أسرار الكون وما أكثرها! وقد سمى العلماء المخفي بالمادة المظلمة، فلماذا أطلقوا عليها هذه التسمية؟ وما حقيقة هذه المادة المظلمة؟!

قام كل من زويكي وسميث Zwicky and Smith في سنة 1933 برصد مجموعة من المجرات يصل عددها إلى حوالي 1000 مجرة على بُعد 400 مليون سنة ضوئية تقريبا «السنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة وتساوي 10 تريليونات كيلومتر»! وبالمناسبة هذه المسافة في الكون لا تعتبر مسافة بعيدة!

لاحظ العالمان أن المجرات تتحرك بسرعة أكبر من المتوقع من عشرة إلى مائة ضعف! وبتقدير كتلة هذا التجمع من المجرات كانت المفاجأة أن الكتلة التي حسباها كانت أكثر ب 400 ضعف مما كان متوقعاً! بالطبع لم يصدقهما أحد! ولم يعط العلماء الكثير من الأهمية لهذا البحث.

التلسكوب الفضائي دبليو ماب WMAP يكشف عن مكونات الكون بعد مرور سنوات من بحث فريتز زويكي كثرت الأبحاث حول موضوع المادة المظلمة وأنها من مكونات الكون، وأصبحت المادة المظلمة حقيقة يتم تداولها بين المختصين. في سنة 2001 أُطلق تلسكوب فضائي باسم «دبليو ماب WMAP » بهدف دراسة الكون وبعد تحليل للبيانات تمكن العلماء في سنة 2006 من تحديد مكونات الكون تحديدا أدق مما سبق.

طبيعة المادة المظلمة

سميت هذه المادة بالمادة المظلمة بسبب كونها لا تشع ولا تعكس أي ضوء أو حرارة، أما السؤال عن طبيعتها فقد حيّر العلماء حتى الآن ومازالت الأبحاث مستمرة للكشف عن سر هذه المادة.

يقول البعض إن تكون المادة المظلمة مادة غير عادية «مادة غير التي نعرفها ولم تكُشف بعد عن طبيعتها» أو مادة عادية ولكن تباينت الآراء في تحديدها إلى رأيين.

من أشهر المرشحين للمادة المظلمة الثقوب السوداء ومن المحتمل أن تكون النجوم التي لاتُشع بسبب عدم وجود عملية التفاعل النووي مثل النجوم القزمة البنية «المشتري مثال على ذلك» أما النوع المحتمل الآخر فهو الغبار أو الغازات التي لا تُرى والتي تُوصف بالمادة ما بين المجرات ويتم تصنيف هذا الاتجاه تحت مسمى MACHOs Massive Astronomical Compact Halo Objects وتختصر ب MACHOs فحسب هذه النظرية فإن مكونات المادة المظلمة هي طبيعة المادة العادية نفسها أي ترجع في جذورها إلى كل من البروتون والإلكترون والنيوترون، أي من العناصر التي نعرفها.

ويرى علماء الفيزياء أن المادة المظلمة هي جسيمات أولية ذات كتل صغيرة جداً « يُعتبر الإلكترون أحد الجسيمات الأولية مما يعطينا فكرة عن الكتل التي يتكلم عنها الفيزيائيون، طبعاً لا يعني هذا أن المادة المظلمة هي الإلكترونات». ومن المحتمل أن تكون الجسيمات موجودة بشكل انفرادي وتم تصنيفها تحت مسمى WIMPsWeakly Interacting Massive Particles وأحد المرشحين لهذه الجسيمات، هو جسيم النيوترينو، وهو من الجسيمات التي تظهر في التفاعلات النووية. ولاتزال التفسيرات مستمرة، ولكن لاجواب حاسماً ونهائياً نظرا لصعوبة الكشف عن هذه الجسيمات.

البحث عن المادة المظلمة في السماء

التقط كل من تلسكوب هابل وتلسكوب شندرا صورا للتصادم بين مجموعات المجرات، ومن هذا التصادم حصل العلماء على الدليل بوجود المادة المظلمة، كيف أمكن ذلك؟ يقول العلماء إنه نتيجة للتصادم بين المجرات انفصلت المادة المظلمة «كما في الصورة اللون الأزرق» عن المادة العادية. على هذا الأساس تم استخدام تلسكوب هابل لعمل خريطة لتوزيع المادة المظلمة في الكون مستخدمين تقنية تعتمد على ظاهرة تحدب الضوء عند مروره بالقرب من جسم. تمكن تلسكوب شندرا وبدقة عالية من تحديد أماكن المادة العادية وتبين أن أكثرها على شكل غازات «اللون الوردي بالصورة».

البحث عن المادة المظلمة في أعماق الأرض!!

يقدر العلماء عدد النيوترينوات التي تمر في كل ثانية على الكرة الأرضية بـ 60 تريليون تريليون تريليون جسيم، وبسرعة 30 ألف كم/ث من غير أن نحس بها!. من هذا العدد الكبير يتفاعل عدد قليل نسبيا من هذه الجسيمات. ليست المشكلة في قلة عدد الجسيمات التي تتفاعل، ولكن هناك صعوبات مثل صعوبة التمييز بين التصادم الناشيء من المادة المظلمة! والتصادمات الناتجة من جسيمات أخرى سواء الموجودة في جو كوكب الأرض «الأشعة الكونية» أو التصادم الناتج من العناصر المشعة من الأرض.

كما أن هناك صعوبات في الكشف عن جسيمات WIMP إذ تحتاج إلى مجس، حساس جدا للطاقة الناتجة من تصادم الجسيم مع المجس ولكن المشكلة تكمن أن في الطبيعة جسيمات كثيرة تؤدي إلى تصادمها مع المادة في الكون ومنها على الأرض، وتصل نسبة التصادم إلى مليون تصادم! فكيف يمكن فرز التصادم الناتج من المادة المظلمة عن غيرها من الأجسام التي سببت هذا التصادم. التصادمات الأخرى ناتجة من الأشعة الكونية وأشعة جاما والنترونات الناتجة من المواد المشعة في الطبيعة والموجودة في أماكن مختلفة والصعوبة هنا أن أي تصادم من المادة المظلمة يضيع وسط كل هذه التصادمات من المصادر المختلفة، فكيف يمكن التغلب على هذه المشكلة؟

بداية يجب حماية المجس من الجسيمات غير المرغوب فيها، لذلك وضعت المجسات في 200 طن من الماء النقي جدا خالية من أي مادة مشعة وعلى عمق 1100 متر تفاديا لوصول الجسيمات العادية من الغلاف الجوي والمواد المشعة من الأرض، ويتم اختيار المناجم المهجورة لهذا الغرض، وتوجد عدة مناجم قديمة حول العالم تجرى فيها مثل هذه التجارب. لذلك يسعى العلماء الآن لتصميم مجسات أكثر قدرة على أن تكون محصنة من الجسيمات الأخرى التي قد تأتي من الفضاء أو من الأرض. كذلك المختبر الذي يجري فيه العمل على كشف الويمب WIMP يجب أن يكون في أعماق الأرض تفاديا لتداخل الأشعة الكونية «1 كيلومتر من الصخور يخفض كمية الأشعة الكونية بما يعادل مليون مرة» بالإضافة إلى حماية المجس باستخدام طبقات من الرصاص. مع زيادة الأدلة على وجود المادة المظلمة، هناك احتمال أن تكون فرصة الكشف عنها بطريقة مباشرة تحت الأرض! فالتجارب التي تقام في أعماق تحت سطح الأرض تتطور أكثر وأكثر في كل سنة بسبب زيادة حساسية الأجهزة الكاشفة للجسيمات.

العلاقة بين المادة المظلمة والمجرات:

يعتقد العلماء أن للمادة المظلمة دوراً مهماً في تشكيل وتوزيع المجرات، من الممكن أن تكون البذور الأولية التي تتشكل عليها المجرات. فهي كما قال أحد العلماء مثل الهيكل العظمي التي تُمسك المادة العادية بالشكل الذي نراه! لقد كشفت الخارطة التي رسمها العلماء لتوزيع المادة المظلمة أن الفضاء الذي يحوي كميات كبيرة من المادة العادية بها كميات كبيرة من المادة المظلمة، وهذا بالضبط ما يتوقعه الفيزيائيون إذا كان للمادة المظلمة دور في إعطاء شكل الكون. هذه الخارطة متفقة كثيرا مع النظريات الموجودة بالنسبة لتشكيل تركيبة الكون، وهو ما أكّده Richard Massey ريتشارد ميسي رئيس الباحثين في معهد التكنولوجيا في كليفورنيا. كذلك هناك مناطق توجد بها كميات كبيرة من المادة المظلمة ومع ذلك لا يوجد في هذه المناطق مادة عادية! لقد رسم العلماء أكبر خريطة تفصيلية عن توزيع المادة المظلمة التي تملأ ما بين المجرات في الكون وذلك باستعمال تلسكوب هابل في منطقة تبعد 2.6 بليون سنة ضوئية من الأرض! الضوء الصادر من 60 ألف مجرة انحدب قبل أن يصل إلى تلسكوب هابل والسبب تأثير جاذبية المادة المظلمة. لقد استنتج العلماء بعد أن انتهوا من عمل أول خارطة لتوزيع المادة المظلمة في الكون أن ما بين المجرات ومكونات الكون الأخرى فتائل أو خيوطاً من المادة المظلمة تشبه نسيج العنكبوت.

دور المادة المظلمة في الكون وعلاقته بوجودنا!

إن الذي حافظ على الشمس وغيرها من النجوم ضمن مجرتنا هي المادة المظلمة التي لولاها لما صار لنا وجود في هذا الكون، لذلك يمكن القول إن المادة المظلمة تشبه عمل الصمغ الذي خلق التماسك في المجرة وما بين المجرات.

الأمر الثاني المهم بالنسبة لوجودنا أن المادة المظلمة لعبت دوراً خلال المراحل الأولية لنشأة الكون، فقد كانت كنقاط لتجميع المادة العادية! أي أنه من دون المادة المظلمة تتفكك مجرتنا! ولم يكن بالإمكان تطور شمسنا إلى الوضع الذي نراها عليه الآن، ولما كان لنا وجود الآن! إن الكشف عن سر المادة المظلمة مهم لمعرفتنا للكون الذي نعيش فيه! وهذه بلا شك نظرة عميقة للكون من حولنا. إن فهم الكون لايتم عبر معرفة المادة العادية لأن المادة العادية هي الأقلية في الكون «تشكل حوالي 4% من الكون».

المادة المظلمة والحياة

بعد كل هذه السنين التي مرت من فلاسفة اليونان مرورا بعلماء المسلمين ووصولا إلى الحضارة الحديثة، تصور الإنسان أنه عرف المادة، وإذا به يفاجأ بأن الذي درسه طوال هذه الفترة لا يُشكل إلا جزءاً يسيراً من المادة في الكون! وأن أمامه خطوات كبيرة يجب أن يخطوها ليعرف ما يحيط به من أسرار! إن هذا درس لنا نحن البشر ألا نعتمد فقط على الظاهر لنا ففي أعماق هذا الكون سر الوجود وما لا نراه لا يمكن أن ننكره فنحن لا نرى الحياة ما بعد الموت فلا يمكن أن ننكره وغيرها من الأمور الكثيرة والتي إن فهمنا المخفي عنا فهمنا الوجود أكثر! ليتعلم أحدنا ألا ينكر الحقائق بزعم أنه لا يراها! وفي المقابل لا ينخدع بقبول كل رأي من غير دليل! لذلك يجب أن نشجع الأسلوب العلمي وننشر الثقافة العلمية في مجتمعاتنا وأن نُرجع للعقل دوره في حياتنا!! إن قيمة الأبحاث العلمية أنها تفتح الآفاق أمام العقل الإنساني، فمع كل كشف تُفتح آفاق جديدة لاكتشافات جديدة.

  • مكونات الكون: من نتائج دبليو ماب WMAP 4 % مادة عادية منها 0.5% نجوم! و 3.5 % مادة عادية خارج النجوم مثل غاز الهيدروجين وغاز الهيليوم المنتشرة في الفضاء 23 - 25 % مادة مظلمة (مجهولة إلى الآن) 71 - 73 % طاقة مظلمة (لا يُعرف عنها الكثير)
  • وضع المجرة من المادة المظلمة كل مجرة محاطة بهالة من المادة المظلمة والتي يمكن الكشف عنها بسبب تأثير جاذبيتها. هذه الهالة التي لا يمكن رؤيتها هي أكبر وأكثر كروية من المجرة نفسها والتي تقع في مركز المادة المظلمة والرسمة التالية توضح هذه العلاقة بين المجرة والمادة المظلمة.

 

 

 

علي حسين عبدالله






فريتز زيفسكي، العالم الفلكي





مكونات الكون





المجرة محتضنة داخل هالة من المادة المظلمة المتكونة من جسيمات WIMP





التلسكوب الفضائي wmap





نتيجة للتصادم بين المجرات انفصلت المادة المظلمة





المادة المظلمة على شكل خيوط تشبه خيوط النسيج