شلبية إبراهيم.. مزيج العفوية والصدق

شلبية إبراهيم.. مزيج العفوية والصدق

ترسم تجربة الفنانة التشكيلية شلبية إبراهيم، علامة بارزة في التشكيل العربي المعاصر عامة، وتتقدم التجارب الأنثوية العربية خاصة، بما تنفرد به من خصائص ومقومات تشكيلية وتعبيرية، فهي نسيج متوافق ولافت، من بساطة وصدق الموضوع، وبهاء وعفوية المعالجة.

حافظت الفنانة في تجربتها على هذه الخصائص المهمة والضرورية، والتي صارت إحدى القرائن الأساسية لفنون عصرنا المحكوم بآلية مادية شرسة، طاولت جسد الإنسان وروحه بالعطب، وبدأت تقضم فسحة الأمل التي تقدم له أسبابا دائمة للحياة وحب الحياة.

نوّعت الفنانة إبراهيم في تقانات أعمالها، وتوزعتها اهتمامات واتجاهات عدة، خلال مسيرتها الفنية الطويلة، لكنها لم تبتعد عن الجذور الأولى لتجربتها، ولا تخلت عن مرجعياتها الرئيسة القائمة على صدق الموضوع، وعفوية المعالجة.

وُلدت شلبية إبراهيم عام 1944 في قرية «جزيّ» التابعة لمركز «منوف» في جمهورية مصر العربية. بدأت رحلتها الأولى مع الرسم، مطالع ستينيات القرن الماضي، بتأثير جملة من الدوافع والمحرضات أهمها وأبرزها: الموهبة الحقيقية والأصيلة التي امتلكتها وأخذت طريقها إلى التحقق، منذ تعرّفها إلى زوجها الفنان التشكيلي السوري «نذير نبعة» الذي كان يدرس الرسم والتصوير في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة «1959 - 1964» حيث حرّضها انكبابه على اجتراح الفن، على تقليده، بعد أن تحرّكت في داخلها، كوامن الموهبة، وكانت البداية مع تقنية الألوان المائية.

تعلّمت شلبية الفن بنفسها، ومارسته بكثير من الرغبة والصدق والتلقائية والحريّة والبراءة، مكتفية بتصعيد معارفها وخبراتها، بشكل ذاتي، عن طريق الانكباب المجتهد والدءوب، على إنتاج الرسمة واللوحة، وعرض ما تنجزه على زوجها الذي يمتلك شخصية فنيّة مغايرة لشخصيتها، فهو أكاديمي متمرّس بإنتاج الفن وتدريسه «عمل أستاذا لمادة الرسم والتصوير في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، بعد أن تابع تخصصه العالي في هذا المجال في باريس» ويولي منجزه البصري، دراسة مسهبة، ويُدرك تماماً، كل خطوة يخطوها، في هذا العالم الرحب، وتتملكه شهية مفتوحة على البحث والتجريب، قادت تجربته الفنية، من أقصى الواقعيّة إلى أقصى التجريدية، أما تجربة شلبية، فقد حافظت على مقوماتها الأساسية التي نهضت عليها، وظلت لصيقة ببيئة التكوّن الأول، على ضفاف النيل وحكاياه وأساطيره، وعالم الريف المصري البسيط والنقي، وبراءة وصدق التعبير، عن هذا العالم ومفرداته وحكاياه.

اللافت أنه بالرغم من أهمية تجربة الفنانة شلبية إبراهيم وغناها، لم تلقَ ما تستحق من الدراسة والتحليل والاهتمام من قبل النقاد والفنانين التشكيليين، وإنما جاء الاحتفاء الأبرز بها من قبل الأدباء.

في حوار مطوّل لنا معها، أكّدت شلبية أن الطفولة هي مصدر إلهامها، وأعمالها الفنيّة جميعها مستوحاة منها. بمعنى آخر: اللوحة عندها هي الدلتا الواقعة على شاطئي النيل. والنيل مصدر الحكايا والأساطير، بدءا من حكاية (الجنيّة) إلى آخر هذه السلسلة الخياليّة التي يعيشها طفل تلك المنطقة، وتؤثر في خيالاته وأفكاره. وشلبية لاتزال تتذكر (الحدوتة) التي كانت تظهر في النيل وتسرق أجمل شباب القرية ثم تُحوّله إلى حصان، من هنا حوّلت الحصان في لوحتها إلى إنسان، حيث ترمز به للحرية وللحكاية التي لاتزال عالقة في ذهنها.

ضغط المخيلة

هذا المخزون من الحكايا والأساطير الذي كَوّن شلبية، وتكوّنت هي فيه، شعرت بوجوده داخلها، منذ وقت مبكر في طفولتها، لكنها لم تعرف كيف تُعبّر عنه، وبأية وسيلة.

في البداية «وكانت دون العاشرة من عمرها» حاولت إخراج هذا المخزون الفكري والبصري ورميه فوق صفحة الرمل، بخطوط وأشكال بسيطة، لم تجد صعوبة في إنجازها، لسهولة التعامل مع هذه الخامة، وبالتدريج ونتيجة ارتباطها بعالم التعبير بالخطوط «الرسم» والألوان، عبر زوجها الفنان «نذير نبعة» ومعايشتها اليومية لوسيلة التعبير البصرية هذه، واطلاعها على المعارض، واحتكاكها بالفنانين والأدباء، سواء في مصر، ولاحقاً في دمشق وباريس، بدأت شلبية تجمّع ثقافة بصرية، وخبرة عملية، حرصت منذ البداية، على أن تبقى بمنأى عن التمدرس الأكاديمي، أو التقليد، أو الجنوح إلى الحداثة التي تبعدها عن جذورها الأولى، وتاليا عن صدق موضوعات فنها وعفوية التعبير عنها.

هذا الانتباه الواعي والحريص، حفظ تجربتها، وصان شخصيتها الفنية المتميزة الملامح، والمتباينة السوية، حيث ارتبطت هذه الأخيرة، بالتقنية اللونية التي اشتغلت عليها، والتي يمكن حصرها بثلاث تقانات هي: الألوان المائية الشفيفة، الألوان الزيتية، والرسم على الحرير «الباتيك»، إضافة إلى تجارب عدة بقلم الحبر.

تنوّع التقانات ووحدة الأسلوب

على اختلاف التقانات التي اشتغلت عليها الفنانة شلبية إبراهيم، ظل أسلوبها واحدا «مع بعض التباينات المرتبطة بنوع الخبرة التي كوّنتها من تعاملها مع هذه التقنية أو تلك، ومدى حبها لها» واختلاف موضوعاتها التي لم تخرج عن إطار المرأة، والعرس، والأسطورة، والطبيعة الصامتة، والزهور، والطيور، والفراشات، والأحصنة، والأراجوز، وأباريق الفخار، والقناديل، والمزمار، والطفولة.. وغيرها. وهي موضوعات حملتها من طفولتها في قريتها، ومن أساطير النيل وحكاياه، وفيما بعد، من البيئات الجديدة التي عاشت فيها (دير الزور، دمشق، باريس) والحراك الفني والفكري والاجتماعي، الذي عاشته في بيتها ومحترف زوجها الذي كان موجودا ولايزال، بين حنايا جدران هذا البيت.

حافظت شلبية إبراهيم، على أغلبية المفردات والعناصر والأشكال التي بدأت بها تجربتها الفنية، وهي موتيفات لصيقة بالبيئة الشعبية العربية التي تؤلفها وتصوّرها الفنانة شلبية بكثير من العفوية والبساطة والوضوح والخيال الخصب المحلق في عوالم «الحدوتة» الشعبية، معتمدة على الخطوط «الرسم» كوسيلة تعبير رئيسة في لوحتها، ثم على الألوان التي تطورت واتسع استعمالها لها فيما بعد، بحيث تواكبت الأداتان في منجزها، ولكن ظلت الغلبة بشكل عام للرسم.

فبالرسم تؤطر الأشكال والشخوص والمساحات اللونية، وبه تؤكد التفاصيل وماهية العناصر، وأكثر ما تتبدى هذه الخصيصة التشكيلية في لوحاتها المنفذة بالألوان المائية الشفيفة، وتقنية «الباتيك» وتخف قليلاً في الأعمال المنفذة بالألوان الزيتية. أما المرأة التي لا تغيب عن لوحتها، فتعني عندها الأرض والأم: الأرض التي أعطت وتعطي الحياة، والمرأة صنوها في هذا العطاء، ففيها ومن خلالها، تتناسخ وتتجدد الحياة فوق هذه الأرض، هذا ما يوجب احترامها وتقديرها، والقنديل المرافق للمرأة دائما، يرتبط بطفولتها، حيث كان يشكّل حلما جميلا بالنسبة لها كطفلة، وهو يعني النور الذي يضيء الدنيا، وأما الفراشة فترمز للجانب الشفاف من الطفولة.

قيم ومقومات

الملاحظ وجود قواسم مشتركة عدة، بين فن شلبية والرسوم الشعبية، سواء من حيث المبالغات والاختصارات، أو من حيث التقانة اللونية والخطية، إضافة إلى العفوية والتلقائية والخيال. وقد اتفق الفنانون والنقاد والأدباء والمتلقون، على أن أبرز قيم ومقومات فن شلبية هي: العفوية التلقائية، البراءة، الخيال الخصب، الطبيعة، الصفاء، الشاعرية، الحرية، التحلل من القواعد والنظم الفنية الأكاديمية، الصدق، العذوبة، الحلم، الحب، البساطة، وقبل هذا وذاك «الطفولة المنسية» التي يخالها المرء انتهت، وغابت عن ذاكرته، لفظاعة ما حملها لها هذا العصر الرديء المعطوب، من صور بشعة ومقيتة ومُيئسة، صور نجد نقيضا لها، في لوحات شلبية التي ظلت بعيدة عن الصنعة الباردة، والافتعال المضجر، والنظريات الفنية المخاتلة، ومفعمة بفيض إنساني شاعري، نقي، عذب، نبيل.. وجميل، يحتاج إليه بقوة وإلحاح، إنسان هذا العصر المقرور، المعلّب، والطافح بالرداءة!

-------------------------------------------

لعمركَ لولا رحمةُ الله إنني
لأمطو بجدٍّ ما يريد ليرفعا
فلو كنتُ حوتاً رَكَّضَ الماءُ فوقَه
ولَوْ كُنْتُ يَرْبُوعاً سَرَى ثم قَصَّعَا
إذا ما نتجنا أربعاً عامَ كفأةٍ
بغاها خناسيرٌ فأهلكَ أربَعا
إذا قُلْتُ إنِّي في بَلاَدٍ مَضَلَّةٍ
أبى أنّ ممسانا ومصبحنا معا

كعب بن زهير

 

 

محمود شاهين 





الفنانة شلبية إبراهيم





الطاووس - باتيك





أزهار الصباح - مائي





الفرس - مائي





ألفة - باتيك





المرأة والمزمار - مائي