البوسنة والهرسك.. وجه الإسلام المشرق في قلب أوربا

البوسنة والهرسك.. وجه الإسلام المشرق في قلب أوربا

من قمة شاهقة تمكنا من أن نرى مشهداً بانورامياً للمدينة البهية: بيوتاً أوربية الطابع بيضاء مغطاة بالقرميد، وأشجاراً كثيفة تغطي تلال الجبال المحيطة بالمدينة كسور كبير، تمزج أحمر القرميد بأخضرها البهي، ونهرا يشق المدينة؛ يمنح المدينة ألقاً خاصا، ويسبغ على قسماتها جمالا آسرا، يهبه لفتيات المدينة الفاتنات. وقبل أن نهبط من القلعة، قريبا من البوابة التاريخية القديمة لسراييفو؛ لنبدأ رحلتنا، أصخت السمع قليلا، لأصغي لنداء لاح لي أنه صوت المدينة يهمس «بمجرد أن لمحتك أيها الشاب شعرت بحاجة إلى أن أحكي لك شيئا لم أحكه لأحد أبدا». فبماذا باحت سراييفو؟!

في الطريق من المطار الصغير، إلى قلب المدينة في حي باتشارشيا العتيق، حيث اخترنا أحد الفنادق للإقامة، كنت أتأمل المدينة البسيطة الجميلة، التي تبدو كأنها مساحة شاسعة بين تلال، تتناثر البيوت الأوربية الطابع على محيط الجبال، بينما تستقر البنايات الحديثة العالية في الطريق الأقرب إلى المطار، وعلى جانبي الطريق الواسع، الذي يفصل بين نهريه مسار المترو، اصطفت بنايات حديثة ومحال تجارية وعمارات سكنية من العصر الاشتراكي الذي ميز يوغسلافيا قبل التفكك، وكلما توغلنا قدما بات طابع البيوت أقرب إلى الطابع الأوربي التقليدي العتيق.

مزيج أوربي، عصري وشرقي، فريد من نوعه. المساجد العثمانية الطرز تتجاور مع الكنائس والكاتدرائيات، في مدينة تعرف بأنها مدينة السلام أو مدينة «القدس الأوربية» كما يحلو للبعض أن يطلق عليها، بوصفها المدينة الأوربية التي تضرب مثالا رائعا في تعايش الأغلبية المسلمة من أهل البوسنة مع صرب البوسنة الأرثوذكس، والكاثوليك من كروات البوسنة معا، وفي تقديم نموذج أوربي إسلامي بديع في التسامح والتعايش. ولا عجب، فقد كان تاريخ البوسنة منذ الأزل متسامحا على هذا النحو، بل إنهم قدموا نموذجا نادرا في الحرب حين كانت قذائف الصرب توجه للبيوت والمساجد والمباني بلا تفريق، بينما لا يرد البوسنيون برصاصة واحدة، إلى كنيسة أو كاتدرائية، وهو ما سمعته من كثرٍ هنا بينهم سفير البوسنة في الكويت ياسين رواشدة الذي التقيته في الكويت، وأدهم باشيتش، مساعد وزير الخارجية البوسني، والسفير الأسبق لجمهورية البوسنة والهرسك في دولة الكويت، وجافريلو جروهافاش نائب رئيس الحكومة ووزير الثقافة والرياضة والسيد أحمد خطاب السفير المصري في البوسنة الآن، ود.عصمت بوتشاليتش، عميد كلية الدراسات الإسلامية، وغيرهم.

وداعاً للحرب

انتهت آثار الدمار التي كانت شاهدة على واحدة من أكبر مجازر التطهير العرقي التي شهدها القرن الماضي، وما بقي منها أكثره ذكريات مريرة، وشواهد قبور الشهداء، الذين راحوا ضحية حرب عرقية باهظة، في أماكن عديدة وبينها منطقة «كوفاتشي»، يتوسطها ضريح الزعيم الراحل علي عزت بيجوفيتش.

تحلت العاصمة سراييفو بحلة جديدة، لا تخلو من وجوه حداثية عدة، تؤكد أنها تسعى حثيثا للحاق بركب الدول كاملة العضوية في الاتحاد الأوربي، حتى لو عرقلت تلك الأحلام بعض المصاعب الاقتصادية والسياسية، التي سنلقي عليها الضوء تباعا في ثنايا هذا الاستطلاع، لكن ما يدعو إلى التفاؤل، في ملامح الناس، وحديث الشباب، ورجال السياسة والدين، والكتّاب، والمستثمرين، وعارضات الأزياء ممن التقينا، وغيرهم، أكثر بكثير من نبرات التشاؤم.

في قلب المدينة الذي يتضمن منطقة السوق العتيق الممتلئ بحوانيت خشبية أنيقة، تتجاور على ضفتي الدروب والأزقة المبلطة بالحجارة، تتكدس بها ألوان من أعمال يدوية من الخشب والنحاس، صوان، أواني القهوة البوسنية التقليدية المكونة من الكنكات، والفناجين وقواعدها النحاسية المزركشة، أباريق، لوحات خشبية، وأخرى معدنية، وأوان خزفية بديعة مرسوم عليها بعض أهم معالم سراييفو الأثرية، صناديق خشبية صغيرة مزخرفة برسوم ملونة، شالات نسائية، وغيرها، بينما تتناثر بين تلك الحوانيت مطاعم تركية، ومقاه، وملاه ليلية.

هذا الجانب من المدينة هو الجانب الذي يمتلئ بالشباب. شباب من الجامعيين، بصحبة فتيات جميلات رشيقات، شقراوات أو صهباوات، أو ذوات شعور سوداء كالحة تعبر عن الجمال الذي تعرف به منطقة البلقان إجمالا، أو فتيات يتمشين، في الطريق إلى مطعم أو مقهى، أو إلى حفل راقص، أو حفل موسيقي لعازفين وموسيقيين من شباب البوسنة، أو من رموز الطرب المشهورين من عهد يوغسلافيا، أو يعبرن الممشى الطويل الممتد تقاطعه مع شارع تيتو التجاري.

أما الكهول، وكبار السن من المتقاعدين، فسوف تجدهم متجمعين صباحا في ساحة مبلطة ببلاطات مصقولة على مقربة من باتشارشيا وبجوار الكنيسة الأرثوذكسية، يتحلقون حول مساحة كبيرة من الأرض، تمثل رقعة شطرنج كبيرة، تنتثر عليها قطع شطرنج ضخمة، يحركها لاعبان متحمسان بحملها على البلاطات الكبيرة على أرض الباحة، بينما يقف المتفرجون يفكرون عميقا في اللعبات المحتملة، وبعضهم يستسلم جالسا لأشعة الشمس الدافئة حتى يغفو.

نبض الحياة

ثمة نوع من الألفة التي تلفك بها سراييفو على الفور، فتنفض عنك إحساسك بالغربة سريعا، وهو ما ترسخه عناصر أخرى بينها رؤية المساجد، وأبراج الساعة التي تحدد مواقيت الصلاة، والأبنية التركية التي تشبه الآثار العثمانية في مصر والشام، مثل التكايا والسبيل، والمدارس القديمة، والاستماع إلى صوت الآذان، بلغة عربية سليمة، وبأصوات جميلة خلابة، تجاورها الكاتدرائيات والكنائس في مساحات متجاورة.

في قرارة نفسي كان لدي يقين بأن التاريخ موجود في كتب التاريخ، لكني كنت أرغب في التعرف على الراهن، أن أرى المدينة اليوم بكل ما يمثل واقعها المعاصر الآن وهنا. أن استمع إلى نبضها المعاصر. وهكذا كنت مشغولا بالتفكير في كيفية إيجاد الفرصة للاقتراب من الشباب والفن في هذه المدينة، بين ازدحام الجدول المعد لنا للمقابلات الرسمية، وزيارات المدن الأخرى خارج سراييفو.

أبدأ من الفن، مشيرا إلى أن مهرجان «شتاء سراييفو» الذي يقام في شهر فبراير من كل عام والذي تأسس منذ أولمبياد 1984 التي أقيمت في البوسنة، والذي يرأسه ويدير فعالياته الشاعر والكاتب إبراهيم سباهيتش، بقدر ما يمثل مناسبة سنوية لحضور العديد من الفنانين من أرجاء أوربا والعالم في فنون الموسيقى والمسرح والغناء والرقص والفن التشكيلي والأفلام التسجيلية وعروض الفيديو آرت وغيرها، ليقدموا فنونهم لجمهور البلقان، فإن المهرجان نفسه عادة ما يكون مناسبة مهمة لكي يعرض الفن البوسني نفسه للعالم عبر عروض موسيقية لفنانين أمثال دامر إماموفيتش، الذي يعد أحد الأسماء المهمة في الفن الموسيقي في البوسنة في الوقت الراهن، وفي البلقان بطبيعة الحال.

كما أن البوسنة عرفت في السنوات الأخيرة نهضة سينمائية عبر مجموعة من المخرجين الشباب مثل ياسميلا جبانيتش، والأخوين نهاد وسعيد كريشيفيلياكوفيتش، اللذين قدما عددا من الأفلام التسجيلية، والروائية، وبعضها من تأليف نهاد وإخراجه أيضا. بالإضافة إلى سييلا كامريتش ودانيس تانوفيتش الذي حصل على جائزة الأوسكار عن فيلم No Man s Land في العام 2002، وإدمير كينوفيتش وبيير جاليشا وغيرهم. كان لافتا تتويج جهود شباب صناع السينما في البوسنة بحصول فيلم «جرابافيتسا» للمخرجة ياسميلا جبانيتش على جائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين السينمائي الدولي قبل ثلاثة أعوام (العام 2006)، والذي قامت ببطولته الممثلة الصربية ميليانا كرابوفيتش، وأدت شخصية سيدة من البوسنة تتعرض للاغتصاب من رجل صربي خلال الحرب، وتنجب طفلة تنشئها دون أن تخبرها عن هوية أبيها الحقيقية، وتعيش في صراع مستمر بين كرهها للرجل ومحبتها لابنتها.

في مجال الموسيقى يعد دامر إماموفيتش أحد رموز الجيل الجديد من الموسيقيين، الذي يحاول مزج بعض الفنون الموسيقية الجديدة مثل الجاز مع الموسيقى التقليدية في البوسنة والمعروفة باسم Sevadah، وكان والده زعيم إماموفيتش، أحد رموز هذا اللون الموسيقي التقليدي البوسني في أرجاء يوغسلافيا. كون دامر فريقا موسيقيا من اثنين من العازفين بالإضافة إليه حيث يغني ويعزف على الجيتار، ويحظى هو وفريقه بشعبية كبيرة في سراييفو وفي البلقان، ويقوم بجولات فنية في بلجراد والعديد من العواصم الأوربية. وهناك العديد من الفنانين الموسيقيين البوسنيين من أمثال جرافكو كوليتش، وخالد باشليتش الذي يعد نجما كبيرا هنا، وغيرهم كثير من الفنانين.

بالإضافة إلى «شتاء سراييفو» سنجد مهرجان سراييفو السينمائي الذي يعقد في اغسطس من كل عام، والذي بدأ لأول مرة عام 1995 على يد السينمائي والأكاديمي ميرساد بوريفاترا، والمهرجان الآن يعد واحدا من أهم مهرجانات السينما في منطقة جنوب شرق أوربا (التسمية الشائعة الآن للبلقان في إطار الاستعداد للدخول في عضوية الاتحاد الأوربي)، وفي شهر نوفمبر يعقد مهرجان موسيقى الجاز الذي يجمع فرقا غنائية وموسيقية من الولايات المتحدة وأوربا والبلقان لتقدم لجمهور البوسنة عروضا حية تتمتع بنسبة إقبال كبيرة من الشباب.

كما ينظم اتحاد الكتاب مهرجانا شعريا سنويا تقوم وزارة الثقافة والرياضة بتمويله، يهتم بدعوة أهم وأبرز الأصوات الشعرية في أرجاء العالم، وتقام أمسيات شعرية وندوات خلال فترة المهرجان. وهو تقليد يرتكز على أن البوسنة على مدى تاريخها أنجبت عددا من كبار الكتاب والمفكرين مثل إيفو اندريتش الحائز على نوبل في الآداب عام 1961، وميشا سليموفيتش الذي ترجمت روايته «الموت والدراويش» للعربية، وجيفاد كاراهاسان، وميلينكو جارافيتش، ونجاد ابروشيموفيتش، وألكساندر هامون ونيناد فيلكوشوفيتش وغيرهم.

دعم السينما

هذا ما أوضحه لنا نائب رئيس الحكومة ووزير الثقافة والرياضة جافريلو جروهافاش. أما فيما يتعلق بالسينما فقال إن الوزارة أقامت عددا من الصناديق الخاصة بتمويل أنشطة فنية وثقافية مختلفة، وبينها صندوق مخصص لدعم الإنتاج السينمائي، لكن المبلغ السنوي المخصص لا يزيد عن عشرة ملايين يورو سنويا، فالدولة تمر بظروف اقتصادية صعبة بسبب إعادة البناء التي استلزمتها مرحلة ما بعد الحرب. هذا المبلغ يكفي تقريبا لتمويل ثلاثة أفلام، بينما هناك ثلاثة عشر مشروعا سينمائيا لمخرجين من أجيال مختلفة تقدمت بطلبات لدعم إنتاجها.

يقول: «عندما توليت الوزارة كان المبلغ المخصص لدعم السينما أقل بكثير، استطعنا أن نصل به إلى هذا المبلغ، والآن نحاول عمل تعاون مشترك في الإنتاج السينمائي مع بعض الدول الأوربية والدول الصديقة مثل إيران التي شاركت في إنتاج الفيلم الحاصل على الأوسكار، وغيرها. نحن نعرف أهمية السينما، سواء كمجال فني مهم في رفع المستوى الثقافي، وكوسيلة تعبير فني مهمة، أو كوسيلة فنية تعرف بالبوسنة، فالقنوات الإخبارية العالمية لا تهتم بالبوسنة إلا إذا وقع انفجار أو حدثت كارثة».

كما يوضح أن الصناديق الثلاثة الأخرى خصصت لدعم النشر وإقراض الناشرين لعملية الترجمة، وصندوق للفنون الموسيقية، وآخر لدعم الكتاب وصيانة المكتبات وتطويرها.

هذا المهرجان السنوي الكبير في الحقيقة واحد من المعالم البارزة في سراييفو، إذ تتحول المدينة خلاله إلى كرنفال فني تمتلئ مسارحها بالعروض الفنية الموسيقية والغنائية والمسرحية من أرجاء العالم، وبالإضافة لهذا كله يوفر المهرجان فرص عمل موسمية للطلبة ومحبي الفنون، ومن هؤلاء شابة تدرس علم النفس هي إمينا أومانيفيتش.

بيت البوسنة التقليدي

بعد أن هبطنا في ميدان فراتنيك Vratnik mejdan، اكتشفنا أن علينا السير صعودا في زقاق تصطف على جانبيه البيوت المكونة من طابقين, حتى وصلنا أخيرا إلى بيت صغير من طابقين تحيط به حديقة صغيرة. استقبلتنا إمينا على الباب الخشبي الخارجي، ومنه إلى الباب الداخلي. خلعنا الأحذية فور دخولنا, ودلفنا إلى غرفة جلوس صغيرة بجوار الباب تضم المطبخ ومائدة الطعام وأريكة صغيرة.

عندما حضرت الأم، السيدة فاطيما، والعمة والأب، منيب اومانوفيتش، لتحيتنا، بادرت الأخير قائلا: «أخيرا تخلصت منهما فكيف تشعر»؟، لكنه تلقى مزحتي بشيء من الحزن نافيا أنه تخلص منهما، وأنه بعد مرور عام على استقلالهما عن البيت (إمينا وشقيقتها نادية) فلايزال غير متكيف مع الوضع.

أعدت إمينا لنا القهوة وأحضرت حلوى بوسنية أشبه بالكعك، وشيكولاتة بيضاء، وانتقلنا إلى الطابق العلوي على سلم خشبي أنيق، وجلسنا في بهو فسيح، يضم أريكة صغيرة وكرسيين من أثاث يناسب طابع البيت البوسني، وينتهي بنافذة تطل على المدينة، بينما يؤدي أحد الأبواب إلى غرفة نوم كبيرة.

تحدث السيد منيب وزوجته السيدة فاطيما عن الفارق بين العصر الاشتراكي في ظل يوغسلافيا وبين الأمور اليوم، وما حدث من تغيير، وكيف ان العصر القديم كان يوفر فرصا جيدة للعمل، وأن لكل وقت مميزاته، كما أوضحت الأم أنها عاشت في منزل أهلها حتى تزوجت، وأن هذا لايزال شائعا اليوم، لكن الجيل الجديد لو تمكن اقتصاديا من الاستقلال فسوف يفعل ذلك بلا تردد، واكتفت العمة بالإنصات، والتدخين، مؤمنة على كلامنا، بينما تتحرق شوقا ليصل ابنها الذي يتقن العربية بسبب دراسته بكلية الدراسات الإسلامية، وهي ترقب نادية التي التصقت بأمها، بينما إمينا تشير لها بسخرية مرحة وهي تردد «هذه هي ابنة أمها المدللة التي تثير غيرتي باستمرار»، وبين الضحكات أسرعت العمة تحتضن إمينا.

أوضح الأب أن اقتناعه بأن هذا الوضع أفضل لكلتا الابنتين بسبب قرب السكن من مكان دراستهما (شقيقة إمينا، نادية أومانوفيتش، تعكف على الدراسة لساعات طويلة بسبب تخصصها في دراسة الطب)، هي التي جعلته يقبل فكرة سكنهما المستقل عن اقتناع، وأضاف أنه مرتبط بهما بشكل كبير، وهذا ما أمنت عليه إمينا واصفة إياه بأنه أب عظيم.

في حوار لاحق مع مجموعة من الطلبة هم: أمير تشوليتش، وعزالدين إيزيتش، وستانيسلاف ستييبيتش، أوضحوا أن أصعب ما يواجهونه جميعا هو البطالة، ففرص العمل قليلة، وهناك صعوبة في الحصول على وظائف، أما إعانات البطالة فهي تخضع لشروط قاسية وصعبة، قد لا تتحقق في أغلب الأوقات، وبالتالي يضطر البعض للعمل كنادل في مقهى، أو بائع في أحد المحال.

لكن أمينا تتحفظ عن التعميم وترى أن محاولة العمل منذ ابتداء الدراسة الجامعية يوفر الاحتكاك وتكوين علاقات تساعد في المستقبل. وبينما يبدي عز الدين تحفظه موضحا أن الواسطة لها دور في التوظف، بل قد يحدث كذلك أحيانا أن يتحكم الانتماء العرقي للشخص في تحديد فرصه في الحصول على وظيفة. وهي الفكرة التي يؤيدها أمير تشوليك رغم أنه التحق منذ عامين بإحدى الصحف للعمل بها كمحرر وحقق نجاحا ملحوظا.

ويقول ستانيسلاف ستييبتش إن هذه الأوضاع عادة ما تجعل الفرد يفكر في البحث عن فرصة خارج البوسنة، سواء في منطقة جنوب شرق أوربا أو في أوربا نفسها.

سراييفو أولاً وأخيراً

أما ليلا كوربيجوفيتش التي تعمل إعلامية في القناة الثقافية بتلفزيون البوسنة فترى أنها كانت تفكر بهذه الطريقة في الماضي، لكنها الآن ترى أنها يجب أن تبقى وتعمل أكثر وتحافظ على وجودها في المكان، وأن تسعى لتغييره مع جهد المتفائلين. وتقول إنها في أثناء الحرب كان عمرها 12 عاما وعاشت فترة طويلة مع عائلتها في محلات تحت الأرض قريبة من منطقة الاستاد، لأن والدها رفض أن يترك سراييفو آنذاك، وهي تقول إنها شهدت أوقاتا صعبة وبالتالي فإنها يمكن أن تحتمل أي وضع، لكنها توضح أيضا أن ذلك يستلزم عملا يوميا مضنيا يأتي على حساب العلاقات العاطفية، فالميديا التي تنتمي للقطاع الخاص تعطي رواتب أكبر، لكنها في المقابل تحمل الشخص بما يفوق طاقته من العمل، أما الإعلام الحكومي فالمرتبات فيه أقل، وغير مستقرة أيضا، وهو ما يؤثر على الاستقرار والابتكار. لذلك هناك فرق كبير في مستوى الثقافة التي كانت تقدم في الميديا في زمن يوغسلافيا، حيث كانت ذات مستوى رفيع وقوي، وبين ما يقدم الآن.

وعلى ذكر العلاقات العاطفية فإن الشباب الذين التقيناهم أوضحوا جميعا أنهم لا يمكن أن يستقلوا بالسكن مع صديقاتهم أو حتى زوجاتهم، كما هو شائع في أوربا، لأنهم لا يستطيعون الاستقلال وهم جميعا يعيشون مع أهلهم، مع التأكيد أن هناك بعض الحالات التي يستقل فيها بعض الشباب، بل ويتزوجون باكرا (يقول ستانسيلاف ضاحكا: الزواج شائع في البوسنة أيا كانت الظروف، حتى في أثناء الحرب لم تتوقف الزيجات ولا إنجاب الأطفال)، أما فيما يتعلق بالزواج بين الأعراق المختلفة فقد أوضحوا أنهم كجيل تجاوز تماما هذا الطرح، ولا يهتم أي منهم للزواج بشخص طرف ينتمي لدين مختلف، لكن المشكلة في الأجيال الأقدم التي مازال الكثير منهم يرفضون زواج بناتهم أو أبنائهم من أصحاب ديانة مختلفة والعكس. لكنهم جميعا يرون أن المجتمع يحتاج إلى مزيد من الوعي ليتغير كل هذا ويصبح من الماضي.

موستار.. جسر المصلى

بعد يومين قضيناهما في سراييفو ارتحلنا إلى موستار: المدينة الثانية في البوسنة والهرسك والتي تعد عاصمة لإقليم الهرسك، والخامسة من حيث المساحة، وتطل على نهر نيرتيفا، وهي مدينة لا تقل جمالا عن سراييفو، وهي سمة عامة في البوسنة والهرسك، فعلى امتداد الطريق تتضافر الطبيعة الجميلة الخضراء في تشكيل لوحة نادرة من التلال والجداول والأنهار، بينما كانت قمم بعض الجبال مازالت تتوهج بالأبيض، حيث لم تكن الثلوج قد ذابت من فوق القمم بعد.

في موستار قمنا بزيارة جسر المصلى الذي كان قد تهدم تماما في أثناء الحرب وأعيد ترميمه وبناؤه بالتصميم القديم نفسه، وبالتعاون مع صندوق التنمية الكويتي الذي قدم دعما لعملية الترميم. وأقيمت في الحديقة المتاخمة للجسر لوحة تذكارية في ساحة تعرف باسم ساحة الصداقة الكويتية البوسنية، إضافة لنموذج مجسم لأبراج الكويت.

هذا الجسر العتيق الجميل يصل بين المدينة من جهة والسوق القديم الذي يعتبر مزارا سياحيا يمتلئ بالبازارات والمطاعم، وبسياح من أوربا. والجسر مقام على ارتفاع كبير، يبلغ حوالي 27 مترا، وهو يعود إلى زمن الأتراك إبان الحكم العثماني، ويقال إن موستار تعني «المحافظون على الجسر»، أو الجسر القديم، الذي عُدَّ أحد معالم المدينة منذ القرن الخامس عشر، وقد تهدم على يد القوات الكرواتية خلال الحرب، وتمت محاكمة القائد العسكري الكرواتي دوليا على هذا القرار إضافة لتهم أخرى اتهم بها بعد الحرب. وقد استغرق تشييده الفترة بين عامي 2003 و2008 حين تم افتتاحه.

الاستثمار.. مستقبل البوسنة

وتعتبر موستار، شأنها في ذلك شأن بقية مدن البوسنة والهرسك، من المناطق الغنية بالمواد الخام، وهو ما جعل منها خلال العصر اليوغسلافي مركزا صناعيا، فقد عرفت بصناعة التبغ والألومنيوم، كما اشتهرت بصناعة الطائرات. كما أن توافر المياه الجارية بها جعل منها قاعدة من قواعد توليد الكهرباء في المنطقة، وهو الدور الذي تلعبه البوسنة والهرسك الآن، وهي في طريقها ليس لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الكهرباء المولدة بطاقة المياه، بل لتصبح مصدرة لها في أرجاء أوربا، كما أن البوسنة بشكل عام تمتلئ بالذهب والمعادن، مما يجعلها موطنا للاستثمار في مجال التعدين والمناجم.

كما انطلقنا خارج موستار بنحو عشرة كيلومترات لمشاهدة منبع النهر الذي يعرف باسم Vredo Bune، وهناك استثمر المكان كمطعم سياحي تكاد تكون أرضيته موازية لسطح النهر قريبا من مركز النبع القادم من الجبل مما يجعل منه مكانا خلابا، ومزارا سياحيا فريدا بسبب شلالات المياه، وطبيعة المكان الذي تحتضنه الجبال من كل جهة.

وتشهد سراييفو نفسها الأن ثورة معمارية تتجلى في بناء عدد من الأبراج الاستثمارية الشاهقة وفي المجمعات التجارية الضخمة وفي إنشاء شركات إنتاج المياه المعدنية والغازية استثمارا للطبيعة الغنية، وهي تفتح الباب الآن للمستثمرين الأوربيين, وليت المستثمرين العرب ينتبهون لهذه المنطقة الواعدة.

فوينتسا.. وثيقة «عهدنامة»!

في اليوم التالي توجهنا لقرية فوينتسا، التي تقع في منطقة وسط البوسنة، في غرب مدينتي سراييفو وكيسلياك التي تعد من المدن المشهورة في تصنيع المياه الغازية. وتقع على حدود وادي نهر فيونتسا الذي يعد أحد فروع نهر البوسنة.

تشتهر هذه المدينة الصغيرة بإحدى الكنائس التي أدت دورا كبيرا في إرساء قيم التسامح في المنطقة، وهي كنيسة الروح المقدس التابعة لطائفة الفرنسيسكان، وقد كان للكنيسة دور مهم في أثناء الحرب لأنها تضامنت مع مسلمي البوسنة ولعب القساوسة فيها أدوارا بطولية، وذلك لتاريخها القديم الذي تعبر عنه وثيقة قديمة محفوظة بين جدرانها تعرف باسم وثيقة العهد (عهدنامة) وكتبها لرهبان الكنيسة الحاكم العثماني محمد الفاتح الثاني، والتي بموجبها أمنهم على أرواحهم وحرية ممارسة عقيدتهم، وظلوا منذ ذلك الوقت أوفياء للمسلمين، وعاشوا في سلام معهم.

يعود تاريخ المبنى الأصلي للكنيسة والدير الملحق بها لنحو عام 1540 كما أوضح لنا رئيس القساوسة القس أميركو ميدانتيتش، أما تاريخ ترميمها وتجديدها فيعود للعام 1880.

قبل أن ننطلق لزيارة الكنيسة ذهبنا أولا إلى منزل المفتي الأكبر حافظ رامز باشيتش، الذي كان يشغل منصب المفتي الأكبر لمنطقة وسط البوسنة حتى تقاعد قبل فترة قصيرة، لكنه قدّم، ولايزال، نموذجا فريدا للإمام المسلم، الذي حفز المسلمين دائما على طلب العلم والترقي في حياتهم وحفظ القرآن وتعاليم دينهم، من جهة، وعلى التعايش مع المسيحيين والطوائف الأخرى على الوجه الأكمل.

كان قد تعلم العلوم الإسلامية في البوسنة، وأتم حفظ القرآن على يد كبار علماء الدين، ثم تخرج في كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو. وهو، في الوقت ذاته، والد السيد أدهم باشيتش مساعد وزير الخارجية؛ الذي قدم لنا دعما كبيرا خلال هذه الرحلة، سواء بترتيب الرحلات، واصطحابنا بالرغم من مشاغله، أو القيام بعملية الترجمة للعربية التي يتقنها بامتياز في هذه الجولات أو في بعض الحوارات المهمة التي أجريناها.

يقول لنا فضيلة المفتي حافظ باتشيتش: «كنت حريصا على أن أعلم أبنائي منذ صغرهم مقولة، لعلهم لم يكونوا يدركونها في سنوات عمرهم الصغيرة تلك بقدر ما اتضحت لهم لاحقا، وهي (كل شيء شيء، والجهل ليس بشيء)، وهي المقولة التي حاولت أن أجعل منها شعارا للإخوة المسلمين هنا بشكل عام. وقد كنت ومازلت أرى أن أي مسلم ينبغي أن يضع بين أولوياته وبالترتيب، العلم، ثم الأخلاق، والاقتصاد، أي يحرص على تحسين وضعه المعيشي، لأنه بذلك يصبح سندا لغيره من المحتاجين».

هنا تدخل السيد أدهم باشيتش وتذكر مقولة كان يرددها لهم الوالد ومازال يرددها وهي: «الجهل أكبر عدو للإنسان، وأريدكم أن تكونوا أكبر عدو للجهل».

بهذه الأخلاقيات عرف فضيلة المفتي في المنطقة كرمز من رموز الفضيلة والدعوة الإسلامية، والتوازن والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة. وأيضا كرمز من رموز التعايش مع الآخر، وهي القيمة التي حرص عليها في كل حياته منذ بدء عمله، وفي أثناء تضييق العهد اليوغسلافي على المحاضرات في المساجد، حيث كان يحرص على دعوة المسلمين إلى بيته بدلا من المسجد لكي يقوم بتحفيظ القرآن الكريم لهم، ويساعدهم على فهم شئون الدين، وهو ما استمر بعد سماح يوغسلافيا للدروس الدينية، وفي أثناء الحرب وبعدها.

تاريخ قديم

أصر فضيلة المفتي على اصطحابنا إلى كنيسة الروح المقدسة، وهناك التقى برئيس القساوسة لقاء حميما أظهر مدى التقدير المتبادل بينهما.

اصطحبنا رئيس القساوسة في جولة داخل الكنيسة، حيث أطلعنا على التجديدات الحديثة التي شاركت فيها بعض الشركات التركية، من حيث وضع نظام أمني جديد، وترميم المبنى وتحديثه من الداخل، كما اصطحبنا إلى مقر مقتنيات الكنيسة والتي تضم مقتنيات القس الأول أوجاستين ميلاشيتش، وصولجانه وقفازه، وأدوات الرشم والصليب وغيرها، كما شاهدنا جزءا من شاهد قبر قديم يعود لعام 1606، وأوضح القس أن المسيحيين في زمن الأتراك كانوا يخافون، وأنهم لذلك كانوا يصنعون شواهد القبور على هيئة زهرة وبداخلها الصليب كنوع من التقية.

شهدنا ألوانا من الأدوات التي كانت تستخدم في المنازل في المنطقة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والأسلحة والبنادق والسيوف، وطبيعة الأزياء التقليدية للأهالي، وأدوات الزينة والحلي التي كانت النساء يتقلدنها آنذاك، والتي تكشف عن الطفرة في الزخارف والزركشة التي عرفت بها منطقة فوينتسا وفنانوها القدماء.

زرنا المكتبة التي تضم آلاف الكتب والمفترض أنها تتسع لنحو 35 ألف كتاب، بينها 2000 كتاب نادر عمرها يربو على ستمائة عام، في التاريخ والفلسفة وعلم اللاهوت، والطب وغيرها من المعارف والآداب.

ومن بين الكتب اختار رئيس القساوسة كتابا لجراماتيا ديفلوفيتش، موضحا أن ذلك الكاتب كان أحد علماء اللاهوت، وكان يرى ضرورة ترجمة الكتب للغة العربية وكذلك القواميس والمعاجم للأشخاص الذين يسافرون للمنطقة العربية، ولما تعذر ذلك هنا أصر على الذهاب إلى تركيا وقام بحفر حروف العربية وترجم الكتاب وطبعه.

وقد أثار هذا الجهد نقاشا فكريا وجدليا بين سكان البوسنة وكرواتيا آنذاك على الدور الثقافي الذي ينبغي أن تقوم به البلاد، وأهميته، وهو نموذج إيجابي كان له دور مهم في الثقافة في المنطقة.

ترافنيك..حيث ولد أندريتش

بالأبراج والمآذن (أو المنارات كما يطلق عليها أهل البوسنة) استقبلتنا مدينة ترافنيك، التي تبعد 90 كيلومترا عن العاصمة سراييفو، وهذه المدينة تعد عاصمة إقليم وسط البوسنة، وقد كانت عاصمة البوسنة في منتصف القرن السابع عشر. مررنا على أحد المقاهي، حيث استقبلنا السيد رامو عمروفيتش، من أهل البلد، وأحد رموز المقاومة في أثناء الحرب، والذي ادى أعمالا قتالية مهمة خلال الحرب، كما استثمر أحد الأماكن في منطقة جبلية بتوفير الطعام للجنود والمقاتلين في مواقع القتال. واليوم تقاعد من الجيش، وقرر أن يتفرغ للاستثمار.

المقهى الذي يتوسط المدينة مقسم إلى قسمين بينما يمر بين قسميه جدول من مياه النهر، يضفي على المكان طابعا جماليا فاتنا. ويشتهر المكان بلحوم الأغنام المميزة جدا في هذه المنطقة وبجبن ترافنيك الفريد في مذاقه، ومع كل فنجان قهوة بوسنية يطلبه الرواد تقدم معه قطعة سكر وقطعة ملبن وسيجارة وعلبة ثقاب باسم النهر المجاور «لاشفا» الذي يلتقي في نقطة ما مع نهر البوسنة، والمدينة نفسها بنيت في وادي لاشفا. ولا يقبل النادلون في المقاهي كلمة قهوة أمريكية، فهم يرون أن القهوة إما بوسنية، وتشبه القهوة التركية كما نعرفها، أو إسبرسو إيطالية، وليس لديهم استعداد لنقاش المسألة!

التقينا مع مفتي وسط البوسنة نصرت بيجوفيتش، وتحاورنا معه حول عدد من القضايا المتعلقة بموقع البوسنة في الاتحاد الأوربي كنموذج دولة إسلامية، وهو ما سوف نتعرض له بالتفصيل، في نهاية هذا الاستطلاع المصور.

انتقلنا بعد ذلك في جولة بالمدينة، حيث زرنا أولا أحد أشهر القلاع، أو الحصون لو شئنا الدقة، هنا والمعروف باسم «حصن جاربون»، والذي يعود تاريخ وجوده لنهاية القرن الرابع عشر، حيث ذكر لأول مرة في مخطوطات تعود للعام 1463، ويعرف الآن باسم حصن المدينة القديمة، وشيده فورتكو كوتلرامانيش الثاني للدفاع ضد جيوش الأتراك، وكانت هناك ستة حصون أخرى تعرضت للتدمير. عندما وصل الأتراك على يد محمد الفاتح الثاني تم بناء مسجد داخل الحصن ويعد أول المساجد التي شيدت في المنطقة، والآن يوجد 14 مسجدا في المدينة.

انتقلنا بعد ذلك إلى مسجد في قرية تدعى أحميتشي، حيث أقيمت ذكرى مذبحة عرفت بالاسم نفسه، وحدثت في عام 1993 حيث استشهد 116 مدنيا على يد القوات الكرواتية، الذين أحرقوا البيوت ودمروها وأهلها نائمون. وفي هذه الذكرى يأتي رئيس هيئة العلماء الدكتور مصطفي سيريتش، لزيارة مقابر شهداء هذه المذبحة، إضافة لمفتي وسط البوسنة نصرت بيجوفيتش، ثم يعودون لموقع المسجد، حيث النصب التذكاري الذي يضم أسماء الشهداء ويقرأون الفاتحة ويضع المسئولون باقة ورد، بينما يشارك حضور كبير من أهالي الضحايا وأهل القرية. وهي واحدة من عدة مذابح بينها مذبحة سريبرنتسا التي راح ضحيتها 8000 شهيد، في العام 1995 وتعد من أبشع مذابح التطهير العرقي التي شهدتها تلك الحرب من جانب الصرب تجاه المسلمين في البوسنة.

بطل الحرب والسلام

من أحميتشي ولمسافة نحو 20 كيلومترا توجهنا إلى قرية كورني فاكوف، التي تعد من المناطق المؤهلة للاستثمار في صناعة المياه الغازية، وتوليد الكهرباء، بسبب توافر منابع مياه غازية من جهة، وبسبب وجود شلالات المياه الكثيرة في تلك المنطقة، وهذا ما شجع رامو عمروفيتش على الاستثمار هنا بعمل مصنع للمياه الغازية والمياه المعدنية، إضافة لمشروع فندق سياحي لرواد المنطقة من السياح، بالرغم من أنه يمتلك محطات لبترول السيارات في المدينة.

يطلق أدهم باتشيتش على رامو لقب بطل الحرب والسلام لأنه كان بطلا خلال الحرب، كما أصبح أحد أنجح رجال الأعمال في مرحلة ما بعد الحرب، وهو يرى أن المرحلة التي تمهد للانضمام للاتحاد الأوربي تشترط خصخصة الكثير من ممتلكات الحكومة، وأن هذا يعطي مجالا جيدا للاستثمار الخاص والاستثمارات الأجنبية، والتي يقترح أن ينضم لها المستثمرون العرب، لأن البوسنة تعتبر بلدا واعدا بما تمتلكه من ثروات طبيعية، وطبيعة خلابة تمنح المشروعات السياحية فرصا كبيرة، وإمكانات زراعية هائلة، إضافة إلى صناعة الأخشاب بفضل توافر الغابات بكثافة، ومناجم للفحم، ومحطات للطاقة الكهربية، وغيرها العديد من المجالات.

هكذا تبدو البوسنة والهرسك بعد نحو ما يقارب 15 عاما على تلك الحرب المروعة تعيش زمنا آخر، وتقدم نموذجا رفيع المستوى لأوربا وللعالم كله على إمكان تحقق مجتمع إسلامي متحضر، ومنتج، ديمقراطي، ومتفهم للغة العصر، وقادر على المنافسة.

وهكذا أيضا تدب فيها حيوية جديدة بسواعد شباب واعد في مجالات عديدة، من الفنون والسينما إلى الأدب، ومن العلوم الإسلامية والفقه إلى العلوم البحتة، والاستثمار، بل وحتى الموضة والأزياء، فقد أصبحت البوسنة مركزا في هذا المجال بفضل جهود عدد من العارضات الشابات، وعبر مشروعات تديرها عارضات محترفات منهن إميلا رادان التي كانت نجمة عارضات الأزياء في عهد يوغسلافيا وهي الآن تدير وكالة لعرض الأزياء، وتصدر مجلة «موضة»، وتنسق مهرجانا سنويا بعنوان «أسبوع سراييفو للموضة» وتشترك في وكالتها مجموعة من العارضات الشابات اللائي مازلن يدرسن في المرحلة الثانوية، وبينهن ثلاث عارضات وقفن خصيصا للتصوير لمجلة العربي، وهن أدنا ديميروفيتش، وميريللا جيفويوفيتش، وياسمينا مالوهيفيتش.

وكأنهن يكملن لنا صورة سراييفو كما يريد لها أهلها: صورة شابة، أنيقة، جميلة، تتطلع للمستقبل بطموح دون أن تفقد أواصر جذورها بتقاليدها وتاريخها.

بهذا همست لي سراييفو، بينما كنت أصغي وأنصت وأستمع، كأنني أبدا لا أرغب في أن تتوقف عن الهمس، لكن أدركني الصباح وكان للحكاية أن تختتم ذاك الفصل بهذا الهمس، بينما وجوه أهل سراييفو وعيونهم الحميمة تلاحق خيالي، بابتساماتها التي تعكس الطابع المرح لهم جميعا وضحكاتهم التي، ويا للعجب، لم تتوقف حتى في أحلك أيام الحرب، فهنيئا لهم مستقبلهم.

وزير الخارجية سفين الكلعي
سننضم إلى الاتحاد الأوربي بحلول عام 2014

في مبنى وزارة الخارجية المتاخم لمبنى رئاسة البوسنة كان لنا لقاء مع السيد سفين الكلعي، أو القلعي، وعندما بادرته عن الجذور الشرقية لاسم عائلته ابتسم قائلا إنه ينتمي لعائلة تعود أصولها إلى إسبانيا في القرن الخامس عشر، وأنهم اضطروا للنزوح من هناك في الفترة التي شهدت اضطهاد اليهود والمسلمين في عهد إيزابيلا كاثوليكا، فذهب البعض إلى شمال إفريقيا، بينما جاءت عائلته إلى البوسنة في ظل العهد العثماني. وأشار إلى شهادة معلقة على الحائط قائلا: «هذه وثيقة شرفية من المدينة التي كان أهلي يعيشون فيها، وهناك عرفت أن اسم العائلة منسوب لقلعة شهيرة كانت موجودة هناك»، وأضاف أنهم عندما جاءوا إلى البوسنة عاشوا آمنين «فالحقيقة أن اليهود لم يجدوا نوعا من التسامح كالذي أتيح لهم هنا مما جعلنا نستقر هنا طوال كل تلك الفترة، وأتمنى أن تستمر البوسنة كمجتمع يضم العرقيات والثقافات والأديان كما كانت على مدار تاريخها.

بدأنا الحوار بالعلاقات البوسنية العربية والكويتية خصوصا، فأوضح أن العلاقات وثيقة بين البلدين وهناك أوجه تعاون مشتركة كثيرة، «فقد تعرفت على وزير الخارجية الكويتي الشيخ د. محمد الصباح منذ كنت سفيرا للبوسنة في الولايات المتحدة، خلال الفترة من 1993 وحتى 2003، وتوثقت علاقتنا كثيرا، خاصة أن الكويت هي إحدى الدول التي مدت يد العون بقوة خلال الحرب، وساهم عدد من مستثمريها في إنشاء مدارس، وفي إعادة تأهيل البلد بعد الحرب».

أضاف الوزير أن البوسنة كجسر بين الشرق والغرب حافظت على علاقاتها بالعالم العربي الإسلامي، والأوربي في الوقت نفسه، موضحا أن هناك علاقات وثيقة مع كل من طهران وباكستان وسورية وغيرها من الدول التي تعقد بينها الوانا من الحوار المشترك، لكنه يرى أن العلاقات يجب أن تتخذ بعدا اقتصاديا أيضا في المرحلة المقبلة لأن مثل هذا النوع من العلاقات سيؤدي إلى تحقيق الفائدة لجميع الأطراف.

  • هل البعد الاقتصادي هو البعد الوحيد الذي تنتظرونه قبل الدخول في عضوية الاتحاد الأوربي؟

- لا، الاقتصاد هو عامل واحد فقط، من عوامل الإصلاح التي نحتاج إليها، لكننا مازلنا نحتاج إلى عمل إصلاحات في نظامنا التشريعي وكذلك إصلاح الدستور، إضافة إلى تفعيل التشريعات في النظام القانوني للقضاء على الثغرات القانونية التي تمنع السيطرة على منع الفساد بشكل تام مما يتيح الاستثمار بشكل يخضع للمواصفات القياسية.

كما نعمل على تحرير تأشيرات السفر، بحيث يسمح لمواطنينا دخول دول أوربا من دون تأشيرة كما كان الأمر في العهد اليوغسلافي، وقد تغلبنا على 147 بندا يعوق ذلك ولم يتبق سوى 27 بندا فقط.

  • هل هناك جدول زمني للانضمام لعضوية الاتحاد؟

- ليس هذا قريبا جدا، فأولا يجب أن يتم ترشيحنا، وهذا ما نأمل في حدوثه عبر مفاوضات قوية خلال هذا العام الجاري حول التغييرات والإصلاحات، وهو ما قد يستغرق ثلاث أو أربع سنوات، لذلك أعتقد أن البوسنة والهرسك يمكن أن تصبح مؤهلة لذلك بحلول العام 2014. وقبل ذلك لا بد من الانتهاء من الانضمام لحلف الناتو بعد عام واحد تقريبا.

لكن يجب العمل بقوة على تغيير الدستور، بحيث يكون هناك رئيس واحد، كما حدث بالنسبة للوزارات، ولتعديل الدستور يجب تعديل معاهدة دايتون التي أوقفت الحرب بمقتضاها، والتي أسس الدستور بناء عليها، وهي اتفاقية تم التوصل إليها في زمن الحرب، وبالتالي كان هدفها إحلال السلام، وهذا ما تحقق بالفعل، لكنها، من جهة أخرى لا تتوافق مع الإصلاحات السياسية التي نمر بها لكي تصبح الأوضاع في كفاءتها القصوى.

وعبر وزير الخارجية عن ارتياحه للموقف الأمريكي الجدي من المسلمين عبر تصريحاته التي أعلنها في مؤتمر الحوار بتركيا في أبريل الماضي، موضحا أن تركيا من الدول التي تدعم دخول البوسنة للاتحاد الأوربي، والبوسنة لها موقف مشابه من تركيا وتدعم بقوة دخولها للاتحاد الأوربي.

وأوضح أن أوربا ليست مجتمعا مسيحيا، فلا بد من مراعاة أن هناك ملايين من المسلمين يعيشون في أوربا، وأن لهم الآن ممثلين في البرلمانات وصناع القرار، وبالتالي فالوجود الإسلامي واستقرار أوضاع المسلمين هو مسألة طبيعية ولا بد من حدوثها.

أخيرا أعلن سفين الكلعي أن البوسنة ستقيم مؤتمرا مشابها لحوار الحضارات في نوفمبر المقبل، في إطار طي صفحة الحرب، لفتح نقاش حول حوار الحضارات وعلاقته بمنطقة البلقان واستقرارها.

كما أعلن أن البوسنة بصدد أن تصبح عضوا غير دائم في مجلس الأمن قريبا، عبر مفاوضات ديبلوماسية نجحت في أن تحوز دعم العديد من الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وبذلك تستكمل كل الخطط المؤهلة للانضمام للاتحاد الأوربي.

البوسنة مركز إسلامي في قلب أوربّا

رب ضارة نافعة، هكذا يقول المثل العربي، وهو يقصد به غالبا الإيعاز لمن يصاب بضر أو كرب أن يصبر ويحتمل حتى تعود الأمور لمسارها، وقد يكون من الصعب إطلاق مثل هذا المثل على الحالة البوسنية، لأن ما حدث في أثناء الحرب لم يكن مجرد ضارة، لكنه كان مأساة وكارثة مروعة، ومع ذلك يمكن القول إن هذا الأمر كشف الكثير مما لم يكن واردا أن يعرفه العالم عن تلك المنطقة.

فقد كان هناك اختلاف جوهري، كما أوضح لنا أدهم باشيتش في العصر الحديث بين كل من كرواتيا وصربيا من جهة، وبين البوسنة من جهة ثانية، ويتمثل ذلك في أن الدولتين كانتا تمتلكان حلما بتكون دولة قومية، بينما البوسنة كانت، ولاتزال دولة متعددة القوميات، فالبوسنيون يعرفون انهم كيان متعدد الأعراق يعرف المسلمون منهم بأنهم بوشناق، أما معنى أن يكون الفرد بوسنيا فهو أن يكون منتميا للبوسنة أيا كان دينه.

وهذا ما أكده لنا محمد علي نائب رئيس هيئة العلماء، وأن الذي فجر الحرب هو تلك الصراعات القومية، وموضحا أن أهل البوسنة بالعكس كانوا يحاولون دائما التقريب بين تلك الأطراف المتصارعة، ولم يكن ذلك مجرد تقية أو ضعف، وإنما موقف ثابت له جذور تاريخية تشهد على تسامح أهل البوسنة ولذلك رأى العالم كله خلال الحرب انهم لم يطلقوا رصاصة على كنيسة أو كاتدرائية، بينما كانت المساجد تقصف من قبل الجبهة الأخرى بمنتهى العنف.

وبذلك قدموا نموذجا فريدا للمجتمع المسلم، الذي كسب تعاطف العالم والغرب، وأكد إمكان وجود نموذج لدولة إسلامية متحضرة ترفض التعصب والتطرف.

ويؤكد محمد علي أن الاختلاف بين المسلمين في البوسنة وغيرهم من المسلمين الموجودين في أوربا أنهم أوربيون أصليون، وليسوا مهاجرين، كما أنهم مجتمع عرف بالثقافة والرغبة في المعرفة منذ تاريخه القديم، ولذلك أنتج أفرادا موضوعيين وعقلانيين غير عاطفيين يحافظون على دينهم وتقاليدهم بلا مظاهر شكلية ولا محاولة لفرض عاداتهم على أحد.

ولذلك تلعب اليوم مشيخة البوسنة التي يرأسها الدكتور مصطفى سيريتش دورا أساسيا في التنسيق مع المشيخات الأوربية، ليس في منطقة جنوب شرق أوربا فقط، وإنما امتدادا إلى أوربا الغربية التي وجدت في البوسنة نموذجا إيجابيا جيدا للمسلمين الذين يفرضون احترام الآخرين لهم بأسلوب تفكيرهم الناضج والمتوازن. كما يلعب الدكتور مصطفى سيريتش دورا كبيرا في توجيه المسلمين في أوربا لحقوقهم وواجباتهم كمسلمين يعيشون في ثقافة مختلفة عنهم، عليهم التمسك بدينهم، ولكن دون تهديد حريات الآخرين، لكي تتحقق لهم أيضا حريتهم.

وهذا الدور ليس جديدا في الواقع كما يشير الدكتور أورهان بيراكتارفيتش، أستاذ الفلسفة الإسلامية في كلية الدراسات الإسلامية بالبوسنة، موضحا أن الشيخ محمد عبده عندما زار البوسنة في عام 1905، وتعرف على هذه الكلية التي كانت تعرف آنذاك بمدرسة القضاة، عاد إلى مصر وطالب الأزهر بأن يستفيد من نظام التعليم المتبع في تلك المؤسسة، وهو ما يؤكد أن البوسنة لديها تاريخ طويل في تقديم نموذج الإسلام المتزن المتسامح القائم على العقل والمعرفة، والمنهج المتطور.

هذا النموذج هو في الواقع نتاج تاريخي للشخصية البوسنية كما أوضح لنا الدكتور عصمت بوتشاليتش، عميد كلية الدراسات الإسلامية الذي يقول إن البوسنة عرفت الإسلام قبل 500 عام، وفي القرن التاسع عشر أصبحت تابعة للإمبراطورية النمساوية الهنجارية، التي أرادت أن تبرز الأرثوذكسية، ثم بعد الحربين العالميتين اندمجت في دولة يوغسلافيا الشيوعية التي غيبت فكرة الدين، وفي كل تلك الحقب حافظ المسلمون في البوسنة على دينهم، لكنه أنتج شخصية ديبلوماسية.

ويضيف د. بوتشاليتش أن البوسنة عليها عبء في إطار الاستعداد للانضمام للاتحاد الأوربي لجهدها في نشر الفكر الإسلامي العقلاني، وفي إعداد الدعاة والأئمة الذين سيلتحقون بالعمل في المساجد الأوربية في كلية الدراسات الإسلامية، وفي إعداد أئمة من أوربا نفسها. ويقول: «فنحن نحرص على تخريج دعاة على درجة كبيرة من الثقافة والمعرفة بالفقه من جهة وبالثقافة الأوربية من جهة أخرى، ونقوم بتعديل المناهج ومناقشتها كل ثلاث سنوات وفقا للمتغيرات والمتطلبات العصرية من حولنا».

من جهته يؤكد مفتي وسط البوسنة نصرت بيجوفيتش أن الزمن الراهن هو أشد الأوقات احتياجا لفكرة التقارب بين الأديان والثقافات، وهو ما تشتهر به البوسنة تاريخيا، حتى عندما طرد اليهود من الأندلس في إبان تلك الفترة استقبلهم أهل البوسنة وأتاحوا لهم العيش في سلام وفي ممارسة تجارتهم بلا تضييق، وبالتالي، فقبل ذلك وبعده كانت البوسنة محلا لتعايش القوميات من مسلمين وصرب وكروات ويهود، حتى حدثت الحرب في 1992 والتي لم يكن سببها داخليا إطلاقا وإنما فرضت من الخارج. لذلك يؤكد فضيلة المفتي أن البوسنة بأئمتها وبرئاسة رئيس هيئة العلماء ستبذل جهدها في أحقيتها بعضوية الاتحاد الأوربي، لأنه يمثل في الوقت نفسه حماية لحرية كل الأعضاء، بمن فيهم كل مسلمي أوربا.

أما أدهم باتشيتش الذي درس اللغة العربية واللغات الشرقية وآدابها في جامعة الكويت، وأصبح مترجما للرئيس الراحل تيتو وهو في السادسة والعشرين من عمره، وكان أحد الشهود ضد مجرمي الحرب في لاهاي، ومساعد وزير الخارجية البوسني فيؤكد أن الدعوة للقوميات في المنطقة تتنافى مع مفهوم الوحدة الأوربية نفسه، هذا من جهة، بالإضافة إلى أنه يرى أن دخول الاتحاد الأوربي تعوقه اتفاقية دايتون التي جعلت من البوسنة ثلاثة كيانات، بينما كانت طوال تاريخها بلدا لا يؤمن بالقوميات، بل بالتعايش، ويوضح أن واضيعها لا يعرفون تاريخ البوسنة وأنهم أدركوا خطأهم، واعترفوا بذلك في مناقشات جمعته معهم، وشدد على أنهم لا بد أن يعملوا على تغييرها لتعديل الدستور واستكمال الإجراءات الخاصة بالالتحاق وبينها الاتفاق على رئيس واحد منتخب، وما يتبع ذلك من إجراءات ديمقراطية، وهو ما يعمل عليه الآن رئيس المجلس الرئاسي الدكتور حارث سيلازيتش والبرلمان والمؤسسات السياسية في البوسنة.

بسبب شهرة منطقة وسط البوسنة بالمياه والينابيع المعدنية والكبريتية فقد انتشرت مجموعة من المصحات العلاجية وبينها حمام المياه المعدنية فوينتسا على سواحل نهر فوينتسا، والمعروف باسم رومال Reumal، وهو أحد المراكز الصحية والعلاجية والسياحية في البوسنة والهرسك. من خارج المدينة ترتفع سلسلة جبال فوينتسا الغنية بالثرواث الطبيعية، في العام 1979 أقيم هذا البناء للمركز الصحي، كما أوضح د. الدان لوكوميتش مدير المركز، وهو يختص بعلاج الروماتيزم، ثم الأعصاب، والعناية خلال الفترة التي تعقب الإصابة بجلطات المخ، وحالات الكسور، وعلاج صياغة القلب الخاص بمرضى جلطات القلب، ويأتيه المرضى من أرجاء البلقان وأوربا الغربية، خصوصا من ألمانيا والسويد ثم المنطقة العربية، ويوفر شققا فندقية ذات مستوى جيد، ويراعي العادات الاجتماعية والتقاليد، وتتوافر به أحدث إمكانات العلاج سواء على مستوى الأجهزة الطبية أو الأطباء الذين يستقدمون من أرجاء أوربا والبوسنة والبلقان.

هنا ولد صاحب «جسر على نهر درينا»

منذ دلفنا إلى مدينة ترافنيك والتي عرفت أنها البلدة التي ولد بها الأديب البوسني إيفو أندريتش، الذي حاز جائزة نوبل في الآداب في العام 1961، وصاحب الرواية الشهيرة «جسر على نهر درينا»، وأنا أتحرق لزيارة البيت الذي ولد به وعاش قسطا من طفولته قبل أن ينتقل إلى مدينة فيشيجراد التي يقع بها الجسر الشهير بأقواسه الأحد عشر، والذي شهد كل الخلافات التاريخية بين الصرب والبوسنيين على مدى سنوات طويلة.

بيت ريفي الطراز أبيض، يغطيه سقف خشبي مخروطي الشكل يجسد الشكل التقليدي للبيت البوسني، وربما البيت الريفي في منطقة شرق أوربا، أو البلقان، يحتوي على ردهة صغيرة تصل بين ثلاث غرف، الأولى غرفة المعيشة التقليدية التي تتأثث بأثاث يعبّر عن الطرز الشرقية التي تأثرت بها البوسنة منذ الحكم العثماني، بينما تحولت الغرفتان الأخريان إلى قاعتين متحفيتين الثانية تشبه مكتبة ضخمة تضم صور إيفو أندريتش في مراحل مختلفة من حياته، بالإضافة إلى كتبه باللغة البوسنية وباللغات الأوربية المختلفة التي ترجمت إليها منذ حصوله على جائزة نوبل.

أما الغرفة الثالثة فتضم مكتبه الخشبي الذي تم نقله إلى هذا المتحف، وبعض الوثائق والمخطوطات لأعماله التي كتبها بخط يده، وبعض الصور الفوتوغرافية النادرة مع العائلة، وفي مراسم تسلم الجائزة المرموقة، ومع الكثير من رموز الثقافة والأدب العالميين، بالإضافة إلى الصورة الشهيرة التي صورت له قريباً من جسر درينا الشهير والذي تسبب هو في شهرته وفي تحوله إلى رمز للجسر الذي يربط بين الثقافات والأعراق المختلفة.

كنت أعتقد دائماً أن هناك علاقة وثيقة بين البيئة التي يعيش فيها الكاتب ونوع وأجواء كتابته، وقد كنت أحاول أن أجد هذا الرابط من خلال هذا البيت، لكني كنت أعرف أنه لم يكن مكانا لإبداعه، كما هو شأن البيت الصيفي لبتولد بريخت مثلا الذي شهدته في بوكو، المدينة أو بالأحرى القرية الصغيرة التي تقع على بحيرة قريباً من برلين. أو كما بيت هيرمان هسه في جنوب ألمانيا، قريبا من شتوتجارت، ومع ذلك فقد كان بالإمكان التأكد من أنه لا يوجد فارق كبير بين الطبيعة والأجواء هنا في ترافنيك، وبينها في فيشجراد، فحيثما ذهبنا هنا وجدنا قاسماً مشتركاً من الجبال الخضراء، والأشجار والنباتات الكثيفة، والمراعي الفسيحة الخضراء، والأنهار الجارية، والشلالات، والجداول وينابيع المياه التني تنبثق من الجبال كأنها تندفع من قبل قوة عملاقة مجهولة تعيش في أعماق الجبل. والغابات، والمساجد والكنائس، وعبق الأصالة والعراقة الذي يشير إلى تاريخ عتيق ومشترك ومتسامح لهذه البلد.

إيفو اندريتش.. قدم تاريخاً فنياً لتراث البوسنة ومنطقة شرق أوربا في رواياته وقصصه

هذه العراقة، مع الأجواء التاريخية، والإحساس المستمر بعبق الزمن وبوجود تراث قديم للمكان ولذاكرة الشعب، كنت أتخيل سطوته على أيفو أندريتش في الفصل الأول من روايته الشهيرة وهو يصف بناء الجسر، ويجعل منه كائنا حيا، كأنه كان شاهدا بروحه على من عبروا أعلاه، ودماء من قتلوا قريبا منه تكاد تنطق بالخوف والفزع الذي واجهه القتلى قبل موتهم، وغيرها من التفاصيل الدقيقة التي منحت هذا الجسر بالفعل دورا تشخيصيا مهما بين الأعمال الأدبية التي تناولت آثارا، أو أبنية، وجعلت منها رمزا شأن هذا الجسر. وهو في ظني ايضا تأثير مباشر لعلاقة الإنسان الوثيقة بالطبيعة في بلاد كهذه، تكون شخصيتها العذبة هذه الطبيعة.

فهذه الرواية الشهيرة تتناول بشكل فني رفيع تاريخ الخلافات التي مرت على المنطقة وتأثير الاحتلال التركي ومن ثم النمساوي، كما رصدت الأديان والوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي وتحولات منظومة تفكير الناس وقيمهم مع مضي الزمن من خلال جسر، الذي ربط الماضي بالحاضر، ووصل بين الصربيين والبوسنيين، والذي شهد على مر العصور خلافاتهم العرقية والوطنية والدينية.

وكانت فكرة بناء جسر من قبل كبير الوزراء الذي أرسلته الإمبراطورية العثمانية لحكم تلك البلدة، بدافع انتمائه الغامض على ذاكرته لوصل طفولته في بوسنيا بمرحلة حياته الجديدة. وهكذا أعلن قرار بناء جسر فوق نهر درينا، كهدية منه إلى سكان البلدة.

ولد إيفو اندريتش في هذا المنزل بمدينة ترافنيك بالبوسنة سنة 1892، ينتمي إلى أسرة كاثوليكية يعمل أفرادها في الحرف والتجارة، توفي أبوه فجأة ،حين كان عمره لا يتجاوز الثانية ، فلجأت أمه التي ترملت في الحادية والعشرين إلى أهل لها بمدينة فيشيجراد، وفيها قضى إيفو طفولته واختلف إلى المدرسة الابتدائية، ثم أتم تعليمه الثانوي بسراييفو، حيث قضى شبابه وتابع إيفو دراسته الجامعية في جامعات زغرب وفيينا وكراكوفيا، حيث تخصص في التاريخ واللغات السلافية. اعتقلته السلطات النمساوية عام 1914 لانتمائه إلى منظمات الشباب القومية الثورية، بعد السجن فرضت عليه الإقامة الجبرية إلى حين صدور عفو عام عنه سنة 1917 فتابع دراسته ليحصل على درجة الدكتوراة من جامعة جراتش. ولاحقاً انتقل للعمل في السلك الديبلوماسي. ومن عام 1939 إلى 1941 عين سفيرا ليوغوسلافيا في برلين. نشر بدءا من عام 1918 يومياته، ونشر نثراً غنائياً بعنوان «قلق» وقصص «طريق عالية دييرزبليز» و«أقاصيص جديدة» حتى عرف بكونه قصاصاً. ومن أبرز أعماله الروائية «أخبار ترافنيك» و«الآنسة».

 

 

إبراهيم فرغلي






صورة الغلاف





البوسنة والهرسك.. وجه الإسلام المشرق في قلب أوروبا





المدخل القديم لمدينة سراييفو، حين كانت مسورة بالكامل





مشهد خاص بسراييفو: صباح كل يوم يأتي الكهول من المتقاعدين للعب الشطرنج في هذه الساحة





سوق باتشارشيا، مركز تسوق ونزهة لاهل سراييفو والسياح





من هذا الموقع من باتشارشيا يمكن رؤية مئذنة مسجد دوراق المشيد في عام 935م. وأعلى الهضبة تستقر قلعة يايتس التي بناها القائد العسكري النمساوي سافريسكي حين وصل سراييفو بداية القرن الـ 17م





ياسميلا جبانيتش: بعد حصول فيلمها «جرابافيتسا» على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين لفتت أنظار أوربا إلى السينما البوسنية





دامر إماموفيتش، ابن المطرب اليوغسلافي الشهير زعيم إماموفيتش، وأحد رموز التجديد في الموسيقى البوسنية





شارع تيتو: أحد الشوارع التجارية الرئيسية في سراييفو





ضريح الزعيم البوسني الراحل عزت بيجوفيتش، يتوسط مقابر شهداء حرب البوسنة في منطقة كوفاتشي





المدرسة الملحقة بجامع خسرو بك والتي كانت أقدم مدارس البوسنة وتعود لعام 1530م





أمينا إمانوفيتش: مترجمة ودارسة علم نفس، ومحررة الكتاب السنوي لمهرجان شتاء سراييفو





من اليمين: ستانيسلاف ستييبتش، أمير تشوليتش، أمينا أومانوفيتش، عزالدين إيزيتش، شباب سراييفو من مختلف الأعراق يتجاهلون ماضي الحرب، ويتعايشون بأفق جديد





ليلا كوربوجوفيتش، إعلامية متخصصة في الثقافة بتلفزيون البوسنة





أميلا رادان: نجمة عروض الأزياء في يوغسلافيا سابقا، ومؤسسة مهرجان أسبوع الموضة في سراييفو، إضافة إلى مجلة «موضة»: ووكالة الأزياء «فينيرا»





المساجد والأنهار جزء من طبيعة موستار أيضا





جسر المصلى في موستار





الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية تتجاور مع المساجد والمعابد في ارجاء البوسنة





وثيقة عهدنامة، تعود لعام 1463م وتعد أقدم وثيقة لحقوق الإنسان عرفها العالم، كتبها الحاكم العثماني محمد الفاتح الثاني إلى رهبان الكنائس يؤمنهم على حرية ممارستهم عقائدهم





تعانق المسلمين والمسيحيين في البوسنة: تراث طويل من التسامح، وفي الصورة يقف المفتي السابق لوسط البوسنة حافظ باشيتش مع رئيس قساوسة كنيسة الفرنسيسكان في فوينتسا أميركو ميدانتيتش





كلية الفنون الجميلة في سراييفو





النصب التذكاري الذي يبين أبراج الكويت في موستار، تأكيدا على العلاقات الوثيقة بين الكويت والبوسنة ودور الكويت في الإسهام في إعادة ترميم جسر المصلى في موستار





مفتي وسط البوسنة ومحافظ مدينة أحمتشي، يشهدان الذكرى السنوية لمذبحة احمتشي





يقرأون الفاتحة على أرواح الشهداء ضحايا المذبحة على يد القوات الكرواتية





أب وأم يتذكران اسماء الأهل ممن راحوا ضحية لحرب عرقية كلفت البوسنة الكثير





الزي البوسني التقليدي: الأرثوذكسي والإسلامي والكاثوليكي





فتاتان تستعيدان تفاصيل مذبحة أحمتشي، وربما أسماء عائلتيهما





الزي التقليدي في فوينتسا، يعانق الزي العصري الحديث





سفين الكلعي: وزير خارجية البوسنة





أدهم باشيتش: نائب وزير الخارجية البوسني، وسفير البوسنة الأسبق في الكويت





عصمت بوتشاليتش





مبنى مشيخة البوسنة الذي يرأسه رئيس هيئة العلماء الدكتور مصطفى سيريتش مفتي البوسنة





محمد علي





د. أورهان بيراكتارفيتش





مسجد من مساجد مدينة موستار





إحدى طالبات كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو، تقضي وقت البحث في مكتبة المعهد





مبنى كلية الدراسات الإسلامية





قاعة كلية الدراسات تجمع الطلاب والطالبات، بين المحاضرات





العمارة الإسلامية العثمانية جزء أساسي من تراث عمارة المساجد في البوسنة





مصحات العلاج الطبيعي.. ينابيع المياه المعدنية مراكز جذب لمصحات العلاج الطبيعي





د. إلدان لوكوميتش





مصحات العلاج الطبيعي.. مركز للعلاج الطبيعي في فوينتسا التي تعرف بمياهها الكبريتية





المنزل الذي ولد به الكاتب البوسني إيفو أندريتش





إيفو اندريتش أمام الجسر الشهير (صورة من مقتنيات متحفه)





غرفة المعيشة، التي ولد بها أندريتش





متعلقاته ومخطوطات بخط يده والمكتب الذي كان يمارس الكتابة عليه بعد نقله إلى متحفه الشخصي





المكتبة التي تضم مؤلفات أنريتش والتي ترجمت للعديد من لغات العالم عقب حصوله على جائزة نوبل للآداب في عام 1961