ظفار كَهفُ الأسْرار!

ظفار كَهفُ الأسْرار!

منذ 3089 سنة بالتمام والكمال، أرسلتْ جدَّتُنا الملكة الفرعونية حتشبسوت بعثتها التجارية الشهيرة إلى ظفار! لم تكن رحلة وحيدة، ولكنها أصبحت الأشهر بين 11 رحلة أخرى بدأت في عهد الملك خوفو باني الهرم الأكبر في سنة 2590 قبل الميلاد، وانتهت في عهد الملك رمسيس الثالث سنة 1160 قبل الميلاد. وسبب شهرتها هو ما رأيته على جدران معبد الدير البحري من تسجيل دقيق وتوثيق عميق لكل ما أتت به بعثة الملكة من أرض اللبان، وهانحن في العام التاسع من الألفية الثالثة نعود إلى ظفار، فهل لا تزال تحمل لنا سرًّا؟!

مثلُ بساطِ ريح تهادت الطائرة العُمانية بين سماء من النَّدى المضفَّر بالسَّحاب، وأرض من العشب الأخضر الذي يكسو في عز الصيف الأرضَ اليباب. إنه خريفُ صلالة، المدينة الثانية بعد العاصمة مسقط، في سلطنة عمان.

كانت الطائرة بمنزلة منتجع لجنسيات عديدة؛ لاشك أن كثيرًا منها جاء باحثا عن الهدوء الذي تبعثه في الأوصال شلالات دربات، أو الراحة النفسية التي تبثها في الروح مروج المنطقة، وربما كنتُ مثلهم، إلا أنني بحتُ لدى وصولي لمستقبلي الكاتب عبد الله العليان بأنني جئتُ باحثا عن «كهف الأسرار»!

في كتاب «البلاد السعيدة» للمؤرخ بروتردام توماس نقرأ: «لو أن هناك بقعة في الجزيرة العربية تستحق صدقا لقب البلاد السعيدة، فهي ظفار. فإليها جاء المصريون القدماء باحثين عن اللبان الذي استخدموه في سرِّهم الأكبر؛ التحنيط، وهناك من يقول إن أعمدة النبي سليمان عليه السلام دفنت في مكان ما، ولم لا تكون هي نفسها ظفار الجنة التي ذُكرت في التوراة، وسوق العاج وريش الطاووس، وكنوز الذهب ومكاييل الفضة وقدور اللبان»؟!

اللبانُ والمرُّ في الأناجيل كانا من الهدايا التي قدِّمت إلى المسيح عليه السلام في بيت لحم. وربما كان ذلك اللبان مهده عُمان التي عرفت بأفضل أنواعه على مر التاريخ. وتنمو أشجار اللبان العُمانية المعروفة علميا باسم BOSWELLIA SACRA لتصل أحيانا إلى خمسة أمتار طولا. لم يكن استخدامه حرقا قربانا للآلهة وحسب، أو في التحنيط فقط، بل إنه استخدم في الطقوس الجنائزية، وكان المصريون القدماء يسمونه عسل الآلهة المتساقط. واستخدمه الأطباء اليونان والرومان في علاجات كثيرة، حتى أن نصوص أطباء المسلمين في العصور الوسيطة، وفي المخطوطات الطبية الهندية والصينية، تذكر أدوية يدخل فيها اللبان.

إلى قبر النبي أيوب

في منتصف خريف صلالة الذي يبدأ في يوليو وينتهي في سبتمبر تصبح ظفار ملاذا لمفردات الجنة، وأولها الطيور. وفي شهر أغسطس تكون ذروة الهجرات إلى شواطئ السلطنة ومروجها وينابيعها لطيور الزقزاق واليمام، وجُلم الماء الإيراني ذي القدم الشاحبة، واللقلق الأبيض، والحباري، والرفراف، والخرشنة، والجشنة، والعزيزاء والذعرة.

هانحن نتجاوز العيون التي تجري فيها المياه، ونمر بالشلالات، وخاصة شلالات دربات، التي تغمرنا برذاذ لطيف صاعدين إلى حيث قبر النبي أيوب. نمر بمسجد صغير، يتبادل اللونان الأبيض والأخضر الظهور على مئذنته القصيرة، وجدرانه المائلة مع المنحدر المائل المؤدي في نهاية المطاف إلى البقعة التي يعتقد زوارها الكثيرون أن أثر قدم النبي أيوب فيها، وقد رأيناها معهم، وأنه يرقد هناك في سلام. هكذا يؤمن الجميع، بمن فيهم حارس المقبرة، وهو يحمل على وجهه علامات الزمن جنبًا إلى جنب مع آيات السماحة. أسأله عن عدد الزوار يوميا فيقول لي: إنهم يتجاوزون المئات، خاصة في تلك الأيام التي يعتدل فيها الجو، وتطيب فيها الزيارة.

لمن تُفكُّ الطلاسم؟

في المساء انطلقتُ مع جمع من أبناء صلالة إلى حيث تستعيد بلدية ظفار طقوس المنطقة الشعبية في مهرجانها السنوي، تنشد فرقة شعبية أغاريد وأهازيج على إيقاع رقصات حركية في ميدان يحيط به من كل جانب جمعٌ غفير من كل الأجيال، أمام بيت تقليدي صمم ليشكل خلفية طبيعية للرقصات الشعبية.

نصعد إلى سطح البيت ونتابع المشهد وكأننا نقرأ كتاب تاريخ نفك به طلاسم عُمانية مغلقة منذ الأزل. بعدها قمنا بجولة تفقدنا فيها مقومات التجارة التقليدية والصناعات التي اشتهرت بها صلالة، وأهمها البخور، وبعدها تحدثت قليلا إلى الإذاعة المحلية قبل أن ألتقي مع فنانة بريطانية تستلهم الطلاسم العُمانية لعزف ترانيم لونية خالصة؛ باتريشيا ميلنز.

السرُّ وراء حرصي على موعدي مع ميلنز أنها سبقتني إلى كهوف صلالة، وقرأت موسيقاها البصرية، واستعادتها في ثيمات شعبية من الكتابات والعلامات، مستخدمة طرائق هندسية لإعادة ترتيب وخلق مفردات لوحاتها، بأكثر من تقنية، من أهمها تقنية الكولاج، وخلال أوراق مصنعة خصيصا لها.

مشروع الفنانة حول الرسوم

العلامات التي تضمها الكهوف الظفارية في سلطنة عُمان، يعود لاهتمامها الأساس بالعلامات، سواء كانت بالريشة أو بالقلم أو كانت علامة ملونة أو سواها. الكتابات بالنسبة إليها عامل مهم يفيض بالحياة، وبعد زيارتها ظفار (في جنوب عُمان) أكثر من مرة، وإقامتها في أريزونا عاما، وأبحاثها ذات الصلة بفن الكهوف، جعلها تتحين الفرصة لزيارة كهوف ظفار وتمعن في دراسة تلك العلامات بصحبة دارس للفنون الصخرية. وعاودت الزيارة مرة بعد أخرى. ورسمت الكثير من الاسكتشات وأخذت العديد من الصور، لتنجز سلسلة من اللوحات ذات الصلة بهذه العلامات باستخدام حروفيات أيضا. تقول ميلنز «أنا كالطفل الذي يجرب، وأنا مازلت في تلك المرحلة من إنجاز الموتيفات الطلسمية، لكني أرى في تلك العلامات إضاءات مباشرة، كما لو كانت نسقا اتصاليا وأساسيا، وبشريا».

ولكن ما يُمثل للفنانة رمزًا ونقشًا وعلامة، هو كتابة، ومعنى، وحروف. لكنها تستحق من يفك شفرتها، ويردها إلى سيرتها الأولى حين كانت لغة تُنطق ولسانا يُفهم!

ماذا تقول الجدران؟

الطرق التي كنا نراقبها من نافذة الطائرة خادعة. فمن العلياء تتبدى لنا كما لو كانت عروقا من الرماد على بساط أخضر، لكنها الآن أمامنا ممرات للمياه التي تنسال، في آلاف القنوات، من الشمال إلى الجنوب، لتصنع عينا هنا، وتصب في نبع هناك، وتعبرها السيارات وهي تحمل أصحابها لاكتشاف أسرار كهوف ظفار.

بقر يرعى، وماعز تسعى، ثعالب تعدو، وضباع تجري، وذئاب تفر، وخيول تكر، وجمال تخب، ونمور تدب! إنها ليست حديقة حيوان عصرية، بل هي جدران الكهوف التي تحمل رسومًا لا تزال إلى اليوم حية!

لم تكن تلك الكهوف مهجورة في الزمن البعيد، بل كانت مؤهلة للسكنى، بموقعها المرتفع الآمن، وغرفها المتسعة، وسقوفها الآمنة. كانت تلك الكهوف بيوتا للرعاة، ربما تختلف كهوف رعاة الماعز عن غيرها في أنها تكون قرب الأماكن الوعرة، لأن تلك الماعز لا تأتلف مع ما سبق من كائنات! ارتفاع هذه الكهوف وبعدها الطبيعي عن كهوف أصحاب الماشية جعلها الأكثر حفظا لصور النقوش الملونة على جدرانها لما ذكرناه من حيوانات.

وإذا كانت الجمال هي الأكثر ظهورًا، فإن الخيول بدت في وضع قتالي غالبا ما تحمل محاربا ورمحًا، أما الوعول فرُسمت في قطعان مثلما ظهرت فرادى وثنائيات، وقد شدد رسامو الكهوف على قرون الوعول فأطالوها، وجعلوها معقوفة إلى الوراء.

وعدا صور الحيوانات، تخبرنا جدران كهوف ظفار الأبدية بصور الأشخاص، وهيئات السفن، وأشكال النجوم، مع أشكال هندسية مختلفة متنوعة الحجم واللون والمعنى. وفي حين تكثرُ صور السفن في الكهوف المجاورة لبحر عُمان، فإن الأشجار الأكثر تواترًا في رسوم الكهوف هي لشجر جوز الهند (النارجيل)، وفيها تتميز الغصون عن الجذع، وتكثرُ أيضا في الكهوف المجاورة للسواحل. العجيب أن النارجيل الآن يعد ثمرة محلية مشهورة، ويمكن أن تتوقف لدى أحد المحلات اليوم في الأسواق، تبيع ثمار النارجيل، المثلجة أحيانا، فيحفرون لك فيها ثقبًا ويمدون داخله ماصة تذوق معها جوز الهند.

لا تقدم الرسوم مجرد الأشكال، بل تقص علينا أيضا طريقة الحياة، فقد تجد جمالا وثورًا وبقرة صغيرة مربوطة الساق بحبل، وهو رسم يدلنا على الطريقة المتبعة عند رعاة البقر في ظفار لتحريك قطعان الماشية. مثلما تحكي رسوم أخرى عن طرق الصيد، وشكل الرمح، ووضعية القناص. أضف إلى ذلك أن تلك الرسوم تكشف لك عما انقرض من حيوانات، وقد يمزج الرسام «المبتدئ» بين الوعل والغزال، حين يرسم «ابن سولع»، وهو من الوعول التي تمتلك قرونا مستقيمة. ويصور رسم يجمع بين تلك الأنواع الثلاثة وجد قرب شاطيء المغسيل كيف تشرب من نبع جار. وأغرب الرسوم هو ما رأيته لرجلين فوق حصان واحد مع جمل يحمل ما يشبه السلم «وأظنها شبكة صيد بدائية».

فخارُ ظفار

لم تكن الفنانة باتريشيا ميلنز وحدها التي أولت أسرار ظفار اهتمامها، وخاصة ما تمتلكه المنطقة من تراث تقليدي لصناعاتها الشهيرة، وفي حين يمتد تاريخ الفن الحرفي بسلطنة عمان لعمق ضارب في التاريخ ربما منذ أن هوى المعول الأول ليصوغ من الحجر أداة فيها من النفع مثل ما فيها من الفن، تراث يمتد من الماضي إلى الحاضر، مثلما يمتد من بوابة عمان إلى الشمال الشرقي، وإلى الجنوب عبر جبال ووديان وصحراء وموانئ، فإنه يصل إلى أقصى بقعة في جنوب سلطنة عمان بمحافظة ظفار ليكون حجر الأساس لرحلة إبداعية سجلها كتاب شامل عن الحرف اليدوية العمانية وتطورها التاريخي،ويمثل هذا الكتاب السجل جزءا من مشروع توثيق تراث للحرف اليدوية العمانية استغرق سنوات عبر جمع مادة علمية وموثقة، تؤكد على دور الفن ضمن سياق أكبر في منطقة الخليج، مما يوفر مادة بحثية مصورة ومرجعية ليست فقط للسلطة بل ولشبه الجزيرة العربية ذاتها.

وراء هذا الجهد البارز يقف راعي المشروع وصاحب المبادرة في تنفيذه السيد شهاب بن طارق آل سعيد. مثلما يقف الباحثان الصديقان مارشا دور ونيل ريتشاردسون برعاية الجمعية التاريخية العمانية ومتحف بيت الزبير، من أجل تأسيس هوية معترف بها عالميا للحرف اليدوية العمانية والإسهام في إعادة الاعتبار للتراث والثقافة العمانية، وإضاءة الجهد الفني الذي بذلة الحرفيون العمانيون على مدار التاريخ، وبالمثل فتح أسواق جديدة لهؤلاء الحرفيين بعد أن كادت صناعتهم تنقرض؛ إما بسبب منافسة الأسواق الآسيوية الرخيصة التي تدمر هذا التراث أو بسبب عوامل النمو والتطور في بلدان الخليج كافة ، الأمر الذي أخرج المنتجات الحرفية اليدوية من المنافسة أمام طوفان البضائع البديلة المستوردة.

فصول الكتاب الأربعة تغطي اتساع التأثير الجغرافي والاجتماعي والثقافي على فرادة الحرف العمانية وتناقش الأسس النفعية لهذه الحرف، بل وتتوسع في الإشارة إلى عناصر التصميم المستخدمة والتي تميز الحرفيين العمانيين عن سواهم، فمثلا عن التأثير القبلي في التصميم الخاص بتلك المنتجات الحرفية يقول المؤلفان إنه « في المجتمع العماني حيث حددت القبائل وجه التاريخ مثلت الهوية عنصرا أساسيا للثقافة، إذ كان ارتداء ملبس بعينه أو زينة بذاتها أو استخدام أسلوب ما في حمل السلاح وسيلة مهمة في الإعلان عن الهوية ولا تزال بعض التصميمات مرتبطة بجذورها القبلية، وهو الأمر الذي يصير إلى زوال شيئا فشيئا بعدما ذابت تلك الحدود الأولى».

عند الاحتفال بحراس الماضي وهم حملة مشعل الحرف التراثية على مر الزمن، يتضمن الكتاب كماًّ هائلا من الصور للحرفيين الأحياء الذين التقوا بالمؤلفين في رحلتهم عبر المناطق النائية للوصول بالتوثيق إلى غايته.

في القسم الخاص بصناعة الفخار في ظفار أترجم بعض السطور التي يجدها المؤلفان جديرة بالتوثيق: «إن فخار ظفار، مثلُ أرض البخور ذاتها تستطيع تمييزه عن باقي فخار البلاد كلها، سواء في الشكل أو تقنيات الصناعة أم الصانع نفسه. ومع استمرار هذه الصناعة لا تزال الأرض تشي بما تحتها بفضل المنقبين عن الآثار في الحلة، وعين حمران، والبليد والمغسيل «أماكن تنقيبات أثرية في محافظة ظفار» بشكل يؤكد استمرار استخدام طريقة الصناعة نفسها وموادها الخام بل وأيقونات التصميم التي تعود للعام 400 قبل الميلاد. ويمتد هذا التشابه بين الموجودات الأثرية والمنتجات المحلية اليوم إلى التشابه في نوع الطمي المستخدم، واعتماد وحدات بعينها لتصميم النقوش والدوائر والصبغ الأحمر كعناصر تزيينية تشبه المثلثات المقلوبة تفصل بينها النقاط.

في قريتي الفخار «طاقة» و«مرباط» اللتين تقعان على الساحل الظفاري شمال مدينة صلالة، حيث صيد السمك وسيلة لكسب العيش، نجد أن انشغال الرجال بصيد السمك يجعل من نساء مرباط وطاقة حرفيات ماهرات يتخذن من صناعة الفخار إحدى وسائلهن في المشاركة، وهى مشاركة محصورة على الجنوب حيث إن صناعة الفخار في الشمال هي مهنة الرجال.

بالمجمع الذي أقامته بلدية ظفار للحرف الشعبية نتناول بعض الأغذية التي لا تزال تصنع تقليديا كالخبز التنور والحلوى، لا شك أن مستقبل هذه الحرف اليدوية على المحك. وبعض هذه الصناعات يشرف على الانقراض والدخول إلى زاوية النسيان والمتاحف والفلكلور البصري الموسمي، وهو أمرٌ لا نتمناه. هكذا كنتُ أنظر للمباخر الملونة الأطراف، التي تشبه أبراج القلاع، والتي اقتنيتُ بعضها، أستعيد على دخان بخورها حكايات ظفارية.

 

 

أشرف أبو اليزيد