أولاد حارتنا في التنظيم السري
تعقيب على
مقال
عندما كتب "نجيب محفوظ" ملحمة "أولاد حارتنا" ونشرها في "الأهرام" عام 1959 ثم صدرت في كتاب - دون إذن المؤلف - عن دار الآداب في بيروت. أثارت - ولم تزل - عاصفة من النقد ما بين مؤيد ومعارض، وكتب عنها ما يفوق حجم الرواية التي بلغت أكثر من خمسمائة صفحة من القطع الكبير.
ولكن عندما كتف "نجيب محفوظ" رؤيته وصاغ الفكرة نفسها في قصة قصيرة من خمس وثلاثين صفحة، وأطلق عليها اسما مراوغا هو "التنظيم السري" لم يهاجمها أحد، ولم يلتفت النقاد إلى مغزاها الكامن، فقد فسروها من منظور سياسي بحت.
البعض قال إنها ترمز إلى ثلاثة من زعماء مصر الراحلين. والبعض الآخر أكد أنها تعبر عن الفصائل المختلفة لمنظمة التحرير الفلسطينية. وأخيراً وليس آخرا هذا التفسير الذي قدمه الناقد "عبدالرحمن أبوعوف" في عدد ديسمبر 1991 من مجلة "العربي"، فقد كتب يقول إن القصة تقدم "نظرة رمزية ساخرة تحاول مناقشة تبدل وتغير العلاقات السياسية والاجتماعية والأخلاقية في مصر في السنوات الأخيرة. ولأن الواقع السياسي والاجتماعي كان يغلي في مصر، نبتت تحت الأرض التنظيمات السرية ترسم وتخطط لقلب النظام. لذلك تأتي قصة (التنظيم السري) كدليل على سيادة هذه الظاهرة ويغرقنا "نجيب محفوظ في آليات وطقوس التنظيمات السرية ودهاليزها وغموضها".
غير أن الناقد يقترب من المغزى الحقيقي للقصة عندما يقول: "إن البعد السياسي الظاهري لبناء القصة يخفي بعدا آخر أكثر عمقا ودلالة، إنه يناقش قضية أشمل هي جبروت وسطوة نظام الحياة وأبديتها ونظام القدر وتسلطه وسطوته وتحكم قوى مجهولة في مصير وحرية الإنسان".
ولنبدأ أولا بقراءة متأنية لهذه القصة الغامضة والصريحة في الوقت نفسه:
هم مجموعة من الرجال يحدوهم الأمل في بناء دنيا جديدة ذات قوانين جديدة، مستهدفين في النهاية غاية واحدة هي الرغبة الجنونية المقدسة في تغيير الكون إلى الأصلح لسعادة الجميع. أما الرئيس الأعلى هذه المجموعة فهو"لم يره أحد في مثواه المجهول. تخيلته في صورة عملاقة جبارة جديرة حقا بالإجلال والخوف".
هذه الأسرة "التي أخرجتنا من العبودية، وطهرتنا من عبادة الأصنام". أما أهدافها فهي على حد قول رئيسها المباشر: "التصدي للوجه القبيح والانهيال على قيمه باللكمات الصادقة. فلنجعل من الكمال زينتنا، ومن الحب رابطتنا، ومن الطاعة شعارنا، ولنعمل في نطاق ما نعرف، ولا نسأل عما لانعرف. واحذروا الخطأ فلا خطأ يمر بلا عقاب".
بعدها يتعرف الراوي على فتاة جميلة لا مطعم "فلسطين" وأنشأ معها علاقة غير شرعية فيعاقب على فعلته. ثم تقرر أن ينتقل إلى أسرة جديدة. وهي وحدة ضمن وحدات متصاعدة تنتهي بالجهاز الأعلى.
أما الرئيس الجديد فهو بعكس الرئيس السابق "شاب جميل المحيا، رقيق الحاشية، يأسر الناظر إليه بلطفه وعذوبته" وكان الاجتماع الأول في حديقة "الوردة البيضاء" - رمز الحب الصافي - والعمل الجديد ذو أسلوب آخر لا يتنكر للماضى ولكن يستكمله بأسلوب جديد وهو كما يقول الرئيس: مثل زارع يرمي في الأرض ببذرة لا تكاد ترى. ولكنها ستنمو ذات يوم شجرة باسقة يلوذ بظلها المعذبون في الأرض. والمهمة الجديدة هي التغني بالوجه الجميل المنشود. حلم اليوم وحقيقة الغد.
ولكن هذه الدعوة أثارت حفيظة رجال الأمن، فتم القبض على رئيسهم، بمعونة أحد الزملاء الذي باع نفسه ودل على الرجل. ويقال إنه قتل وهو يستجوب.
أما الراوي فقد تزوج بالفتاة التي قابلها في مطعم "فلسطين"، تلبية لنصيحة رئيسه الثاني. وعندما رزق بولد حضر إليه مندوب شركة "الشرق" للتأمين في يوم "الجمعة" ليخبره بأنه جاء من أجل ابنه. لأن التأمين أصلا للذين لا يملكون. وهو درجات ولكل درجته. ودس في يده ورقة أشعلت روحه بالنار المقدسة من جديد. ويذهب إلى الموعد المحدد في بيت عتيق بالقلعة ويعرف أن "الأسرة الجديدة هي الأخيرة أيضا" وأن العمل يقوم على القواعد المرعية في الأسرتين السابقتين. فلا يجوز أن تهمل تجربة ناجحة أثبتت جدواها. ولأن جميع الأسر وحدات في أسرة كبيرة واحدة ذات هدف واحد ورئيس واحد.
ثم انفجر رأي لم يقنع بسائر الإنجازات، وتلهف على النصر النهائي. وتحت سطوة الآراء المتصارعة عقد مؤتمر عام واحتدم النقاش حتى انتهى بكل فريق إلى التحيز إلى أسرته وإيثار أسلوبها على جميع الأساليب. وكانت النتيجة الحتمية هي أن تمزقت الوحدة. ويلجأ الراوي وهو في قمة يأسه إلى رب أسرته الذي يحذره من اليأس ويقول له بنبرة كلها تفاؤل:
- اندفع بلا تردد. اصنع ما هو صادق وطيب. ما هو إلا امتحان. وككل امتحان فالأجوبة الصحيحة معروفة من قبل.
ولا أزعم أنني عرفت الإجابة الصحيحة لهذه القصة الصريحة الغامضة. ولكن في لقاء مع أديبنا الكبير "نجيب محفوظ" قلت له: إنها تلخيص مكثف لرواية "أولاد حارتنا" وإنها تعبر عن أتباع الديانات الثلاث. وهنا تخلى عن تحفظه المعهود وقال علي بالنص:
- أنا أهنئك لأنك أول من يفسر هذه القصة كما قصدت من كتابتها. لأن كل من قرأها فسرها علي أنها قصة سياسية ترمز إلى ثلاثة من الزعماء الراحلين ويبدو أن اسم القصة هو الذي خدعهم.