عاصم الباشا وحسن م. يوسف

عاصم الباشا وحسن م. يوسف

«أروني منحوتاتكم.. أقل لكم مَن أنتم!»
«نحن كالتماثيل السومرية: كلّ منا عالمٌ بحاله ولحاله»

  • «العيش دون السعي إلى المحال هو بمنزلة الموت»
  • «مصيبتي أنني أشعر بُعَيْد الكفّ عن أيّ عمل بإخفاق ما»
  • «النحت عندي شيء شبيه بالصراع والمادة، كما البشر، لا تمنح نفسها إلاّ إذا منحتها التقدير الذي تستحقّه»

بالرغم من مضي أكثر من عشرين عاماً على هجرة النحات عاصم الباشا من سورية الى إسبانيا، فلايزال حاضراً بقوة في المشهد الثقافي السوري،كنحات مقتدر، تتسم أعماله بالأصالة والعمق والجرأة مما يضعه في مكانة متقدمة، كواحد من أهم أعلام النحت العربي المعاصر.

ولد عاصم الباشا في بوينس أيرس «الأرجنتين» عام 1948 من أب سوري مغترب وأم أرجنتينية. أعلنت مواهبه الفنية عن نفسها في وقت مبكر، فدرس الرسم في أكاديمية «بويدو» في بوينس أيرس، لكن دراسته انقطعت بسبب انتقاله مع العائلة إلى مدينة يبرود التي تقع على بعد مئة كيلو متر من العاصمة السورية دمشق.

أمضى عاصم الباشا سبع سنوات في موسكو أكمل خلالها تخصصه في النحت النصبي، وحصل على درجة الماجستير، ونظراً لتميزه بين أقرانه فقد رشّح للعمل كمعيد في معهد سوريكوف العالي للفنون الجميلة. لكنه آثر العودة إلى سورية عام 1977 ليكتشف أن ارتباطه قد نقل إلى وزارة التربية. وهكذ أرسل إلى شمال سورية ليعمل معلّمًا بالوكالة في مدارس الحسكة الابتدائية دون قرار تعيين.

بعد أداء خدمة العلم، التحق الباشا بجامعة السوربون في باريس، لإعداد رسالة دكتوراه في تأريخ الفن وعلم الآثار، لكنه لم يكملها. وبعد عدة تنقلات هاجر إلى إسبانيا حيث يقيم حاليًا في قرية «بورشيل» برج هلال القريبة من غرناطة.

وقد التقيته في بيته في قرية بورشيل برج هلال- قرب غرناطة فكان هذا الحوار.

  • في حوار أجريناه قبل واحد وعشرين عاماً عقب معرضك الفردي الأخير في صالة أورنينا بدمشق تحدثنا عن علاقتك بالمكان، ومنذ عشرين عاماً هاجرت إلى إسبانيا وألقيت عصا الترحال في مدينة غرناطة، آخر معقل للدولة العربية في الأندلس. يومها حدثتني عن «عجلات قدرية جعلت مرورك في هذا العالم ترحالاً لا يكف»، ماذا عن تحولات علاقتك بالمكان؟

- مازلت الغريب إياه.. أينما حللت. سبعة عشر عامًا في غرناطة بعد أربعة أولى أضعتها في مدريد لم تغيّر من الأمر شيئًا. وما من أمل في أن يتبدّل شيء.

كلّ منّا تكوّن من التراكم الثقافي الذي تسنّى له معايشته. هذا الركام هو تكويني الفكري والحسّي. ولسورية الجانب الغالب في هذا الزاد، على الرغم من أنني عشت ثلثي عمري خارج سورية «والبلاد العربية عمومًا». ربما لأنني عشت فيها يقظة الفكر وبدأت تحسّس الكون على ضوء ذلك الفكر، وانغمست في تراث المنطقة، وبخاصة القديم منه.

  • أستطيع القول، من خلال زيارتي لبيتك ومشغلك في قرية برج هلال - بورتشيل بالقرب من غرناطة - إن كل أعمالك، القديمة منها والحديثة، تمد جذور جمالياتها الى المشرق وإلى سورية الطبيعية تحديداً، هل توافقني على هذا الرأي، وهل توصلت لاستنتاجات خاصة حول هذه المسألة؟

- في السنة الماضية قدّمت مداخلة في عجمان في إطار ندوة تحت عنوان «نحن والآخر» ركّزت فيها على نقطتين ساعدني النحت على إيجاد أجوبة حولهما «أو هكذا أتصور» الأولى حول الإحاطة بالحقيقة والثانية متعلّقة بالحركة في الكتلة. قلت بصدد الأخيرة:

«أروني منحوتاتكم أقل لكم من أنتم... الآشوري، السومري، الآرامي، الكنعاني، الفينيقي، المصري القديم، الحثي، الفارسي، اليوناني، الروماني، البيزنطي، الهندي، العربي،... كل هذا لي لأنه كان منّي، وكنت له.

ثم تراكم فوق هذا ما تسنى، فأنا شديد الحنين إلى إفريقيا وآسيا، أما أوربا والأمريكتان فإنني أحياهما بفعل وجودي. تغيب عنّي أستراليا المستحدثة، لكن القديم، الأصيل منها، يعنيني. وما بالكم بالشرق الأقصى!

أكيد إنني أنسى إنجازات أخَر، لكن ذكر كلّ ما شارك في تكوّني قد يكون محالاً.. ثم أنني مازلت أبحث عنه.

  • ماهو الإنجاز الحقيقي الذي قدمته منطقتنا لفن النحت في رأيك؟

- الكتلة هي مادة النحت ووسيلته، والكتلة تحمل فور وجودها دلائل على حركتين أساسيتين: الخارجية منها، تلك التي نراها، والداخلية. قلت نراها ولم أقل ننظر إليها، فشتّان ما بين النظر والرؤية.. ومع الأسف فإن غالبية البشر اعتادوا النظر دون أن يتمكّنوا من الرؤية.

عندما نتعامل ونستغرق بنتاج منطقتنا ندرك أن أثمن ما قدّمته للتأريخ الإنساني والفنّي يكمن في الحركة الداخلية للكتلة.

كانت التشكيلات النحتية تُنجز بقليل من الإيماءات الخارجية. سيّان أكان الممثَّل واقفًا أم قاعدًا. نصادف التكوينات «الجامدة» إيّاها في بلاد الرافدين وعموم المنطقة.

ماذا يتأتّى عن هذا؟ هنا نلمس الأمر: الاهتمام الأساس كامن في الحركة الداخلية للكتلة. إنها كائنات تعيش بشكل عارم وغني في دواخلها. لا تحتاج إلى الحركة الخارجية لأن ما يعتمل في الداخل هو المطلوب التعبير عنه، والمسعى أفضى إلى هذا النمط من التمثيل، ثم استفحل ليغدو سمة نتاجنا النحتي.. وكوّن شخصيتنا وطبائعها!

  • إلامَ تشير هذه المعالجة؟

- إلى عمق الحياة الوجدانية «سمّها روحية إن شئت» لدى أهل هذه المناطق «ليس من قبيل المصادفة أنها كانت مهبط الأديان».

  • منحوتاتك شديدة الحداثة من حيث الأسلوب والتقنية، إلا أنك في كثير منها تتناول موضوع الخصوبة القديم قدم الحضارة في الهلال الخصيب، وغالباً ما تجسد المرأة كإناء لتلك الخصوبة، وقد أشار صديقنا الراحل الكبير سعد الله ونوس في دراسة كتبها عن أعمالك بعنوان «نحت الخواء» إلى خصوبة مخادعة في بعض منحوتاتك، ماهي أهم المراحل التي مررت بها خلال مقارباتك النحتية لموضوع الخصوبة؟

- لعلّ تلك الرسالة- الدراسة، التي كتبها سعد الله ونوس هي أهمّ ما كُتب عن عملي.

عندما تبغي السيطرة على المادة والأدوات وكلّ ما نعتمده فيما يُعرف بالعملية الإبداعية، سيّان أكانت الكتابة أو الموسيقى أو غيرهما، فالهاجس الأكبر هو أن تبلغ ذلك بالقدر الأكثر مقاربة من الكمال «وهذا محال بالطبع، كاليوتوبيا، لكن العيش من دون السعي إلى المحال هو بمنزلة الموت.. وكم من الأحياء-الموتى حولنا».

المهمّ، شغلتني موضوعة الخصوبة أكثر من غيرها: حوالي اثنتي عشرة سنة. كنت قبلها قد تنقّلت متخبّطًا بين مواضيع أُخَر، كالبرد والرقص ومحاولة معالجة الطبيعة الصامتة نحتيًا.. فضلاً عن الشخصيات كأبي ذرّ الغفاري «آنذاك كتب الشاعر الراحل ممدوح عدوان عن هذا العمل الذي فُقد ونشر صورته في الصحافة السورية» وغيلان الدمشقي «مجموعة وزارة الثقافة» وأبي العلاء المعرّي وبدر شاكر السيّاب بين آخرين.

التوقّف الأطول آنذاك كان مع موضوع التحوّل Methamorphose. استغرقني هذا الموضوع، قرابة السنتين قبل أن أتبيّن أن الردّ الأوضح على ما نحن فيه كان في الحقيقة التي تضمن لنا البقاء: الخصوبة.

عندما تفكّر بتمثيل الخصوبة لا يخطر في البال بقوة سوى الأرض والمرأة. استبعدت الأرض لأنها بحدّ ذاتها خصبة ولا تحتاج لنحّات يذكّر بذلك.. أما المرأة فمنها المقهورة، المعذّبة، القاسية، العذبة، المتهالكة، القوية، الغاضبة، الرضيّة.. الخ، وكلّهن يمنحن الحياة.

بعد اثنتي عشرة سنة أدركت أنني لن أحيط بها، بل كثيرًا ما كنت أنقطع عن العمل لشعوري بالعجز. لكن الحياة غنيّة، وتدلّنا دومًا على موضوع آخر ينتظر أحلامك الجديدة وإخفاقاتك الأُخَر.

حدثتني عن ثلاثة نحاتين عالميين أثروا فيك على رأسهم جاكوميتي ، حدثنا عن هؤلاء وما هي القيمة المضافة التي حققها عاصم الباشا لتجارب من سبقوه؟

المعلّمون القدماء في كلّ شيء وفي كل لحظة. لكننا نتواصل مع ما يطرأ. ولو التفتنا قليلاً إلى الوراء، إلى القرن المنصرم، لوجدت غزارة في التجارب والإضافات، ولو طُلِب منّي إيجاز ذلك لذكرت ثلاثة أسماء: الفرنسي هنري جوديير-بيرزيسكا «أضاف كنية زوجه البولونية على توقيعه» والسويسري ألبرتو جياكوميتي والإسباني خورخي أوتيثا. قلائل هم الذين يعرفون الأول والأخير، فجوديير مرّ في تأريخ النحت كما الشهاب وكانت فترة إبداعه جدّ قصيرة، كما الشاعر رامبو، لم تتجاوز السنوات الخمس، وذلك أنه قُتل سنة 1915 على جبهات الحرب العالمية الأولى عن أربع وعشرين سنة. لكنها كانت سنوات من العطاء الفذّ، كان خلالها من أعمدة حركة الفورتيسيزم Vorticism التي انطلقت في بريطانيا والتي كان على رأسها الشاعر المتميّز عزرا باوند والنحّات إبشتاين، ودنا منها النحّاتان برانكيوزي وتزادكين.

تكمن ميزة هنري جوديير في أنه حرّر الكتلة من «نير» رودان والقرن التاسع عشر. بالطبع كثيرون وضعوا لبناتهم في العملية، كالتكعيبيين مثلاً، لكن جوديير كان من السبّاقين.

ثم جاء جياكوميتي ليستعير من شرقنا الحركة الداخلية للكتلة ويضفيها على كائنات غربٍ كان قد أفرغ دواخل شخوصه، لذا لُقّب بالنحات الوجودي.

أما أوتيثا فهو من جعل من الفراغ مادة تُلمس.

من الصعب إيضاح المقصود من «تحرير الكتلة» و«الحركة الداخلية للكتلة» و «جعل الفراغ مادة» بمفردات مجرّدة.

أما الشقّ الأخير من السؤال فقد أربكني. مَن أنا أمام قامات كتلك؟ لست سوى أعور في بلد العميان.

لكن بودّي الإفصاح عمّا يدور في «مطبخي» الآن: تشغلني وتؤرّقني منذ سنتين أو ثلاث فكرة معالجة الزمن نحتيًا، أقصد الجانب الفلسفي وليس الشكلاني كما نصادفه عبر التأريخ من تمثيل الميلاد فالطفولة فاليفاعة فالشباب فالكهولة فالشيخوخة فالموت. لا بالطبع، همّي مغاير لهذا.

الطريف أن الثلاثة الذين ذكرتهم آنفًا دلّوني على الدرب بشكل ما. ولن أكشف عن «الوصفة» لأنني لست واثقًا منها بعد، ثم إن العمل وحده هو القول الفاصل.

  • في قرية «بورشيل» برج هلال قرب غرناطة وأمام مبنى أثري لتجفيف التبغ يتم تحويله حالياً إلى متحف ، ثمة نصب تذكاري لزوجين فلاحين من شمال سورية وهما يجلسان في حالة انتظار. وقد أطلقت على هذا النصب التذكاري اسم «الشغيلة» أين يقع هذا النصب التذكاري من تجربتك الإبداعية؟ وما الذي ينتظره هذان الزوجان؟

- في أوائل سنة 98 قمت بزيارة للبلد وتفقّدت الصديق سعدالله ونّوس عساه يرفع من معنوياتي، كما كانت العادة أثناء مرضه، لكنني وجدته متعبًا سئمًا من المعاناة والمقاومة. وجدته ينتظر الموت.

لعلّ هذا الانطباع القاسي هو الذي جعلني أرى الجميع من حولي في حالة انتظار. هذا ينتظر أن تُحلّ مصاعبه المالية، وذاك الحصول على فيزا للهجرة والآخر أن يتغّير النظام وذاك أن ينتهي زمن الجهالة... الجميع ينتظرون وما من أحد يعمل ليبلغ بغيته.

مجتمع برمّته في حالة انتظار!

عدت إلى مشغلي في غرناطة فتملّكني الموضوع واشتغلت عليه ما يقرب السنوات الثلاث. وعندما طُلب مني إنجاز نصب تذكاري تحية لشغّيلة الأرض بادرت في البدء، وبحماقة مطلقة، بإنجاز دراسة تمثّل فلاّحًا يحرث الأرض. كانت الغاية بالطبع إثبات معارفي أمام المسئولين ليدركوا أنني أعلم كيف تتوضّع العضلات وكيف تكون النسب وكم هو سهل أن تجعل المشاهد يحسّ وكأن العرق يتفصّد من جبين الكادح. لحسن الحظ لم أضطرّ لعرض تلك الدراسة السخيفة واستمتعت بتكسيرها. ثم أنهم اقتنعوا بضرورة تمثيل رجل وامرأة.

ثم حاولت الاستغراق في حياة ومعاناة الفلاّحين، وقد ساعدني دون ريب تواصلي السابق مع الوالد وفلاّحي يبرود.

حدث يومًا أنني كنت أحملق في المشغل بعمل يمثّل امرأة ورجلا قاعدين في حالة انتظار عندما أدركت أن الانتظار هو جزء من حياة الفلاحين، فهم يزرعون ويعنون بزرعهم ثم ينتظرون أن تقوم الطبيعة بدورها.

ارتأيت أنه تكوين مناسب ولا يتطلّب سوى وضع آثار تلك المعاناة، الجسدية والنفسية، على المعالجة التشريحية للجسدين، فأنامل من يعمل بالأرض لا تشبه في شيء أنامل الضارب على مفاتيح الحاسوب.

هذا ما حصل. لعلّه أفضل أعمالي.

  • خلف أعمالك وفي تفاصيلها ثمة ميل إلى السخرية المرة، يتجاوز الكشف الى الفضح ، ويتجاوز الفهم إلى السخرية، حتى ليكاد المشاهد يجزم أنك كمبدع معني بكشف الحقيقة أكثر من تجسيد الجمال والبحث عن الحب.

- إنما نعمل يا صديقي لأننا نحبّ. وهل تعتقد أن الجمال ممكن من دون الحبّ؟ أذكر هنا أفضل درس في علم الجمال تلقّيته في حياتي، وكان والدي هو المعلّم. أنت تعرف أنه كان فلاّحًا يئس من انسداد الآفاق في أودية يبرود فهاجر ليعمل بالتجارة 28 سنة متواصلة في الأرجنتين، وأنه كان عصامي الثقافة. خلال زيارة للأهل أثناء دراستي في موسكو التقيته يومًا يعمل في جنينة الدار فجلسنا القرفصاء لأنه كان بحاجة إلى شيء من الراحة. سألني: ماذا يعلّمونك هناك؟. أجبته باقتضاب أن ثمة مواد عملية كالرسم والنحت والتكوين وأخرى نظرية كتأريخ الفن والتشريح وعلم الجمال و.. فاستوقفني: وماذا تعنون بعلم الجمال؟. أُصبت بالحرج كيف أوجز معنى علم الجمال وعلاقته بالفلسفة و.. حاولت، لكنه قاطعني قائلاً بعد أن رفع حصاة من الأرض: أتعرف؟ هذه أجمل حصاة في الكون إن نظرت إليها بحبّ.

أمّا فيما يتعلّق بما تتلمّسه في أعمالي من مأساوي -لأن السخرية لم تخطر ببالي قط.. ربما بمعنى «الغروتسك» الذي نلمسه في فنون الشرق الأقصى- فهو يأتي عندي عفويًا. مشكلتي أنني عوّدت نفسي على تحسّس ما حولي سعيًا لرؤيته. عندما أشرع بالعمل لا أفكّر كيف ستكون النتيجة. ثمة خيط دون شك، ربما ما يشبه الفكرة، لكن رأس المال الذي أعتمده دومًا هو الحسّ. ثم أستعين بما اكتسبته من تجربة التعارك مع المادة، لأن النحت عندي شيء شبيه بالصراع. بين ما تنويه ماهية المادة وشخصيتها. تحاورها وتحاول التغلّب عليها لكنها لا تمنح نفسها إلاّ إذا منحتها التقدير الذي تستحقّه. نعود إذن إلى أرضية الحبّ، لأن التفهّم عتبة التفاهم.

  • درست النحت النصبي في موسكو، والنحت النصبي لايتنفس إلا في الهواء الطلق ، أين حققت أول عمل نصبي حاز رضاك وهل ثمة حلم نحتي في رأسك يبحث عن مكان كي يتوضع فيه؟

- أنت تعرف أنني هاجرت بسبب انعدام الفرص لتحقيق نفسي كنحّات، وامتنعت طويلاً عن المشاركة في ملتقيات النحت الدولية، وهي فكرة انطلقت في أواسط القرن الماضي من غاياتها تمكين النحاتين من إنجاز أعمال كبيرة نسبيًا وغالبًا من الحجر، وذلك مقابل بطاقة سفر وإقامة وأجر رمزي. ثمة من الزملاء، في كل أنحاء العالم، من جعل من هذه الملتقيات بابًا للارتزاق حتى أن كثيرًا منهم لا يعملون إلاّ في تلك المناسبات ويقضون بقية الوقت في تسقّط ما يُنظّم والسعي لتلقّي دعوة.

مما نعاتي ضعفت في حالات معدودة، وذلك عندما وصلتني الدعوة من بلد أتمنّى زيارته، وهكذا أنجزت عملين في كوبا وآخرين في كوريا الجنوبية ثم في دبي والبرتغال وألمانيا وقبرص ومرتين في إسبانيا. المحزن أنني لم أستطع إنجاز ما أريده في بلدي سورية، ولا أرى ما يشير إلى إمكان ذلك قريبًا.

  • قبل عقدين شكوت من أمية الحس الفني في مجتمعنا، وأعلنت احتقارك للمتعارف عليه في مجال الإبداع، هل طرأ جديد على موقفك من هذين الأمرين؟

- وهل تتلمّس تحسّنًا في الحال؟ أن تخرّج جامعاتنا أضعاف الأضعاف من حملة الشهادات لا يجعل المجتمع أكثر معرفة. نتبيّن المعرفة من آثارها الإيجابية في المجتمع والواقع المحيط بنا، والعارف بحق «ولا أنكر وجودهم، وإن كانوا مهمّشين» لا يتابعون الأغنيات والبرامج والقنوات المتخلّفة السائدة، تلك التي تنشر الجهالة بصورة تبدو وكأنها ممنهجة.

صحيح أن الإبحار في الإنترنت جعل من الممكن الاطلاع على أفق أوسع من المعلومات, لكن المرء ابن بيئته وإذا كانت هذه ضحلة سيبحث بأداته الإلكترونية هذه عن الضحل المناسب. لا أعمّم بالطبع، لكن الأغلبية عاجزة عن القيام بالجهد اللازم، لأن تثقيف النفس يتطلّب جهدًا حثيثًا.

الحسّ الفنّي يتكوّن عند المرء عبر مسيرة حياته وإذا افتقد وسائل التطوير فالأمل شبه معدوم. أخشى أن تكون سويّة الحسّ الذي نتحدّث عنه قد تراجعت عمّا كانت عليه منذ عشرين سنة، وأكثر ما يدميني هو وضع الأطفال ورؤية اندثار ملكاتهم وعبقرياتهم.

والمتعارف عليه هو ما يمليه الوضع السائد، فكيف أقبله؟

إن الثقافة الحقيقية تسعى دومًا لتجاوز الموجود بحثًا عن الممكن. وإذا تحقّق الممكن لابدّ من السعي لتجاوزه، وهكذا دواليك.

لذا لا يرتاح السياسيون والقائمون على الأمور لحملة الثقافة الحقيقية الذين يبغون التطوير دومًا، فالسياسي يميل عمومًا إلى السكون والركون في كرسيه المريح.

  • أنت مشهور كنحات بالدرجة الأولى ، إلا أنك جربت الكتابة الإبداعية في مجالي الرواية والقصة ، كما ترجمت رواية وأشياء أخرى ، وعندما سألتك عن هذا الأمر قلت لي إنك «نحات يكتب». هذا يجعل منك سفيراً بين ضفتي الإبداع المحسوس والمجرد، بين الكتلة والكلمة ، كيف تنظر إلى العلاقة بين هاتين الضفتين؟ وهل اللجوء إلى الكلمة متصل بعجز الكتلة عن التعبير أم العكس؟

- ما تقوله صحيح، عجز النحات يدعوني أحيانًا لتداول الكلمات. لكن التشكيل عندي كان في البدء، وفي الرابعة عشرة من عمري، أي بعد ثلاث سنوات من تعلّم العربية نشرت لي أسبوعية «الثقافة الأسبوعية» التي كان يصدرها السيد مدحت عكاش قصيدة كانت الأولى والأخيرة في عمري.. لأنهم بدّلوا مفردة في السطر الأخير دون استشارتي.

كما ترى، مزاجي لم يتغيّر كثيرًا.

يُفترض أن تُنشر لي مخطوطة تحت عنوان «خواطر في المشغل وكتابات تسنّت». أقول «يُفترض» لأنني كففت يدي عنها سنة 2003 وأكثر من دار نشر اعتذرت لكثرة «المحظور» فيها. أمر يجعلني أحنّ لأيام أبي حيّان التوحيدي والجاحظ ولحرية الرأي آنذاك!

المهمّ، أستهلّ تلك الخواطر بقولي:

«ليست الكتابة صنعتي، وفي نهاية الأمر يبدو أنه ما من صنعة لي، إلاّ إذا اعتبرت محاولاتي تسجيلاً لتجربة ورؤية، أو لنقل رَومًا لرؤية.

لم يدر بخلدي قطّ أن أمتهن الكتابة، لكن، يحدث أحيانًا أنني أسأم الصمت.

أكتب إذن ما يخطر في البال لنفسي، وكأنني أحاول تبيّن ما كان، وكأنما ذلك سيجلو لي الأمر. وإذا وجد غيري فيما أضعه ما يجدر الاطّلاع عليه فليفعل».

ثمة مخطوطات ثلاث أُخَر مرمية في مكان ما بين منحوتاتي.

  • دخل الفن العربي خلال الأعوام القليلة الماضية في بورصة الفن من خلال افتتاح مزاد كريستي لفرع له في دبي ، كيف ترى تأثير هذا التحول على الحياة التشكيلية في الوطن العربي؟

- أشعر بالغربة إزاء هذا الأمر. مَن ينكر أن لدينا طاقات فنية لا تقلّ عن الغربية في شيء؟ «وإن كانت قليلة والحق يقال»، إلاّ أن أساليب التسويق هذه قد تضع الغثّ مع السمين على سويّة واحدة. ثم أن هناك حيلا معروفة لرفع الأسهم بصورة مصطنعة. الضرر يكمن في أن بعض الأسماء لم تصل بعد إلى ما يمكن تسميته بالنضج الفنّي، وصاروا يضعون لتفاهاتهم أسعارًا خيالية. والأنكى أنهم يصدّقون أنفسهم!

المهمّ، رحم الله امرأً عرف قدر نفسه.

سأذكر لك فحوى قصيدة صينية قديمة تعنّ لي على الدوام، وأنت ستفهم لماذا، لأنك تعرفني. تقول ما معناه:

«غاية الكلمات هو إيصال الأفكار
عندما تصل الأفكار تُنسى الكلمات.
أين أستطيع أن أجد رجلاً نسي الكلمات؟
أودّ التحادث معه»

عاصم الباشا في سطور

لعاصم الباشا رواية بعنوان «وبعض من أيام أخر..» ومجموعتان قصصيتان هما «رسالة في الأسى»، و«باكرًا، بعد صلاة العشاء» وله مشاركات في الصحافة العربية كما قام بنقل العديد من الكتب إلى العربية.

يتمتع عاصم الباشا بسمعة عالمية وتنتشر أعماله في أربع قارات. في عام 1988 أنجز الباشا عملين في إطار الملتقى الدولي للنحت في سانتياجو دي كوبا وفي عام 2001 شارك في ملتقى فالديجليثياس الدولي في إسبانيا. واقتنت بلدية المدينة عمله. وفي عام 2002 شارك بعمل من الجرانيت في الملتقى الدولي السادس للنحت في إيشون ، بكوريا الجنوبية. وفي العام 2004 شارك في أربعة ملتقيات دولية كان الأول منها ملتقى دبي الدولي وفاز فيه بالجائزة الأولى. والثاني هو ملتقى إهنجين الدولي للنحت في المانيا حيث نفذ عملاً من المعدن واقتنى المركز الثقافي عمله. والثالث هو ملتقى بورتيماو الدولي للنحت في البرتغال حيث نفذ عملاً من الرخام اقتنته بلدية المدينة. إضافة للملتقى الدولي للنحت في الهواء الطلق في مدريد، إسبانيا، حيث فاز النصب المعدني الذي نفذه بالجائزة الأولى.

في عام 2005 شارك في ملتقى بيرا الدولي للنحت بإسبانيا. ونفذ منحوتة من رخام ترافيرتينو، يمكن لزائر المدينة أن يراها معروضة في إحدى الحدائق العامة. في العام 2006 شارك في ملتقى قبرص الدولي الأول، ونفذ عملاً من الحجر. وفي العام 2007 أنجز نصبًا تذكاريًا من البرونز تحية لشغّيلة الأرض ينتصب أمام متحف، فيجاس ديل خينيل، بغرناطة، إسبانيا.





النحات عاصم الباشا والكاتب حسن م. يوسف





النحات عاصم الباشا





النحات عاصم الباشا مع «شغيلة الأرض»





بحثاً عن ابن طفيل





«تحية للمدافع عن البيئة»