تنمية البشر قبل الحجر

تنمية البشر قبل الحجر

أنتظر، ومعي ملايين من قرّاء «العربي» الغراء مطلع كل شهر للاستمتاع بقراءة المقالات القيّمة للأستاذ الكبير الدكتور سليمان إبراهيم العسكري رئيس التحرير الموقر، حيث يضع يديه الكريمتين هذا الشهر (فبراير 2009 العدد 601) على قضية من أهم قضايا الأمة العربية والإسلامية، وخاصة المجتمعات الخليجية الناهضة، فيما يتعلق باتجاهات جهود التنمية والإعمار والتشييد والاستثمار السخي والمبالغ فيه في حركة بناء ناطحات السحاب وما إليها. ولا شك أنه وكما يقولون فإن «بناء المصانع سهل يسير، ولكن بناء الرجال هو الصعب العسير». وإذا كانت هناك عصور تاريخية عرفت باسم عصور اكتشاف النار أو الحديد أو الحجر، فإننا نعيش في عصر اكتشاف الثروة البشرية، والتي هي، وبحق، أغلى وأثمن الثروات جميعاً. ومن هنا كان الاستثمار في مجال التنمية البشرية أو الإنسانية من أعظم وجوه الاستثمار. ذلك لأن الإنسان ثروة دائمة وغير قابلة للنضوب كما هو الحال في النفط أو الفحم أو الغاز. الإنسان هو صانع الحضارة، وهو الآن صانع التنمية، وإليه يجب أن ترتد جميع عوائد الجهود التنموية. وما معنى أن يكسب الإنسان كل ثروات الأرض ويخسر نفسه. وقد سارت جهود التنمية العمرانية بخطى أسرع من جهود التنمية في مجال البشر، في مجال الإنسان، وكان الأجدر أن يكون الاهتمام الأول والأكبر للتنمية الإنسانية أو على أقل من القليل تحقيق نوع من التوازن بين جهود التنمية الاقتصادية والتنمية الإنسانية بما فيها من الاهتمام بنشر التعليم الجيد والمتميز ونشر الثقافة الرفيعة، والاهتمام بالآداب والعلوم والفنون، والعناية بصحة الإنسان الجسمية والعقلية والنفسية، وبقيمه ومثله ومعاييره الأخلاقية والوطنية والروحية وتكوين الشخصية السوية، وعلى حد قول الأستاذ الدكتور العسكري، فإن «التنمية التي شهدتها منطقة الخليج العربي.. تحيّزت للحجر وخلق ظاهرة جنون الاستهلاك والرفاهية الاقتصادية على حساب «المعمار البشري»، أو تحيزت لثقافة الحجارة على حساب ثقافة البشر.

علينا أن نغيّر من مناهج وأساليب حياتنا، وأن نرشّد جهود التنمية، وأن نعمل على تحقيق جودة التعليم بمختلف مراحله، وأن نوفر للمواطن العربي ظروف الصحة النفسية والبدنية الجيدة، وأن نحميه من الغزو الثقافي الاستعماري، وأن نوفر له مناخاً جيداً من الحرية والديمقراطية، وأن ننمي فيه مشاعر الانتماء العربي والإسلامي، ونصون الهوية العربية والإسلامية من محاولات التغريب والتفرنج والتقليد اللاواعي.

ومن هنا يلزم التوسع في إنشاء الجامعات والمعاهد العليا ومراكز البحث العلمي وإنشاء الأكاديميات المتخصصة في الفنون، وإحياء التراث والمحافظة عليه. والمحافظة على الآثار والميراث الثقافي والاجتماعي لمجتمعاتنا العربية. يجب أن تتسم الجهود التنموية بالشمولية والتنوع والاتساع والاستدامة أو الاستمرارية والتجدد المستمر والمتلاحق. فما نطوّره اليوم يحتاج إلى إعادة التطوير غداً.

ولنا أن نستفيد من التجارب التنموية الناجحة لدول آسيا وأمريكا الجنوبية. وأن نهتم ببناء الإنسان، أو بالأحرى إعادة بناء الإنسان العربي على أرضنا العربية الطيبة. وعلينا اتخاذ موقف متوازن بين الأصالة أو التراث، والمعاصرة، والأخذ من كل ما هو جيد ونافع ومفيد من إنجازات العصر العالمية وطرح الطالح منها.

والتنمية في الحقيقة جهد علمي مخطط له وعمل دقيق وهادف وهدّاف من أجل الإسراع بحركة النمو الطبيعي، وتحتاج التنمية الناجحة إلى العلم والخلق والإرادة والعزيمة والإخلاص في جهودها. ويجب أن تتماشى مشاريعها مع ظروفنا المناخية والتضاريسية والاجتماعية، ويجب ألا تفسد مشاريع التنمية الجديدة البيئة، التي تقام فيها أو تبث فيها من سموم التلوث ما يجعلها تضر أكثر ما تنفع.

ومن الأمور القيّمة التي يدعو إليها أستاذنا الجليل الدكتور العسكري والتي يتفق عليها الجميع، الاهتمام بدور النشر وتشجيع وتدعيم نشر الكتاب العربي، والتوسّع في إنشاء المكتبات العامة، ونشر المجلات والدوريات. مما يسهم في بناء الإنسان وفي تدعيم التنمية العلمية والثقافية والتربوية، وتكوين العقلية العلمية للمواطن المعاصر. والحقيقة أن نشر الثقافة العامة يكمل جهود التربية النظامية ويدعمها. ولذلك يجب الاهتمام بالثقافة كاهتمامنا بالتعليم والتربية. وكما يقول الأستاذ الدكتور العسكري «بحيث يتلقى الفرد تعليماً جيداً وراقياً وفقاً لأحدث نظم التعليم، وأن يتلقى المعارف، بحرية تامة، من منابعها، وأن يتعرف على أمهات المعارف، أدباً وفكراً وعلماً وفنّا..». يجب العمل على تكوين الشخصية العربية القادرة على التعامل الكفء مع متغيرات العصر بكفاءة واقتدار، وذلك لتحقيق ما تصبو إليه مجتمعاتنا من الطموح والتقدم والرقي والازدهار والقوة والحصانة والمنعة في وجه تحديات العصر وتهديداته.

د. عبدالرحمن محمد العيسوي
مصر