ريادة مسرحية الشيخ عبدالعزيز الرشيد ومحاورته الإصلاحية 1924

ريادة مسرحية الشيخ عبدالعزيز الرشيد ومحاورته الإصلاحية 1924

للريادة رجالها..
رجال يعرفون كيف ينظرون جيدا إلى حاضرهم، يفحصونه، ينفذون إلى خلايا مجتمعهم، يكتشفون الحاجات، تتكور عزيمتهم مندفعة بالرغم من أن ثمة شوكا كثيرا وسهاما تثقب أجسادهم ولكنهم يصمدون، وينتصرون.

هكذا كان الشيخ عبدالعزيز الرشيد (1938ت). تصدى للتدريس، فاختار أحدث الآراء والنظم في زمنه، نظر في الأفكار، فاختار منها ما يدعو إلى الإصلاح والتنوير وإحكام العقل، آمن بالمجتمع المدني الحديث، فدعا إلى المشاركة السياسية. أنشأ المدارس والنوادي، كتب التاريخ فكان الأول والأوثق والأجرأ، سمى الأمور بمسمياتها، كما يعتقد، دون مواربة أو تخفى. وفي زمن كان من حوله يرى أن قراءة الصحف مروق وكفر، تصدى لإصدار جريدة يكتبها في بلده ويطبعها في أخرى ويضمن صفحاتها هموم الأمة كلها.

كان وحده القادر على أن يقتحم هذا الشكل الجديد، المسرح، ليقدم تجربة، إن كانت تمثل بداية، فهي لم تفتقد النية الصادقة المخلصة فكرا وشكلا.

التقط الشيخ عبدالعزيز الرشيد تفاعل الساحة الثقافية العربية مع فن المسرح، هذا الوافد الجديد الذي تعرفت عليه الساحة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعرض مارون النقاش (1848). ومن تلاه من مؤسسي حركة المسرح العربي، ومن ثم لم يشأ الرشيد أن تتأخر الكويت عن الركب كثيرا، منطلقا من الطبيعة الخاصة لهذا المجتمع، فالتشكيل الاجتماعي والثقافي فيها كان يملك خاصية الانفتاح على الجديد بفضل وبحكم مهنته وعلاقاته الممتدة إلى الخارج كأي مجتمع تجاري ساحلي يمتد عمله ويتدفق رزقه من خارجه، فكان على صلة مباشرة بقارات ثلاث، آسيا، وإفريقيا، وصولا إلى أوربا.

وتوثقت صلته بالهند تجارة وإقامة لعدد كبير من أبناء الكويت.

في هذا المناخ المتفتح برزت كوكبة من جيل رائد متأهب للعمل، تعرف من خلال احتكاكه بالمجتمعات المجاورة على الفنون المستحدثة من خلال مشاهدة أو سماع عن هذه الفنون من مسرح ثم سينما، ومن ثم تم قبوله والاستعداد له عقلا وفهما.

كان واعيا بل ومتحمسا لمعطيات الحضارة التي يراها نافعة ومنسجمة مع تصوراته الإصلاحية مع التمسك بالثوابت الفكرية، فنجده يشير إلى أنه «ليس هناك ما يمنع من البحث عن الفنون الجميلة أو الثقافة الغربية التي تلائم ديننا وأخلاقنا وبيئاتنا سواء في التربية والتعليم وفي النظم والأحكام أو في غير ذلك».

اقترب الشيخ عبدالعزيز الرشيد من الشكل المسرحي من خلال تقديمه عرض ونص (محاورة إصلاحية) الذي قدم به طلبته إلى المجتمع في احتفال نهاية العام الدراسي للمدرسة الأحمدية في مارس 1924، وامتد اهتمامه بهذه المحاورة حتى طبعها في كتيب في السنة نفسها.

إن هذا التوجه والاهتمام بالشكل المسرحي يعني أن هذا الشيخ قد توافرت لديه المعرفة والدراية بفن المسرح، سماعا أو رؤية، ومما يشير ويؤكد هذه المعرفة ما نلاحظه من دخول مفردة (مرسح) في لغته، ومن ثم مفهوم حالة التمثل المسرحي، فوجدناه يستخدم كلمة (مرسح) للتدليل على أفكاره أو تشبيهاته، فوردت عنده في مجال الإخبار عندما أشار إلى أن الشيخ مبارك أقام (المراسح) في قصوره الشاهقة. وأورد الكلمة ذاتها في مجال التشبيه حينما أشار إلى (مرسح الحياة)، واستخدم مفردة قريبة من الفن التمثيلي، حينما وصف الشيخ مبارك وصفا دراميا، فقال عنه إنه: «برز كشخص على فيلم (السينما) يقوم في آن واحد بعملين متناقضين فيجيء ويذهب ويصعد وينحط..».

من المناظرة إلى المحاورة

ولكن، من جهة أخرى، نستطيع ونحن نتناول ظروف ومصادر هذه المحاورة، أن ننظر إلى هذه التجربة من خلال ربطها، أيضاً، بمصدر وخبرة ثقافية تراثية، متمثلة بفن المناظرة الذي عرفته الثقافة العربية، وكان له شأن كبير في التراث العربي، كما أن المدارس الحديثة استفادت منه في تدريب الطلاب. وتقوم المناظرة على عنصر المواجهة بين متناظرين حول قضية من القضايا الفكرية أو الفنية أو الاجتماعية. وتسمح بحضور حشد من المستمعين، يشهدون ويسمعون صراع الأفكار المتعارضة بما يخلق من إثارة وترقب. فنتذكر في هذا المقام المناظرات في التراث العربي: اللغويين: سيبويه والكسائي والمتكلمين المعتزلة وخصومهم والأدباء: بديع الزمان الهمداني وأبي بكر الخوارزمي.

ويتجلى أثر المناظرة وحضورها في احتفالية هذه المحاورة، متداخلة مع فنية المسرح، في تلك الهوامش التي أضافها الرشيد إلى هذه المحاورة وهي:

الهامش الأول: مقدمة للمحاورة المطبوعة

في سياق رغبته بتوضيح طبيعة هذا الشكل الجديد، وتبيين أبعاده التربوية، نجده يتجه إلى التمهيد له بكلمة توضيح طبيعة هذا العرض وفوائده، كلمة تذكرنا بمقدمة أبو خليل القباني، التي صدّر بها النص المطبوع. يقول عبدالعزيز الرشيد شارحا الطبيعة وهدفها عارضا حدث المحاورة الأساسي وكاشفا عن هدفه المباشر ويحدد الخط الرئيسي لهذه المحاورة التي «دارها على شيخ جامد من أهل العمائم استشاره أحد إخوانه في دخول المدارس العصرية فحذره من الدخول فيها مبينا له ما يدل على فسادها ثم انبرى له أحد التلاميذ فأبطل حججه وبراهينه..».

الهامش الثاني: الخطبة

وهذه جاءت ملازمة للاحتفالية نفسها، وقد أشار إليها في مقدمته بأنها توضح الأسباب التي أنهكت قوى المسلمين وأخّرتهم في ميدان الحياة ممثلة في فساد علماء الدين، التي كانت كالصاعقة المحرقة على الجامدين من العلماء وغيرهم.

في هذه الخطبة مهد لهذه المحاورة، معتبرا أن الاحتفالات العلمية والاجتماعية الأدبية إنما هي معرض من معارض الآراء وسوق من أسواق الأفكار. مبينا أنه أودع غالب أفكاره هؤلاء التلاميذ «فهم بها ينطقون وعنها يعبرون». وأنه «فتش وسأل في مجالس الأغنياء وأندية العلماء وأكواخ الفقراء..» فوصل بعد جهد إلى أن السبب هو «فساد من بيدهم أزمّة الآراء وبأكفهم أعنة الأفكار» فأقاموا قصوراً عالية للعقائد الباطلة..، ونشروا فسادهم بين الأغرار. وبين نفورهم وغضبهم من النظريات العصرية.

الهامش الثالث

وهذا تمثل في تتمة ختام المطبوعة جاءت في ذيل المحاورة موضحا أن ما كتبه إنما هو مخصص «بمن صدعوا بما يخالف العقل والنقل». وفي هذا إشارة إلى فتح الباب على مصراعيه لاقتحام حجاب قدسية رجال الدين وأنهم لا حرمة لهم ماداموا قد خالفوا العقل والنقل. وهذا التلازم بين الاثنين، النقل والعقل، يعني تجاوز الجمود إلى الأفكار المتحررة.

هذه الهوامش الثلاثة التي رافقت تقديم هذه المحاورة تنبه لاختلاف وجدة هذا النوع من الاختبارات وإدراك مقدمها الشيخ عبدالعزيز الرشيد أنه يقدم شيئا غير مألوف، وبالتالي فقد حرص على أن يوضح محيط وإبعاد هذه التجربة في مقدمة المحاورة وخطبته في العرض، مشيرا إلى أمور يقرب فيها أجواء احتفالية العرض المسرحي، منها احتفال الكويتيين بها ثلاثة أيام، وتخلل ذلك كله الأناشيد المشجية والخطب المؤثرة والأشعار الحماسية.

في هذا الشرح والبيان تقريب وتوضيح لمكونات هذا الشكل الجديد، الذي جمع فيه بين شكل المسرحية وطبيعة وأهداف المناظرة، وجاءت المحاورة في هيئة عرض عام يحضره جمهور كبير يتابع ويستمع ويتفاعل. وتبين من وصفه لهذا الجمهور أنه قريب الشبه من جمهور المسرح والحالة الاحتفالية التي يوفرها الشكل المسرحي المعهود، الذي يحقق الفائدة ويوفر المتعة في المشاهدة من خلال التأثير العاطفي الذي كان يؤمله الرشيد حينما أشار إلى هذه العواطف المتداخلة: أضحكت - أبكت - أسرت - أساءت. هذا الإحساس بالأثر المسرحي، وقد لا يتوافر كاملا في هذا العرض الأولي، ولكنه يشير إلى طموح المؤلف والمعلم وتصوره لطبيعة وأثر هذه العروض التي تقدم خطاب صاحب الفكرة من خلال وسطاء هم الطلبة الذين شخصوا المحاورة.

ومن جهة أخرى، عندما نلتفت إلى أثر المناظرة نجد أنها عادة، تدور حول قضية فكرية مختلف عليها بين طرفين، أو وجهتي نظر، ومن ثم فالمتحدثان شخصان، أما في هذه المحاورة فقد تعددت الشخصيات (ثمانية)، وهذا أوجد نوعا من تعدد المواقف، فمنهم المؤيد، ومنهم المدافع، ومنهم المتردد ومنهم المعارض، وهذه المواقف تتغير وتسفر عن اتخاذ مواقع أخرى في النهاية.

والإضافة المهمة الأخرى التي وفرها تعدد الشخصيات نلمسها في طبيعتها التي اقتربت أكثر من طبيعة العرض المسرحي، فالمتناظرون أشخاص معروفون يقدمون ذواتهم ويدافعون عن وجهة نظرهم الخاصة. أما في هذا العرض فالشخصيات لا تقدم ذواتها ولكنها تلخص مواقف خارجة عنها، ويضاف إلى ما سبق اعتماد منظور يشبه خشبة المسرح، يجتمع فيه عدد من الشخصيات في آن واحد حتى يتحقق الحوار المتعدد بينها، وهذا أساس من أسس العرض المسرحي، وفي هذه المشاهد تتوزع المواقف ومن ثم الأفعال.

ولكن الفرق بين جمهور المناظرة والمسرحية أن حاضري الشكل الأول - المناظرة - غالبا من المختصين أو المهتمين بالعلم الذي تدور حوله المناظرة، أما هذه المحاورة فقد قدمت لجمهور عام متنوع، وقد لجأ منظمو العرض إلى إحدى الديوانيات القريبة من المدرسة، وكانت الديوانيات مرفقا حيويا من مرافق المجتمع المدني في الكويت، وللتجمعات فيها شأن كبير وأثر واضح في تبني القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وجاء هذا التوجه، غير المقصود، ليجعل العرض يتحرر من جو المدرسة إلى شكل العرض المسرحي الذي تتشكل أركانه من مكان خاص يحتضن العرض وممثلين يؤدون مشاهد ضمن محور محدد.

ويقترب الشيخ الرشيد من الهدف المسرحي بإشارته إلى الطبيعة الخاصة للعمل المسرحي واختلافه عن غيره من الأشكال الفنية (الإيحاء لا المعنى المباشر) حينما يوضح في خطبته الطبيعة الإيحائية لهذا العرض حينما أشار إلى أن الاحتفالات العلمية «.. معرض من معارض الآراء وسوق من أسواق الأفكار..»، وإذا كانت هذه العبارة عامة، فإن ما أعقبها اقترب كثيراً من طبيعة المؤلف المسرحي الذي يضع فكره في نصه وعلى ألسنة أبطاله ويختفي صوته الخاص. يقول عبدالعزيز الرشيد: «.. غالب أفكاري أودعتها هؤلاء التلاميذ فهم بها ينطقون وعنها يعبرون..».

بنية المحاورة

إن أول ما يلفت النظر هو اختيار الشيخ عبدالعزيز الرشيد مسمى (محاورة) ليطلقه على هذا الشكل الذي ظهر فيه هذا العرض. وفي هذا الاختيار تم تنحية مسمى (مناظرة)، على الرغم من وجود القضية الفكرية المختلف عليها بين طرفين ومجادلتهم حولها.

ولكنه في الوقت نفسه كان في اقترابه من الشكل المسرحي حذرا واعيا، فآثر الابتعاد عن استخدام المسمى السائد: مرسح أو تياترو، لما يستدعيه في الأذهان من ظلال مرافقة لهذا النشاط وما يلازمه من رقص واختلاط وغيره مما يعتبره مجتمعاً تتجاذبه تيارات متصارعة، لهوا ومجونا أو خروجا على التقاليد والأعراف.

فقد كانت الحصافة التي يتمتع بها وأهدافه التربوية والفكرية الخاصة، تجعله يبتعد عن هذه المسميات ذات الظلال الخاصة حتى لا تعطي مناوئيه وخصومه مبرراً للهجوم على هذه الاجتهادات الحديثة. كما أنه لا يخفى على مثله أن الهدف كان تربويا بحتا يدور في إطار تحديث التعليم، لهذا استخدم الرشيد مسمى بديلا ودالا هو (محاورة) بما تستحضره هذه الكلمة من ملمح حاضر في الذهن التراثي الذي عرف أسلوب المحاورات. وقد اتجه في صك عنوانه كاملاً إلى تحديد الهدف المباشر، فوصفها بأنها (إصلاحية)، وهذا توجه مفترض صدوره منه باعتباره شيخاً إصلاحياً وتربوياً.

ويلفتنا أن عبدالعزيز الرشيد، أشار إلى أكثر من محاورة، غير هذه المحاورة، كما أنه في المطبوعة لم يثبت اسمه عليها باعتباره كاتبها، ولكنه استخدم كلمة (جامعها)، وليس لدينا تفسير محدد لهذا الوصف، هل كان العمل جماعيا بتوجيه منه؟ الواضح من إشارته في خطبته أنه كاتبها وتنسب إليه، حينما أشار إلى أن غالب آرائه أودعها هؤلاء التلاميذ فهم بها ينطقون وعنها يعبرون.

خطوط القضية وتكوين العرض

تشكلت خطوط القضية التي ستتضمنها هذه المحاورة، ونبعت من منطقة اهتمامات الشيخ التنويرية ومعاركه مع أصحاب الفكر الثابت الرافض لأي تجديد، وتحددت نقطة الخصام في ذلك الصراع المحتدم بين دعاة التربية الحديثة وخصومهم من أتباع النظام القديم. ويكشف، في المقدمة المنشورة، الكيفية التي سارت فيها المحاورة فمدارها. «على شيخ امد من أهل العمائم استشاره أحد إخوانه في دخول إحدى المدارس العصرية، فحذره من الدخول فيها، مبيناً له ما يدل على فسادها فانبرى له أحد الطلاب فأبطل حججه وبراهينه».

فهو هنا يقيم مناظرة افتراضية بين أصحاب الرأيين المتعارضين، ويقترب من الشكل المسرحي بخطوة تتجاوز المناظرة، فقد قام بتأدية (العرض) مجموعة من الشخصيات توزعت فيما بينها جزئيات الموضوع، ليتحقق عنصر الصراع المسرحي، وتتشكل المواقف المختلفة من حيث القبول والتردد والمعارضة، وما يتبعها من تغيير في المواقف.

ولما كانت طبيعة العرض المسرحي وآلياته أنها تعتمد على عنصر المثيل، فتلغي صفة الشخص الممثل - وتحوله إلى شخصية، فتختفي ملامح الأول ليتقمص الشخصية الثانية، ويتم تغيير اسم الممثل = الشخص لمصلحة اسم الشخصية، وقد خطت هذه المحاورة نصف خطوة، حيث احتفظت بأسماء بعض مؤدي العرض (ستة). وكان الاحتفاظ بالأسماء الحقيقية في تلك المرحلة المتقدمة شائعاً، لاحظناه في بعض أفلام الثلاثينيات والأربعينيات.

ولكننا نجد، من جهة أخرى، أن التغيير طال شخصيتين، قدمتا باسمين مخالفين للاسم الحقيقي بطريقتين ولسببين، فقد أشار المشرف إلى أنه اختار لأحدهما اسم محمود بدلا من اسمه الأصلي عبدالعزيز منعا للتكرار لأن معه زميلاً يحمل الاسم نفسه.

والتغير الثاني في هذه المحاورة، وهو الأهم، حينما اختار الشخصية المعاكسة، فأطلق عليها اسم الشيخ، ومع أنه كان يقدم شخصية واقعية، عرفها الجمهور، فإن تشكيلها ورسم مظهرها ومقولاتها تجاوز هذا التقارب وارتفع إلى مستوى الشخصية المسرحية المرسومة، جسد فيها نمطا من الأنماط التي تجمع وتلخص ملامح دالة على فئة من الفئات، وهو هنا شخصية رجل الدين المتعصب ودوافعه الظاهرة والمستترة. وجاء التعريف بهذه الشخصية ليشمل هذه الدلالة الشاملة لفئة كبيرة، طائفة الشيوخ من رجال الدين المتعصبين، فكان التوصيف المقصود يمثل خطوة مهمة للخروج من الشخص إلى الشخصية.

الإطار العام للمحاورة

في النظر إلى الإطار العام للبنية المسرحية في هذه المحاورة، سنلاحظ أن النص المطبوع الذي جاء متتابعا ولم يقسم إلى مشاهد أو فصول. ولكن في النظر إلى داخل المحاورة وتتابع أحداثها، سنجد أن مشاهدها قسمت إلى تقسيمات أساسية، تصلح لأن تكون مشاهد مسرحية، طبقا للنظام الذي تبنى على أساسه الحركة الداخلية لتطور العرض المسرحي، فمن الممكن أن نراها على النحو التالي:

المشهد الأول: مشهد التقدمة أو التمهيد

يلتقي عبدالرحمن بفيصل ويكشف الحوار بينهما عن الخيط الأول للمشكلة المحورية حين يصرح فيصل عن نيته للالتحاق بإحدى المدارس العصرية. وتبرز هنا نقطة التجاذب بالإشارة إلى موقف مناقض من عبدالرحمن الذي يحذره من دخول هذه المدارس فليس من ورائها إلا الضرر وأنها «لا تنطبق على التعاليم الإسلامية وتعلم الجسارة والجرأة التي تدع الصغير لا يرهب الكبير زيادة على إفساد العقائد وتضليل الأذهان».

ويأخذ الحوار منحى آخر حين ينكشف أن هذا الرأي السلبي في المدارس من عبدالرحمن كان طارئا، فاعتقاده سابقا كان إيجابيا، ولكنه تغير عندما سمع» ممن اعتقد فيهم العلم والصلاح، فسمع من أحدهم وقد صب على المدارس سوط عذابه ناسباً الكفر للساعين بها».

ويأتي تحول ثان من فيصل نفسه الذي تسلل بعض الشك إلى ما كان عازما عليه. ويكشف الحوار لنا أن ثمة آخرين منهم الأخ الأكبر الذي لا يريد أن يسمح لأخيه الالتحاق بهذه المدارس إلا إذا استشار أصحابه.

ويكون الاقتراح أن يتوجها إلى حيث يسمعون ما تبديه الجماعة من رأي في هذا الأمر.

المشهد الثاني: (الصراع - المواجهة)

يذهب الجميع إلى التجمع، الذي ضم الأربعة وهناك تبرز الشخصية المحورية الأخرى التي تمثل الرأي المعارض للمدارس الحديثة وهو الشيخ الذي ينبري محذرا ومرددا أفكاره.

وعندما يحاول أن يستشهد بأحد الحاضرين يجد أن أكثرهم واعون لمنطقه، فيرد أحدهم عليه - عبدالرحمن - بأن قوله «قول يدل على فساد ذوق وجمود قريحة على أنك لم تدل بحجة واضحة ولا برهان يدحض حجة خصمك».

وتتخذ المحاورة شكل المناظرة التي تتواجه بها الأفكار، ولكنها تختلف عنها بأنها حافظت على نسق الحوار المسرحي، فلا تعتمد على متحدث واحد، ولكنها توزعت بين أكثر من شخصية.

المشهد الثالث: الكشف

ينتقل المشهد إلى مجلس سابق، حينما تروي إحدى الشخصيات - عبدالعزيز - ما يعرفه عن هذا الشيخ المعارض للمدارس الحديثة ويفضح أمره، فقد كان هذا الشيخ في جمع من أصحابه فقام يتحدث حديثا يكشف أهدافه المستترة، فمعارضته للجديد كشف منبعها في مجلس لأصحابه، حينما قال هذا الشيخ إنهم «في عصر تقدم علينا من كانوا أصغر سنا فزاحمونا في وظائفنا وتربعوا على الكراسي التي كنا نشغلها». ويكشف في خطبته عن مدى تحكم فئته في الناس: «الناس بأيدينا كالآلة الصماء التي لا حراك بها أو كالميت بين مغسله. أما اليوم فقد انعكست الحال وتغير ما كنا نعرف».

يتخلل هذا المشهد عودة إلى المشهد السابق فتشير شخصية أخرى - محمود - مؤكدة على مادار في ذلك المجلس ويزيد من كشف وتعرية موقف شخصية الشيخ الذي يرى أن هذه المدارس تعلم من العلوم العصرية التي لا يحسنها أمثاله. وأيد أحد أصحابه داعيا إلى تنفير الناس من هذه المدارس. ويكشف الراوي محمود - أنهم كانوا يقولون هذا ولم يكونوا يعرفون أن هناك غريبا يخالفهم في رأيهم ويطلع على دخائلهم.

المشهد الرابع: الانقلاب في المواقف

وينحني خط الحوار وصولا إلى الغاية التي حددها الكاتب حين يحدث التحول التام عند كل الشخصيات التي بدأت في أول المحاورة مترددة، وتأكد عند كثير من المجتمعين حقيقة المعارضين، وأنهم يتظاهرون بالصلاح، وأنهم مفسدون، وتنفيرهم من المدارس إنما هو الخوف على سقوط منزلتهم ونضوب معين رزقهم.

ويتصاعد أثر المناظرة، عندما يلقي الشيخ بآخر مجادلة له، طالبا الرد على حججهم التي يعتبرها أعظم سلاح يقاتلونهم به.

وهنا، وعلى لسان أحد المتحاورين - عبدالعزيز - يتم طرح الدفاع عن العلوم الحديثة مثل اللغة الإنجليزية، فليس في الشرع ما يمنع تعلمها، أما علم الجغرافيا فهو بحث في أحوال البلاد ومواقعها، وهي أمور يحتاج إليها المسلمون، ومثل هذا الدفاع عن كروية الأرض... إلخ، ويستمر عبدالعزيز يدحض كل حججه.

ويبقى الشيخ المتعصب على معارضته المتعنتة بينما كان الاقتناع بالمدارس الحديثة يسود المجموعة وانحيازهم للشباب «المتنورين الذين هم عمدة الوطن وسلاحه».

نلاحظ في هذا الموقف الأخير أن المحاورة اقتربت أحداثها من طبيعة الحدث المسرحي، وكانت المحاجة تملك وجهة نظر كاشفة لطبيعة الشخصيات المتعاكسة، وبينت تحولاتها الداخلية، وجسدت الأسباب الخفية التي تحرك الشخصيات، فتنكشف عن أطماع وأن ثمة باطناً نفسياً نابعاً من مصلحة عند هذا الشيخ، الذي يرى انتشار الحديث قضاء على مصالحهم.

وتتداخل الأصوات بتعدد الشخصيات المشتركة فيه. وتنقل الحركة الزمنية من الحاضر إلى الماضي ثم عودة إلى الحاضر، وتتجوهر نقطة اختلاف المواقف فكريا، واستند هذا الاختلاف على قضية اجتماعية حاضرة في الأذهان، وأن أشخاصها الواقعيين، أو بعضهم حاضرون في أذهان المتلقين باعتبارهم شخصيات حقيقية تمت مسرحتها. وحدث في الداخل تطور وتغيير في المواقف، وفي الوقت نفسه تم كشف خفايا نفسية داخلية، من أن محرك المعارضين للجديد منبعه، ليس موقفا فكريا، ولكنه معركة الحفاظ على المصلحة من جهة وعلى نفوذهم بين الناس إضافة إلى جهلهم بالعلوم الجديدة.

  • ولكن، من جهة أخرى، نلمس أن جرعة الدفاع عن الفكرة المحددة واضحة تعتمد الحجج المعرفية والعقلية، ومن ثم تخلُّف الحدث المسرحي المفترض وجوده لمصلحة التجاذب والنقاش الفكري. فقد برزت، بقوة، آليات المناظرة فجاءت بارزة في بعض المشاهد.

ونلحظ أنه من جهة الانتصار للفكرة لم يبرز في عرض المدافعين فقط، فقد دس المؤلف جزءا من أفكاره على لسان المعارضين، لتتشكل وتتحقق المفارقة الفنية التي يعتمد عليها الفن المسرحي كثيراً.

ومن المهم الإشارة في الختام إلى لغة هذه المحاورة التي تناسبت مع موضوعها، فمن أن لغة أغلبية أدباء الربع الأول من القرن العشرين ظلت تحتفظ بالجانب البياني، والتفصح اللغوي وصولا إلى التمسك والانجذاب إلى أنواع من الحُلى اللفظية، فإن لغة الشيخ عبدالعزيز الرشيد قد تحررت من هذا الأسلوب، وتجاوزت أثقال البيان القديم لايصال بيان الفكرة بأسلوب واضح ومباشر يتنقل فيه بين المتحاورين، ومن ثم جاءت مناسبة جدا لحوار الشخصيات في هذه المحاورة، لغة مباشرة في معطياتها العامة منسجمة مع المواقف التي تقدمها مبينة لجوهر الرسالة التي حملتها هذه المحاورة.

كانت هذه المحاورات بذرة ممتلئة حداثة وتطوراً، تؤذن وتبشر بقادم جديد، لقد تجاوز فيها البعد الفني والوسيلة التربوية الحديثة، وكانت سلاحا حديثا مؤثرا لمن يريد أن ينشر أفكاره على أسس حديثة. ولكن هذه البذرة الممتلئة لم تجد من يرعاها بعدما غادر عبدالعزيز الرشيد الكويت يجوب ديار المسلمين داعيا للفكر الجديد داعيا عن طريق التعليم وإصدار المجلات وإلقاء المحاضرات.

وكان على النشاط المسرحي أن ينتظر حتى أواخر الثلاثينيات لتبدأ حقبة جديدة متواصلة في عطائها.

 

 

سليمان الشطي