ناجي العلي

ناجي العلي

يوثق هذا الكتاب للمرحلة الأخيرة من حياة ناجي العلي (1985 - 1987)، وإذا جاز لبعض الباحثين أن يقسموا مراحل حياة الفنانين والمثقفين إلى ثلاث: مرحلة مبكرة ثم مرحلة نضج ثم مرحلة متأخرة، فإنه من المؤكد أن حياة ناجي في الفترة التي يتناولها الكتاب تمثل المرحلة المتأخرة، والتي بدأت من عام 1973.

أما المرحلة السابقة على ذلك في حياة ناجي العلي، والتي عاش خلالها مرحلة النضج، وكانت في دولة الكويت (1963 - 1973). ومن هنا يأتي احتفاء الكويت به.

ولد ناجي العلي في عام 1938 في فلسطين، ثم أجبر على الرحيل منها عام 1948 مع الآلاف من الفلسطينيين قبل حرب 1948. أي أنه كان طفلاً في سن العاشرة، ولهذا فعندما ابتكر ناجي العلي شخصيته الكاريكاتورية الأساسية واسمه «حنظلة» والتي تتصدّر أغلب رسوماته ويبدو فيها حنظلة عاقد اليدين خلف الظهر، جعله ولداً صغيراً سنه عشر سنوات أيضا. وقد أكّد ناجي العلي أن حنظلة قد ولد في العاشرة من عمره، وأنه سيظل دائماً في تلك السن، لأنها السن التي غادر فيها فلسطين، وحين يعود إلى فلسطين، فإنه سيبدأ في الكبر، وذلك لأن قوانين الطبيعة لا تنطبق عليه، لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء.

تعلّم ناجي العلي أصول مهنة الرسم على جدران السجون وهو صغير، حتى قبل أن يستكمل تعليمه بالأكاديمية اللبنانية للفنون في عام 1960. ولكن لحظة اكتشافه تمت على يد غسان كنفاني الذي تلقف بعض لوحاته ونشرها في عام 1963.

وقد رسم ناجي العلي العديد من أعماله الفنية البارزة في أثناء وجوده بدولة الكويت، حيث عمل في صحف كويتية عدة، وجاء ابتكاره لشخصية «حنظلة» في عام 1969 بالكويت أيضاً، حين اكتملت أهم مراحل تكوينه الفكري والفني، وكانت الكويت هي محل اختياره لإقامة معرضه الفني الأول عام 1985 بدعوة من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويتي.

شيّعت جنازته في عام 1987 في لندن، ولكنه حصل على جائزة «قلم الحرية الذهبي» من الاتحاد الدولي لناشري الصحف، ليعد أول عربي يحصل عليها، في عام 1988.

كان قلم ناجي العلي جريئاً لدرجة لا تعرف المهادنة مما أغضب الكثيرين وبينهم أقرب أصدقائه إليه، فعندما كان يسأم ممن حوله من السياسيين والمفكرين، ويشعر بأنهم فقدوا بوصلتهم، فإنه لم يكن يتورع عن تقريعهم، ولكنه كان يفعل ذلك كفنان وبطريقة فنية، أي باستخدام معادل موضوعي. المرأة الفلسطينية التي رسمها ناجي العلي أسماها «فاطمة»، وهي تدرك الأمور بحدسها وفهمها الأنثوي الذي لا يخطئ، بينما يرسم شخصية الرجل الفلسطيني وكأنه متعب، مجهد، تغيب عنه الحقيقة أحياناً، فلا يجد سوى زوجته فاطمة يستشيرها عندما يحتار. وغالبا ما تأتي كلمات فاطمة حاسمة، وكثيراً ما تناوله سلاحه أو تضمد جراحه، بينما تحمل على كتفيها أطفالها.

أغلب الشخصيات الفلسطينية قام ناجي برسمها حافية القدمين، وكأن ذلك دليلاً على الطهر والبراءة، فحتى المرأة الفلسطينية تسير حافية القدمين، ويتضح ذلك جلياً إذا ما قورن برسم ناجي لشخصية الجندي الإسرائيلي، حيث يرسمه يرتدي دوماً حذاءه العسكري الثقيل، وكذلك يرسم ناجي شخصية الفاسدين، مرتدين بزاتهم المدنية بكامل أناقتها، بينما تتدلى منها كروشهم الممتلئة لتزاحم رابطات أعناقهم، وكذلك ينتعلون أحذيتهم اللامعة الجلدية الفاخرة.

الفقر لدى ناجي العلي يعادل البراءة والطهارة، ويتجلى ذلك في شخصية الفلسطيني الذي يرسمه غالباً ذا ملابس ممزقة وقدمين متضخمتين من كثرة المشي حافياً.

حتى الطفلة الفلسطينية يرسمها ناجي العلي في أحيان مقطوعة الذراع، وكذلك الطفل كثيراً ما يرسمه مكسور الذراع أو ينزف دماً، وبالرغم من ذلك، تنطلق ذراعه المكسورة لتلتقط الحجر. أما الرجل الفلسطيني فقد رسمه ناجي العلي مقطوع الكفين جالساً أمام قارئة الكف الفلسطينية التي تفسر حالته وتقول: «أنت كنت إما كاتباً حراً أو كنت تحاول أن تسرق رغيف خبز لأولادك».

هكذا فالكاتب الحر، والفقير لهما سمات قريبة وعليهما تبعات متقاربة، وكأنه يقول لنا إن موطن الجمال ليس هو الهندام الناجم عن الثراء والتخمة، بل هو جمال الانتماء إلى الفقر شكلا وظرفاً، لكن مع الإبقاء على الأمل في التحرر بازغاً ومتقداً بالقول والفعل.

ولم يقتصر فن ناجي العلي على رسومات الكاريكاتير فقط، بل إنه ابتكر أيضاً فناً لإعادة اختراع الكلمات نفسها، فهو - مثلاً - يعيد كتابة كلمة (شعار) لتصبح (ش) و (عار).

ويعيد اختراع كلمة (دبلوماسي) لتصبح (دبلوماشي).

ويعيد اختراع كلمة (أمريكا) لتصبح (أم) (ريكا).

وكلمة (دويلات) يكتبها (دي ويلات).

وعبارة (إنعاش الاقتصاد) يعيد كتابتها لتصبح (إن عاش الاقتصاد!).

ويرسم فقيراً يقف إلى جوار غني في أحد المطاعم، وبينما ينظر الغني إلى قائمة مكتوب عليها (لائحة الأسعار)، فإن الفقير ينظر إلى قائمة مكتوب عليها (رائحة الأسعار).

وبدلاً من (صخرة سيزيف) الدالة على عبثية الوجود، يرسم ناجي العلي فقيراً فلسطينياً يدحرج (رغيف سيزيف)، وكأنه دليل على ما لا يتحقق أبداً.

بهذا يتضح أن كاريكاتير ناجي العلي لا يركز على الرسم وحده، ولا على الكلمات وحدها، بل هو يجمع بين الاثنين في مدرسة واحدة، وهو في هذا أقرب إلى المدرسة الأمريكية، منه إلى المدرسة الأوربية الشرقية - التي تعتمد على الشرح بالرسومات أكثر من الكلمات، أو المدرسة الأوربية الغربية التي تعتمد على العكس.

يوظف ناجي العلي لونين فقط هما الأبيض والأسود وحدهما مما يدلل على رؤيته للعالم في شكل صريح واضح لا تلوين فيه، فكأنه يخبرنا بأنه يعرف فقط نوعين من البشر: المظلومين والظالمين. أو أنه يعرف فقط نوعين من الأعمال: عمل تحرير وعمل استعمار.

ويكمن في هذا التبسيط سر نجاح الأيديولوجيا الفنية المنسجمة مع نفسها، التي أسسها ناجي العلي ومكّنته من اكتساب الشعبية الهائلة التي أتاحتها له أعماله أثناء حياته وحتى بعد وفاته.

 

 

 

 أمير الغندور