قضية: عالمية أم محلية؟ الطريق إلى الذات محمد الأسعد

كيف ينظر الفكر العربي للقضايا المطروحة عليه؟ هل يقسمها إلى قضايا محلية تافهة عليه أن يغفلها، وأخرى عالمية تستحق عناء المناقشة؟ أم أن المهم هو أن يكتشف الفكر العربي طريقه الخاص للنظر إلى كل القضايا بمعيار واحد؟

حتى وقت قريب لم يكن أحد يجرؤ على الانتقاص من مفهوم راسخ للعالمية مفاده أن هناك قضايا محددة وتجارب معينة يمكن أن توصف ب "العالمية"، وفي مقابل ذلك هنالك قضايا محددة وتجارب معينة يمكن أن توصف ب "المحلية". ومما كان يأخذه د. لويس عوض على الأدب العربي بإلحاح بشكل متواصل أنه قضى الشطر الأعظم من حياته المعاصرة في تداول قضايا لم تعد تهم أحدًا في العالم، قضايا تجاوزها الغرب منذ زمن طويل، وأن هذا الأدب لكي يصبح عالميا فما عليه إلا القفز على قضاياه هذه والالتفات إلى القضايا الكبرى.

الأمر نفسه، وإلى زمن قريب من زمننا هذا، كان كتاب الخمسينيات - أدباء ومفكرين ونقادا - يرون أن "العالمية" أو المعاصرة" تقتضي تداول أخص هموم الإنسان المعاصر مثل قلق الوجود في حضارة آلية، والتهديد النووي، وقضايا الحرب والسلام، وانقسام العالم إلى معسكرين.. وهكذا.

ما فوجئنا به، ومنذ وقت قريب أن اللهجة تغيرت، وأصبح حديث الكتاب عن منطلق جديد إلى العالمية: إنه التشبع بالخصوصية المحلية!

نجيب محفوظ والعالمية

لا جديد في الأمر إذا قلنا إن مناسبة هذه اللهجة كانت فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، وحرك هذا الفوز اللهجة الانقلابية بعد أن حار هؤلاء في تفسير الكيفية التي تحول فيها نجيب محفوظ إلى أديب "عالمي" وهو الذي لم يخط خارج حدود مصر لا ذهنيا ولا جسديا، ولاشغل نفسه بما يشغل به أنفسهم "العالميون" عادة.

لقد أصبحت "المحلية" و "الخصوصية" الطريق إلى العالمية، فهل تغير شيء في "ميكانيزم" هذا التفكير سواء في حالته الأولى أم في حالته الثانية؟

لم يتغير شيء. ففي كلتا الحالين ظل هناك وهم كبير يقيم منطقة في مكان ما اسمها "العالمية" وإن اختلف اقتراح طريق الوصول إليها من جيل إلى جيل حسب الظروف.

ثمة عالمية أو شيء ما يسمى بهذا الاسم. وقد ورثنا عن قرن مضى ميراثا ثقيلا حول هذه التسمية، تحول إلى نير ضاغط يشد على الأعناق لحراثة أرض من الوهم. وبداية هذا الميراث الثقيل ترجع إلى الزمن الذي بدا فيه (الآخر) - الغرب تحديدا - متفوقا في مجالات العلوم والتقنية والتنظيم العسكري والاقتصادي وتخطيط المدن وإنتاج السلع. وكانت كل مقارنة لما بين أيدي المجتمعات الغارقة في أوضاع القرون الماضية وبين ما في يد الغرب تظهر الهوة الواسعة والمسافة التي يجب قطعها للحاق بهذا الغرب.

وتصور كتاب ومفكرو "النهضة" أن تاريخ البشرية يسير وفق نظام القافلة الواحدة التي تمضي قدما إلى الأمام، وإذا انفصل جزء من القافلة لسبب من الأسباب عن "الركب" فما عليه إلا أن يحث السير ليلحق به مجددا، وبدون الغوص في تفاصيل الخلافات والسجالات المدوية ضد الملتحقين أو المتلاحقين، أو الذين رأوا أنفسهم مركز القافلة وجسمها الفعلي، يمكن ملاحظة أن وعي هذا التخلف عن الركب كان ساذجا، فهو غفوة أو سنة من النوم، وما إلى ذلك، وليس نتيجة طبيعية للعلاقة التي نشأت بين عوالم (الآخر) وعوالم (النحن) بكل ما في هذه العلاقة من تفاوت.

العالمية معيار كوني

لم تبق العالمية مجرد ميزة تخص المجتمعات الغربية فقط، بل أصبحت معيارا كونيا، إنها المعيار المطلق الذي تتطلع إليه البشرية، فحتى الغربي يجب أن يسعى ليكون عالميا بهذا المقياس رغم أنه وفق هذه المفاهيم ومنظومتها عالمي بطبيعته.

في الجانب الآخر غذت نظم "المركزية الأوربية" هذا التيار المحلي لدى كتاب ومفكرين وأدباء بدأوا قراءاتهم في الغرب باللهجة الغربية نفسها، بدون إحساس بالمفارقة. فحين يتحدث الفيلسوف الغربي عن مشكلات العصر فهو يعني تحديدا مشكلات دائرة حضارية غربية، ولا يخطر بباله أن يدرج مشكلات عالم مثل عالمنا يعتبره على هامش التاريخ ضمن هذه المعضلات.

ويبدو أن سوء الفهم لهذه النقطة هو الذي فتح الطريق إلى اعتبار كل ما يتداوله الفكر الغربي من قضايا هو الجدير بصفة العالمية، حتى وإن كان الأمر يتعلق بسفاح "يوركشاير"، فحتى السفاح الغربي يجب أن يكون عالميا. وإن أقيم مهرجان في بقعة جغرافية أوربية صار مهرجانا عالميا بالمعنى نفسه، وإن شارك غربيون في مهرجان على أرض عربية صار المهرجان عالميا، وامتد الأمر إلى اللغات أيضا، فترجمة أحدهم إلى اللغة الألمانية مثلا تجعله كاتبا عالميا، وإصدار طبعة لمؤلف في اللغة اليوغسلافية، تجعل صاحبه عالميا فورا.

بهذه الميكانيكية أقيمت منطقة الوهم، ولا تعني "العالمية" المتداولة في العربية تجمعًا من جنسيات مختلفة على أمر من الأمور، بل تجمعا غربيا تحديدا، حتى أن الممثل العربي الذي يشارك في تمثيل أفلام غربية يصبح عالميا، ولا نعرف لغة أخرى تحظى فيها هذه الكلمة بطاقة سحرية كما حظيت بها في لغتنا العربية، فالعالمية حكم قيمة وليست حكما وصفيا فقط، حتى أصبح هذا اللقب يرادف المديح والاستحسان، وليس العكس كما كان الأمر في الماضي، حين كانت لفظة (الآخر) تعني ما هو مستهجن ومستقبح.

وولد هذا الوضع المفاهيمي قيما ومعايير ما زالت تطبع بطوابعها الكثير من الأحكام التي يتداولها النقاد. وسواء ظل هؤلاء على إيمانهم بالفصل بين ما هو (عالمي) أي عظيم وما هو (محلي) أي تافه، أم انتقلوا مرغمين إلى تمجيد "المحلية" والخصوصية، فإن العقلية التي تتحكم فيها مازالت واحدة، إنها عقلية الدوائر المنفصلة: دائرة العالمية وتقع فيها منتجات الغرب، ودائرة المحلية ويقع فيها كل ما يرفضه الغرب ويحكم عليه باللاعالمية، أي باللاقيمة. وفور أن يأخذ الغرب "المحلية" ويحتضنها تصبح "عالمية"، أي ذات قيمة. أما قبل ذلك، أي قبل أن يضيئها الحكم الغربي فهو مادة مهملة لا ملامح لها. وهكذا فإن أديبا مثل نجيب محفوظ يعيش نصف قرن من الكتابة ولا يخطر ببال أحد من دارسيه أن يدرسه كأديب إنساني، إلا حين تقرر لجنة سويدية منحه جائزة نوبل للآداب. وعندها فقط تتكشف للدارسين الجهابذة أسرار فنه التي ما عرفوها.

ويكتنف اللغو كل شيء، فيبحث الباحثون عما تميز به محفوظ وجعله عالميًا، وكأنه شخص اكتسب (هوية) ما فجأة، فصار لزاما معرفة الأسس التي أخذ بموجبها هذه (الهوية).

السؤال الجوهري: هل هناك هوية اسمها العالمية؟ إن هوية الآداب والأفكار ترجع إلى الدوائر الحضارية، قبل كل شيء، ولا توجد حتى الآن دائرة حضارية اسمها العالمية. هناك الحضارة الغربية المسيطرة الآن، وهناك بقايا الحضارات القديمة التي لفظت أنفاسها، أو مشروعات يصفها أصحابها باسم (المشروعات الحضارية) ولكن التضاد بين المجالات الحضارية، سواء كانت مندثرة أم قائمة لا يكاد يوجد إلا في الوهم، ذلك لأن ما هو منتج حضاري في نطاق الفكر تظل له صفته الإنسانية العامة، أي أن الإحساس بقيمته يتجاوز اللغة التي كتب فيها، وجنسية الشعب الذي أنتجه، فهو عالمي بهذا المعنى فقط، وليس بالمعنى الذي يبتكره البعض للفصل بين "قضايا محلية" و "قضايا عالمية"، أو بالمعنى الذي يراه البعض في اختراع مجردات من الأفكار يعتقد أنها وحدها التي تحظى بصفة الإنسانية، بينما غيرها ليس له نصيب.

كان المعتقد في الثلاثينيات والأربعينيات مثلاً، أن قمة تطور الفكر وصلت إلى الأفكار القومية التي أفرزتها أحزاب أوربية ومفكرون أوربيون، وتغذت على تقسيم الأجناس البشرية بين جنس (آري) متفوق وعلماني، وجنس (سامي) خيالي المعتقد، ذي شطحات خرافية. وتغلغلت هذه الأفكار في كتابات الكتاب العرب الذين حللوا وفسروا غوامض الأمور الإبداعية بالفروق بين الأجناس، مثل عباس محمود العقاد، وأبي القاسم الشابي في كتابه (الخيال عند العرب).

وحين انكفأت هذه الأفكار جاءت قضايا الفلسفة الوجودية لتصبح قمة التطور الفكري ولتتغلغل مقولاتها في النقد العربي طوال الخمسينيات والستينيات، كما هو الأمر لدى مطاع صفدي وجملة من الكتاب. ولم يكن حظ السريالية بأقل من ذلك، ولاحظ التحليلات الماركسية ثم البنيوية، فأطروحات هربرت ماركيوز عن الإنسان ذي البعد الواحد، وتنظيرات جارودي الذي شق طريقًا للخلاص من وضعية استحالة الثورة الاجتماعية.. إلخ

إنها طبخة يعجز أذكى الشحاذين عن جمعها في جرابه، ومع ذلك فقد اجتمعت في جراب الفكر العربي، هذا إن سميناه فكرا تجاوزا، وتغلغلت بكل تناقضاتها ولامعناها في سياق الحياة الكتابية العربية، ومازالت تشغل هذا وذاك من الكتاب.

الهاجس الكامن وراء هذا التجميع طوال أكثر من قرن هو هاجس المشابهة، مشابهة العالمي أو مشاكلته. والعالمي هو الغربي تحديدًا، وهاجس اللحاق بالقافلة والركب. ولم نعدم واحدا من الذين عادوا إلى بيوتهم مساء، وطرحوا ما يحتويه هذا الجراب العجيب، فوقف متأملا ناقما وكارها لنفسه ولأمته التي لم تجد لها من دور في هذا العصر غير تجميع أفكار الآخرين.

هل نمتلك أسلوبا مميزا للحياة؟

لقد التبس علينا الأمر منذ مائة عام تقريبا، وأحدث مفهوم العالمية والقضايا الإنسانية المجردة قطيعة بين المفكر والكاتب والأديب بين موضوع إبداعه الأساسي حين تخيل العالمية والإنسانية لا تشتمل، إلا على موضوعات محددة بمزاج الفكر الغربي، فأصبحت طبيعة بلاده بما فيها من أنهار وجبال وأناس ليست مما يرغب فيه، بل مما يرغب عنه. وأصبح موروثه سواء كان في المكتبات أم السلوك شيئا يستدعي الهرب منه لا الاقتراب منه. وتداولت أجيال من الكتاب والمفكرين والأدباء موضوعات مجردة، ليس لها قرينة مضمونية في واقعها المعيش بحجة التجاوز والقطيعة والتجدد والعالمية.

ويعود الآن كل شيء تقريبا إلى أصله، وتتبدد نظريات وهلوسات، وتنكشف الممارسة الفكرية طوال السنوات الماضية عن خواء عجيب، فلم تكن الممارسة عاجزة فقط عن صناعة وتثبيت مفاهيم تربوية فقط، به وعاجزة عن تغذية الأجيال اللاحقة وعن إقرار قيم أساسية وأساليب حياة.

ومن هو ذلك الذي يجرؤ الآن على التفكير بنزاهة والإقرار بأننا لا نمتلك حتى أسلوب حياة مميزاً، ناهيك عن أسلوب فكر ذي قيمة؟

ليس الضلال وحده هو ما يورث هذا الخواء، ولا هي جناية التخليف المتواصل، بل هو حقيقة أن أحدا لم يقف مع النزاهة حتى النهاية في أمور حياته، وإذا كان صحيحا أن مفكري النهضة لم يقدموا غير خدمات تافهة للجموع الشعبية في بحثهم عن الحرية والعدالة والمساواة وما إلى ذلك، فإن مفكري هذا الزمن يتكسبون من إظهار كراهية لهذه الجموع والحط من قيمتها، فيما هم يتراكضون نحو وهم العالمية والأمجاد التي يحلمون بها من عاصمة إلى أخرى ومن مترجم إلى آخر، بل إن بعضهم أقام خيمته هناك وربط فرسه في مدريد أو باريس وجلس ينتظر هبة "العالمية".

هل يمكن القول بأن اختراع وهم العالمية كان بسبب هذا الموقف الأساسي، أي بسبب الموقف التبعي للثقافة العربية؟ ستلفت نظرنا هذه الواقعة الظاهرة الآن حين نشاهد اهتماما بالثقافة الشعبية والموروثات والطابع المحلي للثقافات، ونكتشف أن هذا الاهتمام بهذه المادة التي رفضت طوال السنوات الماضية، إنما جاء بسبب أن الباحثين الغربيين من أنثربولوجيين وأدباء وعلماء لغات قد جعلوا من هذه المادة موضوع بحثهم. فأصبح أصحابنا يتقربون لهم بهذه المادة لا لأي سبب آخر. وسيلتفت الروائي العربي إلى تاريخ شعبه وذاكرته ليجتذب اهتمام النقاد الغربيين الذين أعطوا أهمية كبيرة لكتاب أمريكا اللاتينية بسبب نكهة أدبهم المحلية كما يقولون، وسيلتفت الشعراء إلى التصوف لمعرفتهم أن هذا الموروث هو ما يهم المستشرقين والمستعربين على السواء.

حتى في تدبر الطريق السليم لابد من بوصلة تأتي من هناك، وإشارة. فكم هو شاق إذن الطريق إلى الذات؟